الفرجة الشعبية العربية .. بين المسـرح واللا مسـرح

طارق العلوي الحسني

لعله من البديهي القول إن لكل مجتمع عاداته وتقاليده الخاصة، التي تعبّر عن رؤيته لنفسه أولاً، وللعالم الذي يعيش داخله ثانياً، وبذلك تنوعت هذه العادات واختلفت بقدر تنوع الشعوب واختلافها، فـ «الإنسان بطبعه وتاريخه وجذوره الحضارية هو إنسان احتفالي»(1)، يميل إلى تصوير حياته من خلال مجموعة من اللوحات التعبيرية متوسلاً بذلك الاحتفال الشعبي الذي «يتم بكل لغات الجسد»(2).

هذا وقد حافظ الفن – الشعبي خاصة – على عادات المجتمعات البشرية وتقاليدها، وكان مرآة عاكسة لحياتها، كما كان بمثابة ذاكرة الإنسانية التي تحفظ أهم الأحداث التاريخية، والطقوس التعبدية المختلفة التي أفلتت، لسبب من الأسباب، من التدوين في كتابات المؤرخين؛ فالإنسان بحاجة دائمة إلى التواصل مع الآخر المنتمي إلى جماعته، من جهة، ومن جهة ثانية هو بحاجة إلى التواصل مع أعضاء الجماعات البشرية الأخرى، «وهذا التواصل يتم أساساً من خلال الإبداع، وإعادة الإبداع التي يقوم بها الإنسان معبراً عن المجموعة المتجانسة التي يرتبط بها، وعن سماتها الجمعية، كما أن هذا التواصل يتم عن طريق المشاركة، والمشابهة، في مجموعة من أنماط السلوك الجمعية، التي يحقق من خلالها الإنسان انتماءه إلى الجماعة وارتباطه بها»(3).

ولهذا السبب بالذات آمن الكثير من الأنثروبولوجيين بأن الفن يعتبر أحد أهم مظاهر التحضر، ووجهاً بارزاً من وجوه الحضارة، حيث تعددت الفنون شكلاً وأسلوباً، وعبّر الفنانون عن كل مناحي الحياة لدى مختلف الشعوب، سواء «البدائية» منها أو «المتحضرة»، لأن الفنان مرتبط إرادياً بالمجتمع الذي يعيش داخله، بما أنه اختار أن يكون المُعَبِّر عن آمال مجتمعه وآلامه في الآن نفسه.

والمجتمعات العربية هي الأخرى لم تحد عن هذه القاعدة، بل إنها عرفت أنماطاً فنية كثيرة احتلت فيها الفرجة مكانة جدّ متميزة. ووجدنا من الواجب الانطلاق أولاً من تحديد المفاهيم الأساسية التي ستكون بمثابة المفاتيح التي تمكّن من فتح مستغلقات هذا العمل المتواضع، فطرحنا جملة من الأسئلة، من قبيل: ما الفرجة؟ وما المقصود بنعتها بالشعبية؟ وهل يمكن اعتبارها «مسرحاً شعبياً»؟ وما الدوافع التي كانت وراء ظهورها؟ وما القواسم المشتركة بينها؟ ومن ثم هل يمكن أن تكون أصل المسرح العربي؟

 

علاقـة الفرجة بالمسـرح:

لعله من نافلة القول إن المسرح جنس أدبي، بمفهومه الإيطالي، لم يدخل عالمنا العربي إلا في فترة زمنية جدّ متأخرة، مقارنة مع غيره من الفنون الأخرى، وذلك عن طريق المثاقفة بعد ما تم ذلك الاحتكاك المباشر مع الغرب، إذ إنه لم يصلنا «بمفهومه الحالي إلا مع الحملة الاستعمارية الأوروبية خلال القرن التاسع عشر»(4).

معنى كلمة «مسرح» كفن له قواعده وضوابطه لا نجدها إلا في القواميس المتأخرة، خاصة أنها تلتقي فيما بينها في الدلالة: إما على الجنس الأدبي المعروف لدينا، و/أو على مكان العرض المسرحي(الركح)، وعلى فعل التمثيل؛ لكن ما يزيد من صعوبة تعريف المصطلح تعريفاً دقيقاً ومتفقاً عليه تماماً، هو ما ذهب إليه «محمد الرميحي» عندما اعتبر أن «المسرح بالمعنى الواسع للكلمة شكل من أشكال التعبير عن المشاعر والأفكار والأحاسيس البشرية، ووسيلته في ذلك (فن) الكلام، و(فن) الحركة، مع الاستعانة بمؤثرات أخرى كالرسم والديكور والإضاءة والملابس والمكياج. وعلى الرغم من الكتابات والمؤلفات الكثيرة حول المسرح في كل اللغات، فإنه لا يوجد تعريف شامل تام يمكن الاطمئنان إليه وقبوله حول المسرح، فالمسرح تعريفاً: اجتهاد يقبل النقاش، وله أكثر من تصور»(5)، ففي هذا الرأي تأكيد على صعوبة تحديد هذا المصطلح بشكل دقيق على اعتبار تداخل مجموعة من العناصر فيه، الأمر الذي يجعل مسألة تعريفه رهينة الاجتهادات المختلفة المعبرة عن وجهات نظر من يجتهدها.  

هذا ويجب أن نؤكد على أن التمثيل يعتبر «المكون الأكثر أهمية في الإنجاز المسرحي، فإذا كان الفضاء بمختلف أشكال تأثيثه ومكوناته ينتج الحيز المادي للعرض، والإطار الذي تنتظم ضمنه العناصر السمعية البصرية التي تساهم في تشكيلها الأدوات التقنية، فإن مفهوم العرض لا يتحقق إلا بوجود الذات/الذوات التي تخترق هذا الفضاء ومختلف المكونات التي تشكله، إنه عنصر التمثيل، فلا يمكن أن تكون فرجة مسرحية في غياب التمثيل، وما ينتجه من حركات Actions وتحركات Mouvements وإشارات Gestuelles، (...)، وكل هذا يؤكد بالملموس مركزية التمثيل والممثل في العملية المسرحية»(6)، فالتشخيص أو التمثيل، على هذا الأساس، يعتبر جوهر عملية التواصل المسرحي بين مختلف مكونات العرض الممسرح، بما أن الوسيط في هذه العملية التواصلية هو الممثل الذي يقوم بتشخيص الأدوار المختلفة أمام جمهور معين لتحقيق الهدف من النص المسرحي تطهيراً و/أو تحريضاً فيحقق بذلك المطلوب منه.

 

المسـرح فـي الثقافـة العربيـة:

لقد عرفت الساحة النقدية العربية سجالاً نقدياً كبيراً حاول مقاربة مسألة وجود المسرح بالبلاد العربية من عدمه، حيث ذهبت أغلب الآراء إلى أن العرب لم يتعرفوا إلى المسرح لعدة أسباب بيئية، حضارية، وثقافية، ثم لفهمهم الخاطئ للتراجيديا.

تؤكد جلّ هذه الآراء على أن «المسرح العربي ولد وتطور غريباً عن المجتمع العربي نفسه، وما هو إلا تقليد للشكل الغربي»(7)، إذ يمكن اعتبار المسرح العربي  كما «قال الرائد الأول «مارون النقاش» في خطبة تقديمه لأول نص مسرحي، يقدم ذهباً إفرنجياً مسبوكاً عربياً»(8)، فالأصل فيه منشؤه الغربي وما العرب إلا مستوردون له لا مبدعين.

لكننا نعتقد أن هذا الرأي النقدي يفتقر إلى الصلابة والقوة، فهو في نظرنا لا يصمد أمام ما تختزنه الذاكرة الإبداعية العربية من ظواهر تمثيلية تتجلى في مجموعة من الممارسات الدينية والاجتماعية، خاصة أننا نجد في الشعر الجاهلي مجموعة من العناصر المسرحية المباشرة من قبيل: الحوار، الشخوص، الفضاء (الزمان والمكان)، الحركة، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كل هذه العناصر نجدها في معلقة «امرئ القيس» التي جاء فيها:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل          بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعفُ رسمها             لما نسجتها من جنوب وشمأل

ترى بعر الأرآم في عرصاتها                        وقيعانها كأنه حب فلفل

كأني غداة البين يوم تحمّلوا              لدى سمرات الحي ناقف حنظل

وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم                 يقولون لا تهلك أسىً وتجمَّل

وإنّ شفائي عبرة مهراقة                    فهل عند رسمٍ دارسٍ من معوّل

كدأبك من أم الحويرث قبلها                     وجارتها أم الرباب بمأسل

إذا قامتا تضوّع المسك منهما           نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل

ففاضت دموع العين مني صبابة    على النحر حتى بلَّ دمعي محملي

ألا رُبَّ يومٍ لك مُنْهُنَّ صالح                        ولا سيما يوم بدارة جلجل

ويوم عقرت للعذارى مطيتي                   فيا عجباً من كورها المتحمل

فظل العذارى يرتمين بلحمها                وشحم كهُدّابِ الدِّمَقْسِ المفتل

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة               فقالت لك الويلات إنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معاً          عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه                 ولا تبعديني من جناك المعلل

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع               فألهيتها عن ذي تمائم محْوِل

 

بل إننا نجد حتى ذلك النفس الدرامي والصراع من خلال تصوير مبارزات الشعراء/الخصوم فيما بينهم، وكذا عمليات الكرّ والفرّ في ساحات المعارك المستعرة، وهو ما يتبدى في معلقة «عمرو بن كلثوم» في الأبيات الآتية:

أبا هندٍ فلا تعجل علينا                         وانظرنا نخبرك اليقينا

بأنا نورد الرايات بيضاً                     ونصدرهن حمراً قد روينا

وأيام لنا غرّ طوال                           عصينا الملك فيها أن ندينا

وسيد معشر قد توجوه                   بتاج الملك يحمي المحجرينا

تركنا الخيل عاكفة عليه                   مقلدة أعنتها صفونا

وأنزلنا البيوت بذي طلوح      إلى الشامات تنفي الموعدينا

وقد هرّت كلاب الحيّ منا               وشذبنا قتادة من يلينا

متى ننقل إلى قوم رحانا         يكونوا في اللقاء لها طحينا

يكون ثفالها شرقي نجد              ولهوتها قضاعة أجمعينا

نزلتم منزل الأضياف منا         فأعجلنا القرى أن تشتمونا

قريناكم فعجلنا قراكم               قبيل الصبح مرداة طحونا

نعمُّ أناسنا ونعفّ عنهم                 ونحمل عنهم ما حملونا

نطاعن ما تراخى الناس عنا   ونضرب بالسيوف إذا غشينا

بسمر من قنا الخطي لدن             ذوابل أو ببيض يختلينا

كأن جماجم الأبطال فيها              وسوق بالأماعز يرتمينا

نشق بها رؤوس القوم شقّاً           ونختلب الرقاب فتختلينا

وإن الضغن بعد الضغن يبدو     عليك ويُخرج الداء الدفينا

ورثنا المجد قد علمت معدّ              نطاعن دونه حتى يبينا

ونحن إذا عماد الحي خرَّت     عن الأحفاض نمنع من يلينا

نَجُذُّ رؤوسهم في غير بر                فما يدرون ماذا يتقونا

كأن سيوفنا منا ومنهم                   مخاريق بأيدي لاعبينا

كأن ثيابنا منا ومنهم                  خُضِبْن بأرجوان أو طُلينا 

إذا ما عَيَّ بالْإِسْنَافِ حيّ         من الهول المشبه أن يكونا

 

كما يؤكد التاريخ الإسلامي بأن قصور الخلفاء، خاصة في العصرين الأموي والعباسي، قد كانت فضاء لاستقبال مجموعة من المجالس الترفيهية القائمة على الموسيقى والألعاب والحركات الساخرة، فهذا «الخليفة المتوكل» الذي كان «يكن ودّاً خاصاً لجماعة من الممثلين الهزليين، أطلق عليهم اسم: «السمَّاجة» بتشديد الميم. وهم قوم يحاكون حركات بعض الناس ويمثلونهم في مظاهر مضحكة إيناساً للناس. وتصادف أن دخل إسحاق بن إبراهيم، على المتوكل يوم نوروز، فوجد هؤلاء السمّاجة بين يديه، وقد قربوا منه لِلَقْطِ الدراهم التي تنثر عليهم، وجذبوا ذيل المتوكل»(9).

قد نسلّم بالقول إن المسرح بمفهومه الحديث غربي المنشأ بامتياز، إلا أن ذلك لا ينفي وجود بذور مسرحية كثيرة كانت مبثوثة في التربة العربية منذ القدم، إذ لا مراء، من «أن الإنسان ممثلاً كان أو مشاهداً يحمل حباً غريزياً للتمثيل، وأن هذه الممارسة التعبيرية حاجة من حاجياته النفسية والاجتماعية»(10)، فبواسطته كان الإنسان العربي، كغيره، منذ القدم يعبّر عن تطلعاته وعن أحلامه، بل إنه شكّل بالنسبة إليه الوسيلة المثلى لممارسة طقوسه المختلفة التي تكرس، بشكل أو بآخر، نظرته للوجود. 

ولعل هذا بالضبط ما تؤكده هذه الوثيقة/ الشكوى المرفوعة «إلى شيخ اسمه عمر البلقيني من أن أهل حي بركة الرطيلي يجهرون ببعض المنكرات، فهم يقيمون مهرجاناً يستأذنون خلاله في إقامة حفل عرس لبركة الرطيلي يزوجونها فيه بالخليج الناصري. فهم يخطبون خطبة ويعقدون عقد التزويج ويرمون الحلوى والحناء وغير ذلك في البركة المذكورة، ويجتمع عند ذلك من الأوباش وغيرهم خلق كثير. وتخرج النساء كاشفات الوجوه، وتبرز النساء اللواتي في الطاقات والزربيات كلهن بارزات بما عليهن من الحلي وفيهن فاسدات وغير فاسدات.

ثم إنهم يعلقون قناديل ويوقدونها في الليل، ويخرجون خرقاً فيها دم يشبهون به دم البكر، ويلبسون الخاطب خلعة، وبهذا يتم – طقوسياً – تزويج بركة الرطيلي بالخليج!»(11)، فسكان هذا الحي يمارسون طقوسهم ومعتقداتهم من خلال التمثيل.

بل وأكثر من هذا وجدنا «الفنان المطبوع الشاعر الماجن: محمد جمال الدين بن دانيال»، الذي ترك العراق إلى مصر أيام سلاطين المماليك، أي قبل التاريخ المتفق عليه كبداية رسمية للمسرح العربي بحوالي ستة قرون، وجدناه يوجه رسالة إلى صديق له يرشده فيها ببعض الإرشادات المسرحية/السينوغرافية حتى يتسنى له تقديم لوحات فرجة/مسرح خيال الظل، وهي الإرشادات التي يستعمل فيها كلمة «مسرح» بمنطوقها ودلالتها، ويقول فيها: «هيئ الشخوص، ورتبها واجل ستارة المسرح بالشمع، ثم اعرض عملك على الجمهور وقد أعددته نفسياً لتقبل عملك: بثثت فيه روح الانتماء إلى العرض وجعلته يشعر بأنه في خلوة معك.

فإذا ما فعلت هذا فستجد نتيجة تسر خاطرك حقّاً: ستجد العرض الظلي وقد استوى أمامك بديع المثال يفوق بالحقيقة المنبعثة من واقع التجسيد ما كنت قد تخيلته له قبل التنفيذ»(12)، إذن ومن خلال ما تقدم ألا يمكن اعتبار هذه الإرشادات بمثابة تنظير مسرحي حقيقي؟ ومن ثم ألا يمكن أن تدحض، كلية، الرأي الذي ينفي تعرف العرب إلى المسرح قبل منتصف القرن التاسع عشر؟ 

ويمكن أن ندعم رأينا هذا، أكثر، من خلال سردنا لما قاله «الجاحظ» في وصفه لبعض المقلدين/الممثلين في زمانه، والذي جاء فيه «نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان أهل اليمن مع مخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئاً. وكذلك تكون حكايته للخراساني والأهوازي والزنجي والسندي والأحباش وغير ذلك. نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم. فإذا حكى كلامه الفأفاء فكأنما قد جمعت كل طرفة في فأفاء في الأرض في لسان واحد. وتجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه لا تكاد تجد في ألف أعمى واحداً يجمع ذلك كله، فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان في أعمى واحد. ولقد كان أبو دبوجة الزنجي مولى آل زياد يقف بباب الكرخ بحضرة المكارين فينهق، فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بهير إلا نهق، وقبل ذلك تسمع الحمير نهيق الحمار على الحقيقة فلا تنبعث لذلك، ولا يتحرك منها حتى كان أبو دبوجة فيحركها. وقد كان جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق واحد. وكذلك كان في نباح الكلاب»(13)، هكذا إذن صور الجاحظ فعل المحاكاة الذي مارسه بعض الممثلين في زمانه، وأكد على مهارتهم العجيبة في ذلك إلى درجة أنهم كانوا يتقمصون أدوار من/ما يقلدونهم على نحو غير عادي بشكل جعلت تأثيرهم يتجاوز البشر ليصيب حتى الحيوانات.

إن الأمثلة على وجود مجموعة من الممارسات التمثيلية في الثقافة العربية كثيرة جداً، فيها ما يكفي من الأدلة على انتشار الفرجات الممسرحة أو التمثيلية في عالمنا العربي، لكننا نعتقد أنه حان الوقت لكي نخرج مما سنسميه تجاوزاً «عقدتي»: «تضخم الأنا» و«تقديس الآخر»؛ حيث تدفع الأولى بعض مثقفينا إلى ادعاء السبق العربي في كل المجالات، بينما تدفع الثانية بعضهم الآخر إلى تبخيس كل جهد عربي مقابل الإعلاء من قيمة ما يبدعه الآخر.

تأسيساً على ما سبق يمكننا القول إن التمثيل خلق مع الإنسان، كما يمكننا الذهاب إلى أن ممارسة البشر لهذا الفعل كانت في البداية حاجة حياتية أساسية وضرورة من ضرورات وجوده الاجتماعي، ولم تكن، أبداً، مجرد ترف فني يصرفون من خلاله الفائض من أوقاتهم؛ فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ويستحيل عليه العيش منعزلاً عن غيره، ومن ثم كان لزاماً عليه الاندماج داخل مجتمع معين ليستمد منه قوته (هو، أولاً) كعنصر داخل الجماعة، من جهة، ومن جهة ثانية ليساهم رفقة بقية الأعضاء الآخرين في تقوية مجتمعه ككل. ولعل الاحتفال والفرجة هما من أهم الأشياء التي تساعده على هذا الاندماج الاجتماعي، بما أنه لا يمكن تصورهما في غياب الجماعة.

وحيث «إن المرحلة التي تلت إعادة مشهد الصيد البدائي التلقائي، هي مرحلة إعادة تصوير بعض الذكريات أو الاحتفال بها بطريقة جماعية، وبذلك يكون كل الناس قد عرفوا التمثيل، وتكون كل الشعوب قد مارسته، كل بطريقته الخاصة كما يمارس كل طفل نزعته الفطرية في اللعب بطرقه الخاصة، والإنسان الذي لا يمثل هو الاستثناء، كما أن الطفل الذي لا يلعب ولا يشارك في اللعب يعتبر حالة شاذة»(14). هكذا إذن يتأكد لنا، بما لا يدع أي مجال للشك، بأن التمثيل مشترك إنساني، وبأنه حاضر لدى كل الشعوب كيفما كان تصنيفها.


الهوامش
1) عبد الكريم برشيد، الاحتفالية بين التأسيس وإعادة التأسيس، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي في بيروت، العدد 69، سبتمبر 1992، السنة الثالثة عشرة، ص: 9.
2) نفسه، ص: 8. 
3) أحمد مرسي، الأدب الشعبي وثقافة المجتمع، دار مصر المحروسة، الطبعة الأولى، القاهرة 2008، ص: 109.
4) Nada Tomiche : le théâtre arabe: Ouvrage publié en 1969 sous la direction de Nada Tomich avec la collaboration de Chérif Khaznadar, UNESCO, Imprimerie Orientaliste, Louvain (Belgique), p: 9.     
5) المسرح العربي بين النقل والتأصيل، محمد الرميحي، كتاب العربي، الكتاب الثامن عشر 15 يناير 1988، ص: 6-5. 
6) عبد المجيد شكير، جمالية التمثيل في الإنجاز المسرحي، طنجة الأدبية، مجلة ثقافية شهرية، العدد 26، ص: 21.
7) المسرح العربي بين النقل والتأصيل، مرجع سابق، ص: 6.
8) محمد مبارك بلال، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الإماراتية، تاريخ النشر الخميس 19 مايو 2011، نقلاً عن موقع جريدة الاتحاد الإماراتية:
 http://www.alittihad.ae
9) علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة، الطبعة الثانية، أغسطس 1999، ص: 36.
10) محمد الكغاط، بنية التأليف المسرحي بالمغرب من البداية حتى الثمانينيات، دار الثقافة، الطبعة الأولى 1407/1986، ص: 13.
11) علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، الطبعة الثانية، عالم المعرفة، العدد 248 أغسطس 1999، ص: 43.
12) علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، مرجع سابق، ص: 40.
13) نقلاً عن: المسرح في الوطن العربي، ص: 35/34.
14) بنية التأليف المسرحي بالمغرب من البداية حتى الثمانينيات ، مرجع سابق، ص: 13.


 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 248 (صفحة 97)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها