التقنية كأيديولوجيا

عندما لا يجد الإنسان في الزمان بدلاً من المكان

فريد جفال

يسير العالم اليوم بخطى متسارعة نحو التقنية، إذ أصبحت هذه الأخيرة في كل بيت فقير كان أو غني، وهو ما يطرح أكثر من تحدّ ليس في علاقاتنا مع غيرنا وإنما كذلك في أن أمورنا الخاصة أصبحت اليوم أمام مرأى عدد هائل من سكان العالم، إن التقنية اخترقت بيوتنا فلم يعد هناك شيء سري إلا فيما ندر. وهكذا فبقدر ما أنها وسيلة الانفتاح على العالم المترامي الأقطار، فهي في الوقت نفسه وسيلة كاشفة لأمور كنا سابقاً نعتقد أنها ستبقى حصرية تخصنا ولا يمكن لغيرنا معرفتها، والأخطر من هذا كله هو عندما تصبح التقنية كأيديولوجيا، وهو ما سنسلط عليه الضوء انطلاقاً من تصور المفكر المغربي محمد سبيلا.

يرى محمد سبيلا أن موقفنا من التقنية موقف يتسم ببعض الغموض واللبس، بل تطبعه ثنائية عميقة تتميز بالقبول والرفض، بالاستعمال والاستنكار قائلاً: "التقنية تغرينا وتجذبنا بمتعها ومباهجها وسحرها من حيث إنها تقلص المسافات وتختصر الأزمنة وتوفر على الإنسان الكثير من الجهد، خاصة منذ الثورة التكنولوجية الثانية بوتيرتها المتسارعة إلى حد الذهول، من الإلكترونيات إلى الإعلاميات إلى الإنسان الآلي وغزو مجاهل الفضاء". فقد أصبح الفرد بتعبير سبيلا أشبه ما يكون بمهاجر في الزمن مثلما كان أسلافه مهاجرين في المكان.

هذه التكنولوجيا التي نهفو إليها وإلى المساهمة فيها ليست مشروعاً بريئاً أو محايداً، بل هي جزء من مشروع كوني وامتداد لرؤية معينة نشأت مع الإنسان وواكبت تطوره، وبالتالي فهي مرتبطة ببعض الملامح الأيديولوجية ومنها:

أ- التكنولوجيا هي التطبيق العملي للعلم، وكلاهما مرتبط بمشروع للسيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان، والسيطرة على الطبيعة تمر عبر السيطرة على الإنسان وتسخيره. يقول سبيلا: "نعم، يبدو أن الإنسان سيد الآلة ومكتشفها، لكن هذه تعود لتتحكم فيه وتستبعده، بل لعله هو الذي يجعل نفسه عبداً لها بعد أن كان سيدها، إن الآلة كأداة تستجيب لحاجات معينة لدى الإنسان في السيطرة على الأشياء وتسخيرها، لكنها سرعان ما تستجيب لحاجة الإنسان إلى سيد أو حاجته إلى أن يصبح عبداً لمخلوقاته، وكأن الإنسان لا يتحرر إلا ليخطو خطوة في العبودية، وكل خطوة في طريق التحرر هي في الوقت نفسه، وفي الحركة نفسها، خطوة في طريق العبودية. فالعلم والتكنولوجيا اللذان اكتسبا في بداية النهضة مشروعاً تحررياً، قد تحولا اليوم إلى أدوات سيطرة استعباد"، فالتكنولوجيا إذن هي الداء والدواء، إنها أداة تحرر، وأداة استعباد، إنها الجنة والجحيم في الوقت نفسه.

ب- الملمح الإيديولوجي الثاني للتقنية: يتعلق بتصور التقنية ذاتها، وقد أوضح هايدغر أن التكنولوجيا ليست فقط مجموع الأدوات والوسائل، مهما بلغت درجة تعقدها بل هي "أفق فكري وطريق انكشاف وكيفية في التفكير، ونمط للعلاقة مع الآخرين ومع العالم، إنها نمط في الوجود، يقول سبيلا: "التكنولوجيا من هذا المنظور هي الأداة الخالصة: تحوّل كل شيء إلى أدوات ووسائل، ولعل هذا البُعد الأداتي للتكنولوجيا، كأفق، يمكن أن يسهم قليلاً في القيام بتعديل طفيف في تحليل ظاهرة التشيؤ فقد درجت العادة على إرجاع التشيؤ إلى سيادة قانون السوق وإلى تفشّي العلاقات الرأسمالية، التي تحوّل تلقائياً القيم الاستعمالية إلى قيم تبادلية". ويضيف أيضاً بقوله: "إلا أن إدخال عنصر التقنية كأداة وكنمط وجود في التحليل، يبرز دورها التشييئي في الحياة الاجتماعية، وبهذا المعنى فالتقنية هي تحوّل الأشياء إلى أدوات، والعالم التقني هو العالم الذي تصبح فيه الأداة نموذجاً ومثالاً، وبذلك تسهم التقنية في جعل العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والأشياء علاقة أداتية ونفعية. لم تعد الآلة استمراراً وامتداداً لحواس الإنسان وقدراته، بل أصبح الإنسان ذاته امتداداً للآلة إلى حد ما. لقد اكتسبت الآلة خصائص إنسانية بينما اكتسب الإنسان خصائص آلية".

ج- إن الثورة العلمية والتكنولوجية ارتبطت بظهور الطبقة البورجوازية في الغرب وبمشروعها في تسخير الطبيعة والاستيلاء على العالم، وقد اكتسب العلم بالتدريج طابعاً تقنياً، كما أخذت الثقافة بموازاة ذلك تكتسب طابعاً تقنياً أكثر فأكثر؛ وقد ارتبطا معاً بهذه الروح الكونية وبالنزعة الشمولية التي نشآ فيها. فهما "يعكسان ويحملان وينشران البُعد الشمولي، النوعي للإنسان، ولذلك تدخل التقنية والعلم، من حيث إنهما يحملان هذا البُعد الكوني، في نزاع مع الخصوصية الثقافية للشعوب التي لم تتمكن من متابعة التحولات الفكرية الكبرى، التي حدثت في الغرب ابتداء من عصر النهضة الغربية إلى الآن، وهي مسيرة طويلة تمثلت في الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي".

وهنا يؤكد سبيلا على أنَّ التكنولوجيا ليست فقط آليات وأدوات يتم استعمالها، بل إنها تحمل معها ثقافة ونظام قيم ورؤية للعالم ومنطقاً يتعين استيعابه، بل إنها تحمل وتبث تغيراً في معنى الحياة ذاتها، معتبراً أن التكنولوجيا تنفذ إلى كل شرائح الحياة في المجتمعات وتحدث تغييراً عميقاً في المجال الإدراكي وفي المجال الذهني، وتصادم ما هو تقليدي في المأكل والملبس والعمل وأدوات العمل والاستجمام. وقد اعتبر سبيلا أن دخول التقنية يصاحبه كذلك تغير في التصور والتنظيم التقليدي للمكان والزمان وللعلاقات العائلية بين الناس، ويحدث تغير في مكانة المرأة ودورها، وتغير في دلالة وتنظيم الجنس.

د- حسب سبيلا لم تكن التقنية مجرد حلم أداتي فقط سيمكن الإنسان من التشبه الفعلي بالساحر، وإدراك مظاهر القوة والفعالية، بل حملت معها بجانب الإصرار على تحقيق أسطورة بابل (الترجمة)، وأسطورة إيكاز (الطيران)، وبروميثوس (الطاقة الذرية)، وديدالوس (صنعة الإنسان الآلي)، وغيرها من الأساطير الدينامية، حملت معها حلماً يوتوبياً جميلاً بتحقيق فردوس أرضي ينعم فيه الناس بالوفر والخيرات.

علاقة بذلك اعتبر سبيلا أنه ليس بالتطور السياسي أو الوعي هو وحده الذي حرر العبيد، بل إن الآلة والتقنية كانتا عاملين فعالين في تحريرهم من العبودية والتسخير. كما أنها وفرت الشروط الفعلية التي مكنت من تحسين وضعية المرأة في المجتمعات الحديثة، إذ يربط العديد من المفكرين حسب سبيلا بين التطور التقني والتطور الاجتماعي. فماركس يربط بين الطاحونة اليدوية والمجتمع الإقطاعي، كما يربط نشأة المجتمع الرأسمالي بالطاحونة البخارية، بل إن لينين اعتبر كهربة الأرياف بالأرياف بالإضافة إلى السوفييتات بمثابة جوهر الاشتراكية. فليس الإنسان وحده الذي يصنع التاريخ، بل إن الآلة بدورها تسهم في صناعة وصياغة التاريخ. يقول سبيلا: "هذه الأحلام اليوتوبية التي رافقت التطور التقني تبلورت في ما بعد في إيديولوجيا عبّرت في النهاية عن نفسها بالقول بنهاية الأيديولوجيات، فبما أن التقنية هي اكتساح الطبيعة وترويضها وتسخيرها كلياً لصالح الإنسان، فإن هذا المجتمع الذي ستسوده التقنية سيكون مجتمعاً إنسانياً، مجتمع إشباع ووفرة وخلوّ من الاستبداد، وستنتفي أسباب الصراع الاجتماعي، وستتقلص أهمية الصراعات الطبقية والجيلية والعرقية والقومية وغيرها من أسباب التوتر".

وبخصوص هذه الخلاصة التي خلص إليها سبيلا، من وجهة نظرنا لا نوافق مطلقاً، لكون التكنولوجيا اليوم هي بيد دول بعينها في حين الباقي مجرد مستهلك، مستهلك للتكنولوجيا ومستهلك لثقافة دخيلة على ثقافته وخطيرة على هويته. ناهيك عن تأثيرها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، إذ ستزيد من تفقير الشعوب حيث تحل الآلة محل اليد البشرية، وتساهم كذلك في تزايد الأيديولوجيات وهو ما يخلق نوعاً من اللاتوافق، مما يعني أن القول بأن التكنولوجيا تنتج لنا عالماً إنسانياً هو رأي مردود.

نستخلص إذن أن للتقنية دوراً فعلاً في تغيير واقعنا، نقلتنا من عالم مغلق ضيق إلى عالم مفتوح موسع، وهو ما فتح قضايا كبرى كانت في وقت سابق محدودة التداول، ولعل أهمها التواصل بين الحضارات والأديان. وفي المقابل لا يمكن أن ننفي عنها صفة الأيديولوجية، وتأثيرها على بعض القطاعات اقتصادياً واجتماعياً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها