جـورج بهجوري.. عاشـق فن الكـولاج

صابر خليل

انتشر فن «الكولاج» حديثاً بين الفنانين المصريين كما لو كان أسلوباً تعبيرياً وليس ضرباً من حيل الصنعة. و«كولاج» كلمة أجنبية اتخذت صفة الاصطلاح، ومعناها اللصق، لصق أي شيء على أي سطح، سواء كان قماشاً أو ورقاً أو أي سطح آخر. ويرجع الفضل في اكتشاف طريقة الكولاج إلى أصحاب الفن التكعيبي سنة 1908 وإلى الفنانين المتمردين سنة 1916 – المعروفين بـ«الدادائيين»، فالرسام: جورج براك (1982-1863) وزميله: بابلو بيكاسو (1973-1881)، استخدما الكولاج في رسم الطبيعة الصامتة بالأسلوب التكعيبي، ليس لمجرد الزخرفة، بل للمزيد من الإثارة البصرية، المستمدة من التباين أو التوافق، بين المسطح المرسوم والعناصر الحقيقية الملصقة عليه. أما الدادائيون فتوسعوا في فكرة الكولاج ولصقوا أشياء متناقضة كيفما شاءوا، مما أسفر عن تأثيرات مدهشة وغريبة. إلا أن الكولاج كان له هدف آخر مع الفنان التشكيلي «جورج بهجوري».


أسلوب جديد:

كان أسلوب بهجوري الجديد يوظف الكولاج في تشكيل موضوعات، تلعب فيها الصدفة دوراً حاسماً، لكنها صدفة محسوبة الاحتمالات، وفق الأسلوب الذي ينطوي على حرية مقيدة، ويخلط بين التقاليد الأكاديمية ممثلة في العناصر التشخيصية والمعايير المستحدثة ممثلة في الموقف الجمالي والشكل من أجل الشكل، بالإضافة إلى مهارة الأداء.
وُلد جورج بهجوري في 13 ديسمبر عام 1932 لأسرة متوسطة، يعمل عائلها في تدريس اللغة الإنجليزية، عاشت ما بين الأقصر والمنوفية والقاهرة. هذا التنقل والترحال ومعايشة الناس جعلت ابنها الثالث في الترتيب العائلي «جورج» يطلق لخياله العنان في رحلته في صباه من صعيد مصر إلى الدلتا إلى القاهرة، فيقدم وعبر مئات اللوحات الكاريكاتيرية والتشكيلية معاً تجسيدات بديعة لأبناء شعبه وللتراث المصري وللفولكلور، وتشكل المقاهي ولعبة الطاولة والطقوس الشعبية خاصة الموالد والأعياد الشعبية والدينية، جزءاً لا يتجزأ من هذه اللوحات التي قدمها بهجوري طوال سبعة عقود، من اللعب والمرح بالألوان والوجوه.
 

أعماله:

أعمال بهجوري القديمة والحديثة نابعة من الحياة اليومية المصرية، من حياة الناس وذكريات الطفولة في بلدة بهجورة مسقط رأسه، والعمال وجلساء المقهى وأولاد الحارة الذين كانوا الموضوع المفضل لبواكير أعماله. وإذا كان قد تخلى عن التركيب الروائي في لوحاته الكولاجية واتجه إلى التكوين الاستاطيقي، تمشياً مع الكثيرين من فناني أوروبا في السنوات الختامية من القرن العشرين، فقد احتفظ بعناصر أولاد الحارة وأعماق المدينة المصرية، مما أضفى على إبداعه هوية محلية في قالب درامي يتوافق مع ثقافة العصر، ويكشف عن مأساة الإنسان في لغة سهلة أقرب إلى الفن الشعبي، يمكن إدراكها وتلقي رسالتها في العالم، فهو يمزج بين التشخيص والتجريد في تشكيل مبتكر ويقدم تراكيب محملة بمضامين إنسانية. واعتمدت التكوينات الاستاطيقية على الشكل واللون والملمس، لكنه لم يتخلّ عن العنصر التشخيصي وحقق المعادلة الصعبة. وفي مداخله الإبداعية يهمل المعايير التقليدية ويطرح أخرى، يغض الطرف عن التكوين المتماسك، ويعوضه بتآلف العناصر الملصقة والضربات اللونية المجردة، ثم باللون الشفيف العام الذي يكسو السطح كله في نهاية المطاف حتى تبدو اللوحة كأنها جدار قديم، كما لا يعنى بقوانين المنظور والظل والنور، فاللون الترابي الذي يكسو اللوحة بعد الكولاج، يكاد يحولها إلى لون واحد (مونوكروم) يميل إلى الأصفر الرملي، تدخل فيه الألوان الأخرى على استحياء.
 


 


الخط التعبيري:

الخط عند «جورج بهجوري» له مكانة تعبيرية خاصة تفسر بروزه في الكاريكاتير الذي يعتمد كلياً على الخط بأنواعه، كما يفسر أسلوبه التعبيري في الرسم الزيتي في أعماله الحالية أو الباكرة، الأسلوب المتسم بالمبالغة في النسب والأطراف والألوان والتحوير والتشويه. والعلاقة وثيقة بين الكاريكاتير وأسلوب الرسم الملون المعروف بـ (التعبيرية الاجتماعية) الذي أرسى قواعده الألماني ماكس بيكمان (1952-1884) فطارده أدولف هتلر بسبب موضوعاته الساخرة الانتقادية اللاذعة واضطره إلى الهروب.
البصمة التي تميز لوحات جورج بهجوري على اختلاف أساليبها هي الوجوه ذات العيون الكحيلة المحملقة في دهشة التي تسترجع بقوة عيون «وجوه الفيوم» التي كانت ترسم على توابيت الموتى.
العيون عنده من أهم ركائز التشكيل، يبدأ بها الرسم والتلوين واضعاً نقطة في فراغ اللوحة، يدور حولها ليشكل العين ثم باقي الوجه والعناصر الأخرى. والبصمة الثانية في أعمال جورج هي الطابع الشعبي المصري، سواء في رسومه الكاريكاتيرية أو لوحاته الملونة.
الوجوه والأشخاص والحيوانات في لوحاته والأشياء والأشجار، لها طابع شرقي شعبي مصري، طابع تشربه بعيون نهمة تطلعت بشغف إلى كل شيء منذ الطفولة. تأمله بإعجاب وازدادت هويته تبلوراً، بعد تعلقه بالفن القبطي والفرعوني واختلاطه بالناس ورصد الحياة اليومية والعادات والتقاليد.
نضجت أعماله بهويتها، حتى بعد إقامته في فرنسا ما ينوف على الثلاثة عشر عاماً، نستشفها من عناصره الكولاجية والموضوعات التي تتألف من مفرداتها المتفرقة، وأسلوب التشكيل ومعالجة التكوين، أما الحيوية الدافقة التي تغمر أعمال بهجوري فيكمن سرها في التخطيطات «اسكتشات» التي رسمها وما زال يرسمها كلما سنحت الفرصة، للحقول والفلاحين وسواقيهم وحيواناتهم والطيور، وما يعترض طريقه في كل مكان. يعيش معها حين يركن إلى مرسمه في إحدى ضواحي فرنسا كأنها الحبل السري يربطه بالأرض والأم.
هاجر بهجوري إلى فرنسا، لكنه أخذ القاهرة معه وبهجورة ومدارج الطفولة والشباب؛ إذ إن الحنين إلى الأم هو البطل في إبداعه. ولكي يدعم أواصر التراث والماضي والذكريات، استخدم أوراقاً يابانية من سيقان الأرز تشبه أوراق البردي، رسم عليها بألوان جدية تختلط بالألياف وتتخلل المسام، ثم يمحوها لتصبح كالحائط القديم المرسوم بطريقة الفريسك.

ما زال يعيش «جورج بهجوري» مع ساكني حي الحسين والأزهر وخان الخليلي والعتبة ومعروف بالقاهرة. وكان أخذ مصر معه إلى فرنسا، لكنه سجل في رسوماته التخطيطية مظاهر الحياة في أحياء باريس، وفي كل بلد رحل إليه. لذلك لم يسقط في وهدة العبث التجريدي بالرغم من حداثة أسلوبه ومعاييره المبتكرة، فهو يعيش مع الطبيعة والحياة والواقع، يرسم ويلون لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 246 (صفحة 129)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها