الكورس المسـرحي .. بين البدائل والعودة من جديد

د. ياسين اعطية

لم يكن استخدام الشخصيَّات الثانويّة والمنولوجات الطَّويلة، ثم الأحاديث الجانبيّة، لدى كتّاب المسرح ومخرجيه منذ عصر النّهضة سوى محاولات لتذليل العقبة الناجمة عن اختفاء الجوقة، وتحقيق الصّلة بين المتلقّي وبين ما يحدث على خشبة المسرح، تلك الصّلة التي كانت تتم عن طريق الجوقة والتي تقوم بإبراز الحقيقة الكاملة. ويبدو أنّ كلاً من المخرج والكاتب المسرحيّ يحتاجان في معظم الأحيان إلى هذا النّوع من الشخصيَّات للتعبير عن وجهة نظر الأناس العاديّين، فتُجعل هذه الشخصيَّات الوسيط بين الشخصيَّات التراجيديّة وبيننا، إلا أنّنا في الدراما الحديثة قد نجد الكاتب المسرحي ينيط لشخصيّاته البطلة والمعنيّة بالحدث والفعل، التعليق عن نفسها وعن الحدث، كما هو الحال مع لوركا  مثلاً الذي جعل من أهل البيت في مسرحيّته (بيت برناردا آلبا)، نوعاً من الجوقة  التي تعلق على ما هي مأساتهم بنفسهم. أما ييتس فلم يقاوم إغراء هذه الوسيلة اليونانيّة، لكنّه لا يجعل من الجوقة جزءاً من الحدث، وإنّما يجعلها تؤدي وظيفة الغناء والتمهيد للأحداث. ومع ذهاب ييتس إلى آسيا وتعرّفه إلى مكونات الخشبة والوجوه الأكثر شكلانيّة، والكورس الذي لا ينخرط في الحدث، بل يصف المشهد ويترجم الأفكار ويقوم بالرقصات والحركات، راح يوظف ذلك في مسرحيّاته، وخصوصاً في مسرحيَّة (عند بئر الصّقر)، حيث اعتمد على كورس من ثلاثة موسيقيّين وجوههم على شكل أقنعة(1). كذلك الأمر في مسرحيّات إليوت، وخصوصاً في مسرحيّته (جريمة قتل في الكاتدرائية).

 

يوجين‭ ‬أونيل ‭ ‬Eugene O'Neill ‬وتقنية‭ ‬القناع

أما أونيل فقد كان يعبّـر عن دور الجوقة من خلال استخدامه للأقنعة التي تلعب دور العَزْل، عزل الشخصيَّة عن عواطفها عند ارتدائها للقناع، وتركها تتكلم عنها بطلاقة إبّان خلعها، خصوصاً في مسرحيَّة (الإله الكبير بروان) و(القرد الكثيف الشعر) و(ضحك أليعازر)، حيث عمل على ازدواجيّة القناع التي تدهش المشاهد، وتقيم نوعاً من التواصل بينه وبين الشخصيّة في ظاهرها وباطنها. لقد عجز أونيل عن التعبير عن الصّراع الخفيّ داخل النّفس البشريّة التي زاد تعقيدها بدون وسيط، ولـمّا كان الوسيط - الجوقة - الذي يقوم بهذا الدّور قد استبعد منذ زمن بعيد، أصبح من الضّروري البحث عن بديل آخر، فكان البديل هو الأقنعة المستعارة من المسرح اليونانيّ. فبالقناع وبعض الحيل مثل المنولوج الدّاخليّ، والتشخيص الرمزيّ، حاول أن يحلّ ويتجاوز تلك العقبة. لذلك نجده يبحث عن هذه الوسائل العتيقة كالمنولوج والأحاديث الجانبيّة كما هو الحال بالنّسبة لمسرحية (فترة غريبة)(2). ففي الحوار نرى الشخصيَّات مقنعة في علاقتها بالآخرين، وفي الحوار الجانبيّ والحديث الفرديّ (المنولوج) نراها بلا قناع، وبالتالي نتعرّف إلى حقيقتها وإلى الصّراع الدّائر في داخلها،(3) وبالإضافة إلى الأقنعة فإنّه يضيف في مسرحيّاته الجوقة أيضاً.
لجأ أونيل إلى إسخيلوس لأنّ لدى المسرحيّ الإغريقيّ مجموعة جاهزة من التقاليد تمكنه من تقديم بعض مظاهر الحياة التي تبدو هامة دون اللًّجوء إلى الشرح الكثير عن البيئة التي يتحرَّك فيها أشخاصه أو عن تاريخهم، فالجوقة والأقنعة واللغة الأدبيّة المصنوعة والتراث المشترك في التاريخ والأسطورة والدّين والسّياسة، كلّها فتحت المجال لأونيل ليعبّر عن أفكاره بشكل أوسع ممّا لو أنّه اختار منظراً حديثاً وشخصيّات معاصرة(4).
إنّ ممارسة فعل المصادرة على الجوقة قد جعلت كتّاب الدراما يقنعون بالوقوف على سطح الحياة، ذلك لأنّها جردتهم من الوسيلة السّحريّة للغوص في أعماقها، هذا ما تورط فيه الواقعيّون والطّبيعيون الذين وُصفوا (بالماديّين). «فهم لم يكونوا في الواقع واقعيّين ولا طبيعيين وإنّما ادّعوا أنّهم كذلك»(5)، فرغم تمردهم على الأشكال القديمة، وخصوصاً في القرن الثّامن عشر ودعوتهم للعودة إلى الطّبيعة والبحث عمّا هو حقيقيّ وطبيعيّ، فقد ظلّ هذا التمرد يطفو واقفاً على سطح الحياة حين أصر على تجاهل الجوقة أو أصر على استخدام بدائلها اللّا مجدية، ربما هذا ما جعلها تتعرض للنّقد الشديد، وخصوصاً من الرمزيّين، الذين حاولوا إبراز الظاهرة النفسيّة إلى الحدّ الذي يتجاوز إمكانات المسرح الواقعيّ، إلى جانب ذلك فكلّ من الواقعيّة والطّبيعيّة طرحت الواقع بشكل موضوعيّ، وبالتالي لم يتحقّق تماماً لأنّ الطّريقة التي قدم بها جامدة لا تخضع لمنطق جدلية التاريخ، ولا تظهر العلاقة المتبادلة بين الإنسان والمجتمع، كما أنّ الواقع المصوّر على الخشبة ظهر وكأنّه مجرد لوحات مقتطعة من الحياة وبدا كأنّه حقيقة ثابتة غير قابلة للتّطور أو التحول.
ولكن، ألا تستطيع الجوقة أنّ تتخطى هذا الجمود؟ هذا ما نجد في مسرحيَّة (الحداد يليق بإلكترا) لأونيل نفسه، فهي مقتبسة من مسرحيَّة (أوريستيا لإسخيلوس)، حيث تستخدم الجوقة من أهل المدينة، يأتون ليروا وليعلقوا على بيت آل مانون، وهو المكان الأساسيّ للحدث، وعلى الأسرة  التي يتعلق بها الحدث مباشرة، فهو يجعل هذه الشخصيَّات بمثابة الجوقة التي تمثل الشعب والمدينة في المسرح الإغريقيّ، ويجعلها تتساءل عن الحدث والمأساة وتعلق عليها.
وظف جان آنوي شخصيَّة واحدة تقوم بدور الجوقة في مسرحيّاته المستمدة من المسرح اليونانيّ، وهذه الشخصيَّة تُعرّف الماضي والمستقبل وتمثل صوت الحكمة وتُعرف الشخصيَّات. ونجد ذلك في مسرحيّته (أنتيجون)، حيث تتقدم شخصيَّة باسم المقدم في بداية المسرحيَّة وليعرّف الأحداث والشخصيّات وصفاتها، فالمقدم هنا يضع المشاهد في الحدث منذ البداية ويصف الشخصيّات، ويخبر بما ستؤول إليه لاحقاً، وبالتالي فالمقدم هنا يلعب دور الوسيط بين الجمهور والمسرحيّة، كما أنّ جان آنوي لم يكتف بذلك، بل حافظ على نكهة المسرحيَّة اليونانيّة بالإبقاء على الجوقة فيها، وهو بذلك يضع وسيطين: وسيطاً بين المسرحيَّة  والجمهور (المقدم)، ووسيطاً ثانياً بين الشخصيَّات والجمهور (الجوقة)، فالجوقة هنا تقوم بدور الإخبار عن الشخصيات وحركاتها وأفكارها ومكانها للشّخصيّات الأخرى وللجمهور في نفس الوقت.


تغريب بريخت Brecht

لم يقطع الشكل الإغريقيّ القديم علاقته نهائيّاً بالملاحم القديمة، فقد ظلت الجوقة صلة وصل بين الملحمة والتراجيديا، فكانت الملاحم القديمة تتضمن في داخلها عناصر التراجيديا بقدر ما كانت التراجيديا القديمة تتضمن في داخلها عناصر ملحميّة، وكان هناك الراوي كوسيط، وهنا برزت كبديل للراوي، وهذا ما نجده عند بريخت، حيث استطاعت أعمال بريخت أن تسير على ساقين وأن تنجو من العرج، وأن تصبح ذات طبيعة ثنائيّة، وأن تكون واقعيّة إلى أبعد الحدود، وأن تعبّـر عن المدى الكامل للتّجربة بدلاً من أن تترجم التجربة، ومن ثم كان بريخت قادراً أو أكثر قدرة على أن يقول ما يتحتم قوله لا ما يمكن قوله، وأن يقف على سطح الحياة وأعماقها، وظاهرها وباطنها، خارجها وداخلها في نفس الوقت، وذلك بفضل الوسيط السحريّ (الجوقة)(6). فلقد عادت الجوقة بشكل كبير مع رائد المسرح الملحميّ، الذي حاول أن يضع الوسائط بين المسرحيَّة  والجمهور، مشتغلاً على عنصر التغريب والسّرد والأحداث المتقطّعة، فوضع كلّاً من الجوقة والراوي كمعادل لها أيضاً، ليساهم في تكسير التسلسل الدراميّ ويساهم في التغريب. فالجوقة البريختيّة لا تختلف عن نظيرتها الإغريقيّة إلّا في المضامين وفي جزء من الشكل والأدوار، لكن كلتيهما تقوم بنفس الدور المهمّ في التعليق والتفسير والتوغل في عمق الحياة ونفسيّة الشخصيَّات والأحداث. 
لا ننسى بيسكاتور الذي برع في استخدام بدائل الجوقة، خصوصاً في أوّل عرض له في مسرح فولكسبونه في عام 1924، حيث قدم فيه مسرحيَّة (رايات) من تأليف ألفونس باكويت، وهو عرض عالج المحاكمات الفوضويّة في شيكاغو عام 1886، وقد كانت المعالجة شكلاً من الدّعاية الصّريحة التي قُدمت على شكل سلسلة متعاقبة من الأحداث السّرديّة، يكملها مذيع أخبار ومقاطع موسيقيّة(7). فهنا استخدم نوعاً من الجوقة المبتكرة عن طريق استخدامه مذيع أخبار يقوم بدورها، بالتعليق على الحدث وتكملته ما دام حدثاً سرديّاً، إلى جانب ذلك فقد اعتمد بيسكاتور على وسائط أخرى تعوّض الجوقة المسرحيَّة، خصوصاً في مسرحيّته (العرض الأحمر الصّاخب) التي اعتمد فيها على الرقص والغناء، وجعل التعليق والإخبار في ذمة الأفلام السّينمائيّة والشرائح المنزلقة، كما حاول أن يجعل هذا العرض أكثر فهماً وتعليقاً، بتوزيعه على الجمهور المُشاهد لهذا العرض بياناً على شكل كتيّب مليء بالتعليق على الجانب المقصود من الموضوع(8).

وإذاً.. فقد عرف المسرح الحديث عودة الجوقة، إما بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، إما بالشكل القديم كما عند لوركا وبريخت وييتس أو بأشكال أخرى كما عند أونيل وإليوت وميللر، رغم أنّ هؤلاء الأخيرين استعملوا الجوقة بالشكل القديم في بعض مسرحيَّاتهم..


الهوامش

(1) ج. ل. ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، مرجع سابق، ص ص: 279­280-.
(2) باريت كلارك، يوجين أونيل، دراسة في حياته وأدبه المسرحي، تر: حسن محمود عباس، المكتبة العصرية، صيدا/ بيروت، (د.ط)، 1965، ص: 186.
(3) نجيب سرور، حوار في المسرح، مكتبة الأنجلو المصرية، 120 شارع محمد فريد - القاهرة، 1969 ص: 159.
(4) باريت كلارك، يوجين أونيل، دراسة في حياته وأدبه المسرحي، مرجع سابق، ص: 110­111-.
(5) نجيب سرور، حوار في المسرح، مرجع سابق، ص: 161.
(6) نجيب سرور، حوار في المسرح، مرجع سابق، ص ص: 169-168.
(7) ج. ل. ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، مرجع سابق، ص ص: 561 562-.
(8) ج. ل. ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، مرجع سابق، ص: 562.


 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 129)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها