علي حرب وسياسة الفكر

صناعـة الإمكـان وتغيـر الواقع

د. محمد آيت تعرابت

إننا اليوم نعيش أمام مفترق الطرق بعد التحول الذي عرفه العالم، سواء من حيث التطور التكنولوجي المدهش، أو من حيث الأزمات والحروب العنيفة. هذا الوضع يطرح هنا بشدة قضية جوهرية وهي قضية الفكر، فالفكر اليوم هو الركيزة المحور لمعالجة مختلف الظواهر. ولتسليط الضوء على هذا الموضوع، نتوقف مع المفكر علي حرب وتصوره لسياسة الفكر.

يرى المفكر علي حرب أن الاجتماع على نحو تداولي يحتاج إلى فكر تداولي، بقدر ما يتوقف على الفكرة وطريقة إدارتها وعلى صلتها بالحدث والواقع، فالذي يفكر على نحو وسطي تداولي يتخلى عن ادعاءات المماهاة، لا مع الواقع ولا مع الذات، أي لا بين المفهوم ومرجعه ولا بين القول ومعناه. وذلك بقدر ما يتحرر من عقلية المطابقة والضرورة أو يكسر منطق الأفكار المحضة والقوالب المحكمة.

حسب المفكر علي حرب لا توجد معطيات محضة أو حقائق مفارقة، طبيعية أو ما ورائية، ننفعل بها أو نتلقى عنها أو نخضع لقوانينها المقفلة والصارمة، كما هو شكل الفكر الذي سيطر في المجتمعات الزراعية مع روايات الخلق والنظريات الكونية الفلسفية، حيث الإنسان يتبع أو يخضع لقوى خارجية يستمد منها الوجود أو الحركة والفاعلية، ويؤكد في نفس الوقت على أنه «في المقابل لا وجود لمفاهيم محضة أو حقائق متعالية نخضع لقوالبها المسبقة أو أوامرها الجازمة كما في نمط الفكر الذي ساد في المجتمعات الصناعية الحديثة لدى المثاليين والماديين على السواء، وذلك حيث الأفكار تتعالى على الحياة والمقولات تتسلط على الموجودات»(1).

وبحسب النمط التداولي يرى علي حرب أنه لا تطابق بين الفكر والواقع لا لمصلحة الفكرة ولا لمصلحة الواقع، أي لا تطابق بأي وجه من الوجهين: لا على حساب الفكرة ولا على حساب الواقع، فكيف ذلك؟
 

يوضح علي حرب هذه النقطة كالتالي:

1- لا تطابق بالوجه الأول، بمعنى أن الفكرة ليست مجرد مرآة للواقع. مثل هذا الاعتقاد يقوم على اختزال كينونة الفكرة ويؤول إلى إلغاء فاعلية الفكر بقدر ما يقوض إمكان السعي والتدبير، إذ يجعل المرء أسيراً لوهم البحث عن حقيقة مطلقة قائمة بذاتها، في حين أن الفكرة الحية والخصبة ليست مرآة للحقيقة، بقدر ما هي صيغة للعيش تجترح معها إمكانات للحياة والوجود، بالاشتغال على المعطيات وتحويلها إلى إنجازات في مجال من المجالات.

2- ولا تطابق بالوجه الآخر، بمعنى أن الواقع ليس مجرد تطبيق لفكرة نموذجية أو لنظرية مجردة. مثل هذا الاعتقاد يختزل الحياة ويقوم على نفي الوقائع ذاتها عندما لا تتطابق مع الفكرة، كما نجد لدى أصحاب الإيديولوجيات الذي يعجزون عن معالجة الواقع وتحويله، لأن أفكارهم تحتاج إلى واقع آخر أو إلى عالم آخر لكي تنطبق عليه. في حين أن الفكرة المثمرة والفعالة، هي التي تصنع الواقع بقدر ما تتحول إلى وقائع. يعلق علي حرب على ذلك بقوله: «وفي كلا الوجهين نحن إزاء ادعاء مزدوج بالتماهي مع الواقع على سبيل القبض والتيقن، من خلال النظريات المجردة والحتميات المقفلة التي يتحول معها الفكر إلى أنفاق طوباوية أو إلى خنادق إيديولوجية بقدر ما يؤدي إلى انهيار المشاريع وانفجار العقلانيات والبرامج على أرض الواقع»(2). فالأفكار إذن، بحسب المنهج التداولي، ليست ماهيات ثابتة بقدر ما هي هويات متحركة ننتقل معها من طور إلى طور.

إن الفكرة كما يؤكد علي حرب، هي علاقة بالوجود نجترح بها المعنى ونصنع الإمكان بخلق وقائع يتغير معها الواقع على مستوى من مستوياته. قد يطال التغير بنية الحقل الذي نعمل فيه أو المجتمع الذي ننتمي إليه أو العالم الذي ننخرط فيه. أي هي رهان لأن نتغير ونغير، وبالطبع «لا يتم تغير من دون الانخراط في علاقة مع الآخر. فالفكرة الحية والخلاقة هي إمكان للإبداع والاختراع، بقدر ما هي حيّز للجمع والتأليف لابتكار صيَغ التعايش أو قواعد للتواصل، بالتخيل الخلاق، والتركيب الفذ وغير المسبوق، بين الحس والعقل أو بين الحدس والفهم، كما بين الذات والغير أو الأنا والعالم»(3)..
 

يذكر علي حرب أن المنهج التداولي يصدر عن فكر تركيبي، بقدر ما يتجسد منطقاً تحويلياً مثلث الأضلاع:

1- الضلع الأول أن الفكرة الهامة تفتح إمكاناً للحياة بقدر ما تتيح خلق أنماط جديدة للفهم والتشخيص أو معايير جديدة للعمل والتدبير.

2- والثاني أن الفكرة الخصبة تشكل مصدراً للثراء بقدر ما تتيح ابتكار طرق وأساليب أو أدوات ووسائل تسهم في توسيع عالم المعرفة أو تنمية موارد الثروة.

3- والثالث أن الفكرة الحية هي طاقة يتغير بها المرء ويغير سواه بقدر ما ينجح في تحويل واقعه والتحول عن ثوابته، لا بنفيها والانقطاع عنها، وإنما بأن يقيم معها علاقات متغيرة ومتحركة، تشكل نظاماً من الوصل والفصل بقدر ما يضمن التواصل والتجدد في آن. بهذا المعنى حسب المفكر علي حرب «لا توجد فكرة تقوم بذاتها أو تدرك واقعاً بذاته أو تشكل غاية بذاتها، كما يتعامل مع الأفكار والدعاة وأصحاب المشاريع الإيديولوجية، من الذين تستبد بهم أفكارهم لكي يستبدوا بغيرهم. فالفكرة المبتكرة، الحية والغنية، تكون دوماً قيد الصوغ والتشكيل، بحسب السياقات والحالات أو بحسب الحقول والمستويات أو بحسب الاستعمالات والإجراءات، بل بحسب الأفراد والأشخاص»(4).

إننا نقف على عتبة عصر جديد بتعبير علي حرب، يتوقف فيه فرد من الناس عن ادعائه التنظير لتحرير أمة أو تغيير مجتمع بكامله، وهو ادعاء دفعت ثمنه البشرية، ولا تزال تدفع، تعسفاً وعنفاً أو عقماً وفشلاً أو حَجْباً وإقصاءً. لذلك فالممكن والمجدي هو أن نطرح أفكارنا على سوانا، لكي يعملوا عليها فيتغيروا بها، ويسهموا في تغييرها بقدر ما ينجحون في استثمارها وصرفها إضافات جديدة وغنية في المعرفة والقيمة أو في الثروة والقوة. ويكون ذلك على صعيدين اثنين:

أ- على صعيد الفكر، لأن الأفكار التي يتلقاها الشخص ويتداولها على سبيل الفهم والاقتناع، ليست مجرد أطرٍ يتقولب بها، بقدر ما هي رسائل ذات معان متعددة أو ملتبسة يقوم بقراءتها وتفكيكها، لكي يعيد تركيبها وصوغها بحسب وضعيته ورهاناته. ومن هنا تصبح الفكرة التي يتداولها المرء، أيّاً كان مصدرها، فكرته، بمعنى أنه ينتج نسخته الخاصة منها، بقدر ما يعمل على فهمها وتأويلها، أو يشتغل على تسويغها، لكي تكتسب المصداقية والفاعلية.

ب- على صعيد العمل، لأنه عمل لا يثمر في مجاله من دون فكرة خصبة يعمل عليها المرء أو بها، من خلال خياراته وتوجهاته أو تخيلاته وسيناريوهاته، وذلك على سبيل التجديد والابتكار أو التوسع والإثراء. «ولذا فإن الفكرة التي يتداولها الواحد، ولو كانت من بنات أفكاره، تصبح فعالة، ميدانياً بقدر ما ينجح في اختبارها وإعادة صوغها، على سبيل التكييف والتعديل، بحيث تصبح قابلة للصرف والتحويل إلى إنجاز علمي في حقل من الحقول وهكذا لا انفصام بين الفكر والعمل، بين النظرية والخبرة، بحيث إن الفكرة الخصبة أو المبتكرة، تفتح أبواباً للعمل المثمر، بقدر ما يخلق العمل المنتج شروطاً لتجدد الفكر وأدوات النظر. بذلك يتغير مفهومنا لشروط الإمكان، على نحو يحررها من كونها قوالب مسبقة أو حقائق متعالية. ذلك أن كل ابتكار أو إنجاز في مجال من المجالات، المعرفية أو التقنية أو السياسية... إنما يخرق الشروط، أي يكسر القالب ويفك الطوق، بقدر ما يخلق شروطاً جديدة للتفكير والعمل هي إمكانات جديدة للوجود والحياة»(5). نعم، إن مشكلتنا اليوم مشكلة الفكرة كما تحدث عن ذلك المفكر مالك بن نبي».

 

الهوامـش:
1 - العالم ومأزقه، منطق الصدام ولغة التداول، علي حرب، الناشر المركز الثقافي العربي، ط1، 2002، ص: 156. 
2 - العالم ومأزقه، منطق الصدام ولغة التداول، علي حرب، ص: 157. 
3 - نفسه، ص: 158.
4 - العالم ومأزقه، منطق الصدام ولغة التداول، علي حرب، ص: 159. 
5 - العالم ومأزقه، منطق الصدام ولغة التداول، علي حرب، ص: 163.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 246 (صفحة 12)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها