غازي القصيبي

القامةُ الفكرية والأدبية والإدارية الكبيرة

عبد المجيد إبراهيم قاسم

وُلِد الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي في مدينة الهفوف، التابعة للأحساء في المملكة العربية السعودية، في الثاني من شهر آذار/ مارس، عام 1940 لأسرة ميسورة الحال، وقضى في المدينة سنوات عمره الأولى وسط بيئة "مشبعة بالكآبة" كما يصفها هو، فقد توفي جدّه لوالدته قبيل ولادته، ثم توفيت والدته بعد تسعة أشهر من ولادته، وكان -في سنواته الأولى- بلا أقران يؤنسونه ويلعبون معه، الأمر الذي ترك أثراً كبيراً على شخصيته. يقول غازي(1): (ترعرعت متأرجحاً بين قطبين أولهما أبي، وكان يتسم بالشدّة والصرامة -كان الخروج إلى الشارع محرّماً على سبيل المثال- وثانيهما جدّتي لأمّي، وكانت تتصف بالحنان المفرط والشفقة المتناهية على الصغير اليتيم). لم تستمر أجواء الكآبة هذه في حياته طويلاً، فقد ساعدته المدرسة على أن يتحرّر من تلك الصبغة التي نشأ بها، ليجد نفسه فيها بين أصدقاء عقد معهم صحبة جميلة، وقد قال في مسقط رأسه قصائد عدّة، كان من أبرزها "أم النخيل"، التي ذيّلها بعبارة "إلى أمّي الهفوف"، وأول أبياتها:
أتذكـــرين صبيـّــــاً عــــاد مكتهـــــــلاً   مسربلاً بعـذاب الكون مشتمــــــلا؟

أشعاره هطلت دمعاً.. وكم رقصت   على العيون بحيرات الهوى جــــــــــذلا

سافر مع عائلته إلى البحرين، وتابع في مدارس عاصمتها مراحل دراسته الأساسية، والمنامة هي المدينة التي حظيت بمكانة أثيرة في نفسه، والتي عاد منها إلى السعودية ليكمل مسيرة حياته بعد إنهاء دراسته الثانوية، ثم عاد إليها -مرّة أخرى- كسفير للملكة العربية السعودية، ثم كان اختيارُه لها وقضاؤه آخر فترة نقاهة فيها قبيل وفاته دليلاً واضحاً على تعلّقه وشغفه الكبيرين بها.

سافر إلى القاهرة لدراسة الحقوق في جامعتها، وحصل على الإجازة في القانون عام 1961، وهي الفترة التي يصفها بأنها كانت "غنيّة بلا حدود". بعد عودته إلى السعودية كان يخطّط لمتابعة دراسته في الخارج، وأصرّ على ذلك رغم العروض الوظيفية التي قدّمت له، فكان له ما أراد بمساعدة والده، حيث اتجه نحو "لوس أنجلوس" في الولايات المتحدة الأميركية، عام 1962، وتحصّل بعد ثلاث سنوات على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة "جنوب كاليفورنيا". وأثناء دراسته هناك جرّب "غازي" منصباً إدارياً للمرة الأولى، وذلك بعد فوزه في انتخابات جمعية الطلاب العرب في الجامعة.

 



نتاجه الإبداعـيّ والفكـريّ

امتاز "القصيبي" بالموهبة الإبداعية الحقيقية، والحضور الثقافي والإعلامي المؤثر، وأسهم -خلال مسيرته الطويلة- بدور كبير في إثراء الحركة الفكرية والأدبية والثقافية عموماً، وعدّ الأديب المبدع والروائي والشاعر الفذّ؛ ظاهرة رائدة في المشهد الأدبي العربي عموماً، وعَلماً من أعلامه الشامخة. لم تنحصر إسهامات "محور السيرة" في جانب واحد من جوانب الكتابة، بل إنه تناول معظم المجالات، وقد أثرى الساحة الثقافية العربية بكمٍّ من النتاجات والمؤلفات الفكرية والأدبية والإبداعية، فتحت آفاقاً جديدة في الأدب العربي الحديث، وحظيت بعناية واهتمام النقّاد والقرّاء في العالم العربي برمّته.

لقد توزّعت مؤلفاته ونتاجاته بين حقول الفكر والأدب شعراً ونثراً، إلى جانب الأبحاث والدراسات والإسهامات الصحافية، ولم يشغله عمله الوزاري أو الدبلوماسي أو المهام الرسمية التي كان يكلّف بها عن الكتابة، ولم تقف حائلاً بينه وبينها، فكان شاعراً مبدعاً، وفارساً متميّزاً من فرسان القصيدة العربية، وشكّلت تجربته الشعرية ظاهرة متفرّدة وعلامة فارقة في مسيرة الشعر العربي، وفتحت نتاجاته الجريئة في هذا الفنّ الأدبي الأبواب مشرعةً على عالمٍ يموج بالعواطف الإنسانية، وتستقيم فيه منظومة القيم العربية النبيلة، واستطاع -الشاعر المتّقد بالأحاسيس- بتجاربه الإنسانية الحيّة، ولغته الشعرية المتميّزة، وبراعته في تجسيد المواقف والأحداث، استطاع أن يبلغ مستويات راقية من الحضور والتميّز والتألق.

من أهمّ إصدارات "القصيبي شعراً: قطرات من ظمأ 1965، معركة بلا راية 1971، أنت الرياض 1980، الحمى 1983، العودة إلى الأماكن القديمة 1985، 100 ورقة ورد 1986، ورود على ضفائر سناء 1987، المجموعة الشعرية الكاملة 1987، مرثية فارس سابق 1990، سحيم، مطولة شعرية 1996، يا فدى ناظريك 2001، قراءة في وجه لندن، 2002، عقد من الحجارة 2004، حديقة الغروب 2007، ومجموعات شعرية أخرى.

 لقد مزج القصيبي الشاعر -بحسب معظم الأدباء والنقّاد- بين الرومانسية والواقعية، وزاوج بين القصيدة العمودية والتفعيلة، وفتح مسارب جديدة في الشعر السعودي. فعن الرومانسية في شعره مثلاً، يقول د. عبد القادر القط(2): (القصيبي من الشعراء السعوديين بل الخليجين القلائل الذي استطاع أن يصور حنينه وغربته وقلقه النفسي أصدق تصوير، بل هو من أقدر الشعراء الشباب على تصوير تلك النزعة الرومانسية من حنين وغربة وقلق في أسلوب يجمع بين رصانة القديم وأصالته وإيقاعه الشجي وشفافية العبارة وحداثة بنائها وقدرتها على الإيحاء، وبمستوى فوق المستوى الأول للمعنى والصورة). ويقول د. مسعد زياد(3): ومن النماذج الشعرية الوجدانية التي واءم فيها القصيبي بين الأصالة والمعاصرة، إلى جانب ما تحويه من شوق وحنين قوله من قصيدة بعنوان: أغنية للخليج:
أتيت أرقب ميعادي مع القمــــــــــر      يا ساحـر المـــــــوج والشطان والجــــزر

هديتي رعشتا شوق .. وقافيـــــــــة      حملتها كل ما عانيـــــت في سفـــــــري

أتيت أمرح فوق الرمل.. أنبشــــــــه      عن ذكرياتي القدامى عن هوى صغري

خليج ما وشوش المحار في أذنــي    إلا سمعتـــــــك صــــــــوتاً دافئ الخـــدر

ولا تـــــــــرنم ملامــــح بأغنيــــــــــة       إلا وضحت أغاني الغوص في السهـر

حتى أتيتك فامسح بالنسيم على       آهات جرحي ورش الموج في شـــــــرري

وأبدع الأديب الراحل في كتابة الرواية، بل عدّ رائداً من رواد الكتابة العربية المعاصرة في هذا المجال، وقد شكّلت تجربتاه الأولى والثانية منعطفاً مهماً في الرواية السعودية، ومهدتا الطريق للطفرة الروائية اللاحقة. كتب في الرواية: شقة الحرية 1994، العصفورية 1996، اللتين أعيد طباعتهما مرّات ومرّات. دنسكو 2000، أبو شلاخ البرمائي 2000، رجل جاء وذهب 2005، هما 2001، سلمى 2002، سعادة السفير 2003، حكاية حب 2004، الجنية 2007 آخر إصداراته الروائية.

كما شكّل القصيبي هرماً فكرياً كبيراً في بلاده، وطاقة إنسانية خلّاقة، فقدّم العديد من المؤلفات في المجال الفكري كالدراسات والأبحاث والمقالات السياسية والاجتماعية والتنموية، له في الدراسات: أزمة الخليج محاولة للفهم 1991، من هم الشعراء الذين يتّبعهم الغاوون 1996، أمريكا والسعودية حملة إعلامية أم مواجهة سياسية 2002، ثورة في السنة النبوية 2003، التنمية الأسئلة الكبرى 2004.

وفي الدراسات النقدية: قصائد أعجبتني 1983، صوت من الخليج 1998، مع ناجي.. ومعها 1999، بيت 2002، الخليج يتحدث شعراً ونثراً 2003، عن قبيلتي أحدثكم 2006 وكتب في المقالات: عن هذا وذاك 1981، في رأيي المتواضع 1984، التنمية وجهاً لوجه 1989، المزيد من رأيي المتواضع 1990، الأسطورة 1997، العولمة والهوية الوطنية 2002، 100 ورقة ياسمين 2006، الغزو الثقافي ومقالات أخرى 2006، المواسم 2007، باي باي لندن 2008.

وكتب في المذكرات والسيرة: سيرة شعرية 1984، حياة في الإدارة 1999، الذي يعدّ توثيقاً لسيرته الإدارية وكفاحه الإداري منذ أن كان معيداً في الجامعة وحتى تعيينه سفيراً في لندن، ويعتبره الكثيرون من الكتب النادرة في هذا المجال.

وكتب في أدب الرحلات: العودة سائحاً إلى كاليفورنيا 1997. وفي المختارات والفكاهة: في خيمة شاعر 1988، الإلمام بغزل الفقهاء 1996، استجواب 1996، واستراحة الخميس 2000 وله في الترجمة: العلاقات الدولية، 1984، المؤمن الصادق 2010 وكلاهما من الانجليزية.

كما قدّم الكثير من الإسهامات الصحافية التي نشرت في كثير من الصحف والمجلات العربية، كان أشهرها سلسلة مقالات "في عين العاصفة" التي نُشرَت في جريدة "الشرق الأوسط" إبان حرب الخليج الثانية.

ومن قصائده "حين تغيبين" يقول فيها:
يبعثرني الشوق حين تغيبين
فوق الجبال وتحت البحار
ويرسلني في هبوب الرياح
وفي عاصفات الغبار
ويزرعني في السحاب الثقال
وراء المدار

* * *

وأواه لو تبصرين العذاب المكبل
في نظراتي.. وفي كلماتي
وأواه لو تلمحين الخناجر
ترضع من ضحكاتي

* * *

وأعجب كيف أخوض الجموع بدونك
وأرقص فوق الحراب بدونك
أمثل في مسرح الزيف ألف رواية
وأهذي بألف حكاية
وأرجع عند انسدال المساء
فأحلم أني رميت شقائي بليل عيونك
ونمت.. ونام الشقاء

كما كتب الأديب المبدع بعض القصائد الرائعة للأطفال، كالحكاية الشعرية: "مُهر الرياحْ"، التي تقول إحدى مقاطعها(4):
كان اسمه مهر الرياحْ
كان وسيماً أبيضاً
ومُشرَباً بزرقةٍ
كأوّلِ الصباحْ
وكان شعر عثرْفهْ
غاباً من الرياحْ
وكانَ في صهيلهِ
تمّرد.. ونشوة شهيّة
تثيرُ في الصدور شهوة الكفاحْ
وكان يجري لا تكادُ العينُ أن تراهْ
الله ما أحلاهْ!
الله! ما أحلاهْ!



نشاطه الاجتماعـيّ والإنسانـيّ

يسجل التاريخ للدكتور أن جُمعت في شخصيته قدرات إدارية هائلة، ومواهب إبداعية رائعة، وتمكّنه من تحقيق توازن - قلّ نظيره - بين طرفين رئيسيين في معادلة حياته، فكان ناجحاً في أداء وظائفه الإدارية والحكومية، وفي الوقت نفسه كاتباً مبدعاً في الأدب والثقافة، فهو المستشار والأستاذ الأكاديمي والوزير والسفير، وهو الأديب والمفكّر والكاتب الصحافي. كما يسجّل له أنه كان صاحب مبادئ وأخلاق عالية، ونزيهاً وكان أميناً ومثالاً حيّاً على الصدق قولاً وعملاً، والإحساس العالي بالمسؤولية. وكان رجلاً مخلصاً لبلاده، مفتخراً بالانتماء إلى أمتّه وموروثها الثقافي والروحي، ومهتماً بقضاياها المصيرية، خاصة القضية الفلسطينية، فكان من أبرز الأصوات الداعمة لها والمساندة لعدالتها في المحافل الدولية، وقد كتب عن مأساتها ومشروعية النضال في سبيلها العديد من القصائد، كما ساند كلّ القضايا العربية والعالمية العادلة. يقول في قصيدة له:
وداعاً.. وداعاً
فهذا هو القدس ضعنا وضاعا
وداعاً.. وداعاً
فها هي ذي ضفّة النهر في يدهم
أمّة اشتروها وباعا
وداعاً.. وداعاً
فهذا تراب فلسطين يقطر دمعاً
ويندي التياعا

كان القصيبي عضواً فعّالاً في الكثير من المجالس والهيئات الحكومية، وكانت له اهتمامات اجتماعية عديدة، كمشاركته في تأسيس "جمعية الأطفال المعوقين" في السعودية، والتي كان صاحب فكرتها وأهمّ داعميها، وقد حصل على عدد من الأوسمة الرفيعة من دول عربية وعالمية منها: وسام الملك عبدالعزيز، ووسام الكويت ذو الوشاح من الطبقة الممتازة، وغيرها الكثير من الأوسمة التي لا يحظى بها سوى النجباء والأفذاذ من أمثاله.

وفاته

توفى غازي القصيبي في يوم الأحد 5 رمضان 1431 هـ الموافق 15 أغسطس/آب عام 2010، في مستشفى الملك فيصل التخصصيّ بالرياض، بعد صراع مع المرض، وكانت هذه الكلمات من آخر ما كتبه وهو على فراش المرض:
أغالب الليل الحزين الطويل
أغالب الداء المقيم الوبيل
أغالب الآلام مهما طـغت
بحسبي الله ونعم الوكيل
فحسبي الله قبيل الشروق
وحسبي الله بُعيد الأصيل..
الله يدري أنني مــؤمن
في عمق قلبي رهبة للجليل

 


الهوامش والمراجع
1- دراسة بعنوان: الدكتور غازي القصيبي، بدايته ومراحل عمره، الكاتب: رباح القويعي، نشرت في جريدة شمس، العدد الصادر في رمضان، عام 1427هـ
2- غازي القصيبي ورومانسية بلا حدود، مقالة للدكتور: زياد مسعد. نقلاً عن: الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص: 467.
3- غازي القصيبي ورومانسية بلا حدود، مصدر سابق. نقلاً عن: المجموعة الشعرية الكاملة للقصيبي، ص: 330.
4- شعر الأطفال في الوطن العربي (دراسة تاريخية نقديَّة)، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق. ط1/ 2008‏‏ تأليف: بيان الصفدي، ص: 439، نقلاً عن معجم البابطين 6/719.
5- الموقع الرسمي للدكتور: غازي عبد الرحمن القصيبي.
6- الدكتور غازي القصيبي: بدايته ومراحل عمره، دراسة للكاتب: رباح القويعي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها