القصص‭ ‬الخرافيَّة..‭ ‬أصلها‭ ‬الذي‭ ‬يكشفه‭ ‬عِلم‭ ‬الوِراثة‭

ترجمـة: محمد ياسـر منصور

تُرجِم عن: فانسان نوريغا Vincent Nouyrighat


سندريلا، القلنسوة الصغيرة الحمراء، بيجماليون... لنا عَودة إلى كل ما نعرفه عن هذه القصص! لأننا إذا تفحَّصنا أدوات البيولوجيا المتطورة، لَوجدنا أنها تُميط اللثام عن الأصول التي لا يتطرَّق إليها الشَّك، والتي ترجع إلى أسلافنا كما يرى بعض المحلِّلين. ولدى قراءة ما بين السطور، نكتشف الحِكمة من خلال تلك الخيالات...
كان يا ما كان في قديم الزمان، كانت هناك فتاة صغيرة ترتدي ثَوباً أحمر افترسها ذِئب مَوَّه نفسه بصورة جَدَّتها، وكان هناك صبي يُدعى (جاك) بادَلَ بَقرته الغالية بقبضة من الفاصولياء السحرية، وكانت هناك شابَّة جميلة وشجاعة ولطيفة ترعرعت في بيت ترعاه زوجة أبيها الظالمة وكانت تُعاني الإزعاج من ابنتيها اللتين نَدمتا يوماً على معاملتهما القاسية لها.
إنها قصص خرافية تماماً تجعل الأطفال يرتجفون خَوفاً قبل أن يحلموا بالأحلام الجميلة ـ إنها قصص صغيرة مُسلِّية تمَّ ابتكارها لِتُروى حول المدفأة من قِبَل (شارل بيرّو) أو (الإخوة غريم) قبل أن تعتمدها شركة (وولت ديزني) وتستثمرها خَير استثمار وبإفراط.

***

 

أُجريت دراسات جديدة، باستخدام أدوات تعتمد على البيولوجيا التطورية، فكشفت هذه الدراسات اليوم العمق التاريخي المذهل لتلك القصص التي تُعشِّش في أحلام أطفالنا. وقد يرجع تاريخ بعض تلك القصص إلى العصر الحجري! وبتعبير آخر إلى ما قَبل تاريخ البشرية، وهي فترة ما قَبل ابتكار الكتابة والتي كان يُعتقد أنه لم يبق منها إلاَّ بعض الآثار البَكماء والتي لا يمكن لعقولنا فَهمها، نحن المعاصرين. 
سَبَق أن تمَّ سَبر عِلم أنساب القصص الشعبية والخرافية وكان مجال بَحث معمَّق، فمنذ أكثر من قَرن، يجوب بَحَّاثه كبار متخصِّصون بِعِلم اللغات العالَم بَحثاً عن حكايا الأسفار والرحلات والمبشِّرين ليأخذوا منها جميع النصوص المدوَّنة أو الشفهية. وكما يبدو هذا غريباً، فإن لبعض الحكايات تفاصيل قريبة ممَّا في ثقافة شعوب بعيدة جداً، وقد كشفَ الإخوة غريم عن وجود تقارب بين بعض الحكايات الجرمانية والقصص التي تُروى في الهند أو في بلاد فارس، ولم يكن هذا وليد المصادفة. وقد أشارَ إلى هذا الاستاذ (جان - لويك) الخبير في عِلم الأنساب في معهد العوالم الإفريقية: «نحن نبحث في حكايات معقَّدة وليس في مجرَّد أفكار كان بِوِسع بعض الناس سَردها على هَواهم بصورة مستقلّة».
إن نصوص حكاية ما على اختلافها مرتبطة إذاً ببعضها على الأرجح. لذا, فإن البحَّاثة في هذا المجال: الفولكلور والفنون والتقاليد الشعبية، يقضون حياتهم في إنشاء علاقات قُربى بين تلك النصوص، مُحاولين نَصب خيوط متشابكة بين تلك الاقتباسات، الأمر الذي أدَّى الى تنوّعات وجِدالات محمومة بِصَدد الأصول الشفوية أو الكتابية لهذه الرواية أو تلك.


عِلم جديد 

لنأخذ على سبيل المثال قصّة «القلنسوة الصغيرة الحمراء». فإذا كان من الواضح أن النصوص الحالية لهذه الحكاية مُستوحاة من قصَّة نَشَرها (شارل بيرّو) في العام 1697 تحت اسم (قصص أو حكايات من الزمن الغابر) فإن أصل هذه الحكاية يرجع إلى زمن أقدم بكثير. لأن بيرّو استوحى حكايته على الأرجح من(قصّة الجدَّة)، التي كانت متداولة آنذاك في الأرياف الفرنسية، وفي شمالي إيطاليا وفي النمسا... لكن بتنوعات مختلفة أحياناً اختلافاً كبيراً، حيث تأكل الفتاة الصغيرة أُذنَيّ جدَّتها اللتين طبخهما الذئب. 
لكن حكاية القلنسوة الصغيرة الحمراء تبدو كذلك قريبة من مجموعة حكايات شعبية في أوروبا والشرق الأوسط: «الذئب والجَدايا السبعة» حيث تُروى قصّة ذئب ينتحل شخصية العَنزة الأم التي ذهبت في جَولة لها لكي يستمتع بِقَضم اللحم الطَّري لتلك الجَدايا. وهي قصَّة نجدها في أسطورة إيسوب والتي ترجع أولى آثارها إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وزيادة في الاختلاف يدَّعي بعض الجامعيين أن حكاية «القلنسوة الصغيرة الحمراء» قد تكون جاءت إلينا من الصين عَبر طريق الحرير.. ولا يزال اليوم أطفال الصين واليابان وكوريا تُهدهِد لهم أمهاتهم بحكاية «الجدَّة النّمر» حيث ينخدع أُخوة أشقَّاء بحيلة نمر تَنكَّر في صورة الجدَّة. وباختصار:لا شيء واضح!
يبتّ الدكتور(جوليان هوي) الخبير في عِلم الأنساب في معهد العوالم الإفريقية ويفصل في هذا الموضوع فيقول: «عِلم الأساطير المقارن يدور في الدائرة نفسها: فهذه التحليلات الأدبية غير واقعية غالباً إلى حَدّ كبير، ومتذبذبة، ومُبالَغ فيها، وغير مُوثَّقة، ومنذ أربع سنوات ونحن نبحث في أن نجعل منها عِلماً راسخاً، موضوعياً، يمكن دَحضه وقابِل لِلنَّسخ بالاستعانة بطرائق جديدة تعتمد على النسالة التي تبحث في تكوين الأنسال وتطورها».
حسبنا أن نُعمِل تفكيرنا في ذلك! فَلَدى علماء البيولوجيا أدوات إحصائية تُتيح لهم تصنيف الكائنات الحيَّة حسب علاقات القُربى بينهم، وفي مُخيِّلة كل واحد منهم صور تُعبِّر عن «أشجار الكائنات الحيَّة» أروع تعبير، حيث تُعرَض فيها جميع أُسَر مملكة الحيوان والنبات. وهذا التصنيف البيولوجي يقوم على فَرضيَّة تطوريَّة بسيطة: فهناك جِنسان لهما سِمات متقاربة جداً أصبحا اليوم مختلفين، وبالعكس كلَّما كانت أصولهما المشتركة تغرق في القِدَم، كان للأفراد فسحة من الزمن للاختلاف. 

ما هي العلاقة بالأساطير؟ إن كل حكاية مُؤلَّفة من جُمَل مترابطة البنيان ومتتابعة. تُشبه أخيراً مسلسلاً وراثياً أو مجموعة من الصِّفات أو السِّمات التشكيلية. يقول (جوليان هوي) أحد روَّاد هذه الدراسة: «نحن نُقسِّم كل حكاية إلى وحدات صغرى من المعلومات أو إلى جُمَل.. مِثال(فتاة صغيرة، ترتدي ثوباً أحمر، ذهبت عند جدَّتها،...) فَوُجود المعلومة في الجُملة يُشار إليه بالرقم(1)، وعَدم وجودها يُشار إليه بالرقم (صفر)، وهكذا نجد أن في كل نَصّ لحكاية، ما يمكن اختصاره بسلسلة مزدوجة، ويمكن لهذا الترميز بعد ذلك أن يُحلِّل نظام حساب النسالة (وهي مَبحَث تَكوُّن الأنسال وتطورها)». وهذه الحَبكة الإعلامية تعرض أولاً نوعاً من المقاربة بين مختلف النصوص ثم تقوم بتحديد الأرومة النسالية الأكثر رَجَحاناً من بين ملايين البُنى المتوافرة. وهذا الحساب الهائل الضخم لا يمكن أن يضطلع به إلاَّ الحاسوب وحده. 
أُولى النتائج أصبحت من الآن فصاعداً مُذهلة. فالتحليل النسالي لحكاية «القلنسوة الصغيرة الحمراء» الذي أجراه جامي تهراني (من جامعة دورهام) قد يكشف أيضاً أن الحكاية الصينية «الجدَّة النّمر» قد لا تكون القصَّة الأصلية، لكنها استعارة من نصوص أوروبية كثيرة. وكشفت دراسات أخرى مؤخراً عن مكان الولادة غير المتوقع لأسطورة بيجماليون، أو لقصص مُدهشة مُقيمة بيننا بِثَبات مثل: «الفتاة الطيِّبة والشرِّيرة»، أو الأسطورة الإفريقية «الرسالة المحرَّفة»(التي سنوردها لاحقاً).
 

بنية قصصية ثابتة 

يقول (جامي تهراني) متحمِّساً: «الفائدة الأساسية من هذه المقارَبة النسالية، هي أن تُتيح لنا الرجوع بشكل موثوق جداً إلى الآثار الكتابية الأولى. والتقاليد أو الأحاديث الشفهية تحديداً نادراً ما تُنقَل كِتابةً أو يجرى تَدوينها، وبَقيَ لنا القليل من تلك التسجيلات المدوَّنة من تلك القصص والحكايات الغارقة في القِدَم. ويُتيح لنا عِلم الأنسال سَدّ الفَجوات القائمة باستخدام معلومات الأجداد التي لا تزال متداولة في القصص الموروثة». وكما تنتقل المعلومات الموجودة في المورِّثات والحمض النووي من الآباء إلى الأبناء. فَبِوُجود لُحمة قوية وطَفرات، تنتشر الحكايات أساساً من جيل إلى جيل مع إدخال تعديلات عليها رغبةً في التحديث أو الاستعارة.
يُتابِع عالِم الأنساب البريطاني (جامي تهراني): «أحد الثوابت الأكثر إدهاشاً هو الرسوخ اللامعقول لتلك الحكايات. فما زال بعض الجامعيين يَدَّعون حتى اليوم أن بَقاء التقاليد والحكايات الشفوية زمناً طويلاً متعلِّق بالضرورة بالحامِل الكتابي، لكن هذا غير صحيح!». فهذه الحكايات تُمثِّل مقاومة صَمدت أمام كل امتحان بما في ذلك أسوأ الترجمات. يقول(جوليان هوي): «روابط السَّببية التي تُوحِّد مختلف عناصر قصَّة ما لا يمكن فَصم عُراها، حتى إن بُنيتها القصصية تدوم وتبقى».

حسب آخر الدراسات، فإن قصّة «الحسناء والوحش» يبلغ عمرها (3000) سنة. وقصّة «الحدَّاد والشيطان» ترجع أصولها إلى اللغات الهندية – الأوروبية، والتي يزيد عمرها على (5000) سنة، في الفَيافي الواقعة شمال البحر الأسود. والأكثر من ذلك، أن بعض القصص والحكايات قد يزيد عمرها على عشرات آلاف السنين، ويرجع ابتكارها إذاً إلى العصر الحجري، بل إلى أولى الهجرات من إفريقيا... 
العِلم الحسابي الجديد للحكايات قد يُقدِّم أيضاً رؤية للبشرية أكثر عمقاً من دراسة الكتابات الأولى أو اللغات القديمة، إلى درجة أنه قد يُتيح فَهماً أفضل للهجرات الأولى لجنسنا البشري المضطرب. يقول (سيمون غرنهيل): «بانتشار المجموعات البشرية في أنحاء العالم حملت معها مورِّثاتها ولغتها وعاداتها وتقاليدها...وحكاياتها»، وسيمون هذا مُختصّ في تطور الثقافات في الجامعة الوطنية الأسترالية.


الصورة المتخيّلة لأجدادنا 

دراسة الحكايات تتجاوز تطور العادات والتقاليد وحتى الملاحم البشرية. لأن هذه الأدوات الجديدة تُتيح أخيراً اختراق خَيال أجدادنا القدماء. فكيف كان تفكيرهم ومَخاوفهم واعتقاداتهم ورؤيتهم للعالَم في دياجير الزمان؟ 
الطرائق الإحصائية أو الحسابية الجديدة تُتيح كذلك إعادة بناء الشكل الأصلي للحكاية, وفي كل الأحوال، مخطَّطها الروائي ببساطة ذلك العصر ودون زَخارِف. يقول (ميخائيل ويتزل)، العالم اللغوي في جامعة هارفرد: «عِلم الأساطير المقارن قد يساعدنا في كشف ماهيّة الاهتمامات الأساسية لأجدادنا القدامى وكيفية استمرار بعض أفكارهم في التأثير في فِكرنا الحالي. وعِلم الأثريَّات واللوحات المرسومة على جدران الكهوف لتزيينها لا تخلو من بعض التفسيرات، في حين أن الأساطير تُحدِّثنا حديثاً مباشراً». ويمكن لإعادة تركيب تلك الأساطير التاريخية أن يُسلِّط الضوء أيضاً على فَنّ ما قبل التاريخ، وهو رائع لكنه غامض.

ثمَّة عِلم جديد أو أسلوب جديد بِصَدد الظهور. بِوُعوده المدوِّخة وخلافاته الأوليَّة بين روَّاده، ونتائجه التي ما زالت نوعاً ما مُتلعثِمة لدى الحِرفيِّين... ويعترف بذلك (جوليان هوي): «هذه الأساليب تتطلَّب إمدادها بأُسس قوية من المعطيات والنتائج، ويجب حَصراً أن تتقاطع مع المعطيات الآثاريِّة. 

القلنسوة الصغيرة الحمراء، الحسناء والوحش، سندريلا، بيجماليون... هذه الحكايات أو الأساطير، البعيدة عن التَّفاهة، هي في الواقع وسائط نَقل حقيقية تنقلنا عَبر الزمن المنصرم، وتحمل بقايا حكايات وأفكار قَدِمَت إلينا من العصور التاريخية الأولى. إنها قصص يُعتقد أنها لن تتوارى، وستظلّ إلى الأبد.



المصدر: مجلة «Science & Vie» الفرنسية – العدد (1194) – مارس (2017). https://archive.org/details/ScienceVieNo.1194-Mars2017

 

نشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 246 (صفحة 15)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها