الأرقام .. كيف‭ ‬اخترعها‭ ‬البشـر؟‭ ‬وكيف‭ ‬غيّرت‭ ‬عالمنا؟

حــوار مـع كايلِب إيفِيرت

ترجمة: زينة عبدالله تركاوي

أجرت‭ ‬الحوار‭: ‬لورين‭ ‬بواسونو


«الأرقام اختراع بشري»، وهي بحسب كايلب إيفيرت «ليست شيئاً نحصل عليه من الطبيعة بصورة تلقائية». ففي اللحظة التي تتعلم فيها الأرقام، يصعب أن يتحرر عقلك من قيودها. إذ تبدو طبيعية وفطرية. أمرٌ  يولد معه جميع البشر، ولكن حين عمل كايلب إيفيرت الأستاذ المشارك في جامعة ميامي وأساتذة آخرون في علم الإنسانيات مع سكان الأمازون الأصليين المعروفين بقبائل البيراها (Pirahã) تبين لهم أن أفراد تلك القبيلة لا يملكون أية كلمة للتعبير باتساق عن أي كمية، ولا حتى كلمة واحدة.

طور الباحثون عدداً من الاختبارات لتُجرى على طائفة من أصحاء البدن والعقل من أفراد قبيلة البيراها البالغين، وفيها وضع علماء الإنسانيات صفاً من البطاريات على الطاولة، وطلبوا من المشاركين أن يضعوا العدد نفسه في صفٍّ موازٍ على الجانب الآخر من الطاولة. وحين عرض عليهم بطارية واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً، كان بمقدورهم تنفيذ المهمة بيسر، ولكن مع ارتفاع عدد البطاريات إلى أربع أو أكثر بدؤوا بارتكاب الأخطاء، إذ كلما ازداد عدد البطاريات في الصف ازدادت أخطاؤهم. ولاحظ الباحثون أمراً مذهلاً، وهو أن افتقار أفراد القبيلة إلى الأرقام قاد إلى عدم قدرتهم على التمييز بدقة ما بين الكميات فوق الثلاث. وكما كتب إيفيرت في كتابه الجديد (الأرقام وتكويننا Numbers and the Making of Us) لا ترتبط المفاهيم الرياضية عضوياً بالحالة البشرية، بل يمكن تعلمها واكتسابها عبر اللغة والثقافة. وإذا ما كانت الأرقام أمراً نتعلمه ولا نرثه جينياً فذاك يعني أنها ليست من «عتاد» العقل الإنساني، بل هي أقرب ما تكون إلى «برنامجٍ حاسوبي» في عقولنا، أو خاصة لتطبيق برمجي كنا قد طورناه بأنفسنا. ولمعرفة المزيد عن اختراع الأرقام ودورها الكبير الذي تلعبه في المجتمعات الإنسانية، يدور هذا الحوار مع إيفيرت حول كتابه الجديد.

 

:: العالم‭ ‬بلا‭ ‬أرقام ::

 

كيف‭ ‬أصبحت‭ ‬مهتماً‭ ‬باختراع‭ ‬الأرقام؟

•‭ ‬جاء‭ ‬ذلك‭ ‬بشكلٍ‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬لغات‭ ‬منطقة‭ ‬حوض‭ ‬الأمازون،‭ ‬فمواجهتي‭ ‬للغات‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬أرقاماً‭ ‬أو‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬قادتني‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬حول‭ ‬ماهية‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الأرقام‭ ‬وتقدير‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الإنسان‭ ‬وليست‭ ‬بالشيء‭ ‬الذي‭ ‬نحصل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الطبيعة‭ ‬تلقائياً‭.‬

 

تحدثت‭ ‬مطولاً‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬إعجابنا‭ ‬بأيدينا‭ - ‬والأصابع‭ ‬الخمس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منها‭ - ‬قد‭ ‬ساعد‭ ‬الى‭ ‬حدٍ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬اختراع‭ ‬الأرقام،‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬استخدمنا‭ ‬الأرقام‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬اكتشافاتٍ‭ ‬أخرى‭. ‬إذاً‭ ‬من‭ ‬جاء‭ ‬أولاً،‭ ‬الأرقام‭ ‬أم‭ ‬الحساب؟

•‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬اختراع‭ ‬الأرقام‭ ‬يسبب‭ ‬بعض‭ ‬الإرباك،‭ ‬هناك‭ ‬وبطريقة‭ ‬لا‭ ‬لبس‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬الأنماط‭ ‬في‭ ‬الطبيعة،‭ ‬واختراعنا‭ ‬للأرقام‭ ‬سمح‭ ‬لنا‭ ‬بالتعرف‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأنماط‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬لنصل‭ ‬إليها‭ ‬لولا‭ ‬الأرقام‭. ‬فمثلاً،‭ ‬لمحيط‭ ‬الدائرة‭ ‬وقطرها‭ ‬نسبة‭ ‬ثابتة،‭ ‬وذلك‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬الدوائر‭ ‬جميعها،‭ ‬ولكن‭ ‬ملاحظة‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الأرقام‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬للمستحيل‭. ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأنماط‭ ‬الموجودة‭ ‬فعلاً‭ ‬في‭ ‬الطبيعة،‭ ‬مثل‭ ‬Pi‭. ‬تلك‭ ‬الأمور‭ ‬موجودة‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬بإمكاننا‭ ‬ملاحظتها‭ ‬دوماً‭ ‬أم‭ ‬لا‭. ‬لكن‭ ‬عندما‭ ‬نمتلك‭ ‬أرقاماً‭ ‬يصبح‭ ‬بإمكاننا‭ ‬دوماً‭ ‬التمييز‭ ‬بينها،‭ ‬وسيسمح‭ ‬لنا‭ ‬ذلك‭ ‬باكتشاف‭ ‬تلك‭ ‬الأنماط‭ ‬المذهلة‭ ‬والمفيدة‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬لنجدها‭ ‬بدقة‭ ‬بغير‭ ‬ذلك‭.‬

الأرقام‭ ‬هي‭ ‬ذاك‭ ‬الاختراع‭ ‬السهل‭ ‬فعلاً‭. ‬إنها‭ ‬المفردات‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬مفاهيم‭ ‬أدواتٍ‭ ‬معرفية‭. ‬وكم‭ ‬هو‭ ‬مذهل‭ ‬التفكير‭ ‬بما‭ ‬مكنتنا‭ ‬من‭ ‬فعله‭ ‬بوصفنا‭ ‬جنساً‭ (‬بشرياً‭)‬،‭ ‬فبدونها‭ ‬سنعاني‭ ‬وباستمرار‭ ‬في‭ ‬التمييز‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السبعة‭ ‬والثمانية،‭ ‬وبفضلها‭ ‬استطعنا‭ ‬أن‭ ‬نرسل‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬القمر‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يمكننا‭ ‬ردّه‭ ‬الى‭ ‬شخصٍ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬مكانٍ‭ ‬ما‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬انظر،‭ ‬لدينا‭ ‬هنا‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬يساوي‭ ‬يداً‮»‬‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬تلك‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬أو‭ ‬خطواتٍ‭ ‬أولى‭ ‬مشابهة‭ ‬في‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬اختراع‭ ‬الأرقام‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الخطوات‭ ‬الأخرى‭. ‬ويعتقد‭ ‬كثير‭ ‬منا‭ ‬أنه‭ ‬لـمّا‭ ‬كانت‭ ‬الرياضيات‭ ‬مفصلة‭ ‬جداً‭ ‬ولأنّ‭ ‬الأرقام‭ ‬موجودة،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬أمورٌ‭ ‬يمكن‭ ‬ملاحظتها‭ (‬لا‭ ‬اختراعها‭). ‬مستوى‭ ‬ذكائك‭ ‬لا‭ ‬يهم،‭ ‬لأنّه‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تمتلك‭ ‬الأرقام‭ ‬فلن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الإدراك‭. ‬وفي‭ ‬الغالب،‭ ‬ربما‭ ‬ابتدأ‭ ‬هذا‭ ‬الاختراع‭ ‬بإدراكٍ‭ ‬عابر‭ (‬وجود‭ ‬خمس‭ ‬أصابع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬يد‭ ‬لديك‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تنسب‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬ما‭ ‬فإنّ‭ ‬ذلك‭ ‬الإدراك‭ ‬سيمر‭ ‬سريعاً‭ ‬ويموتُ‭ ‬مع‭ ‬أصحابه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬الجيل‭ ‬التالي‭.‬

 

:: فـي‭ ‬اليد‭ ‬خمسة‭ ‬أشياء ::

 

من‭ ‬القرائن‭ ‬الأخرى‭ ‬المثيرة‭ ‬للاهتمام؛‭ ‬الصلة‭ ‬بين‭ ‬الأرقام‭ ‬وبين‭ ‬الزراعة‭ ‬والتجارة‭. ‬أيها‭ ‬يأتي‭ ‬أولاً؟

•‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬السيناريو‭ ‬الأكثر‭ ‬رجحاناً‭ ‬هو‭ ‬التطور‭ ‬المشترك‭. ‬فأنت‭ ‬تطور‭ ‬الأرقام‭ ‬لتسمح‭ ‬لك‭ ‬بالتجارة‭ ‬بطرقٍ‭  ‬أكثر‭ ‬تحديداً،‭ ‬وبتسهيله‭ ‬أموراً‭ ‬كالتجارة‭ ‬والزراعة‭ ‬فإنّ‭ ‬ذلك‭ ‬يضغط‭ ‬أكثر‭ ‬لاختراع‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأرقام‭. ‬وبدورها‭ ‬ستسمح‭ ‬تلك‭ ‬النظم‭ ‬الرقمية‭ ‬المعدلة‭ ‬ببروز‭ ‬طرائق‭ ‬جديدةٍ‭ ‬في‭ ‬التجارة‭ ‬وخرائط‭ ‬أكثر‭ ‬دقة،‭ ‬وبذلك‭ ‬يُغذي‭ ‬كلّ‭ ‬منهما‭ ‬الآخر‭. ‬يبدو‭ ‬ذلك‭ ‬شبيهاً‭ ‬بمثال‭ ‬البيضة‭ ‬والدجاجة‭. ‬ربما‭ ‬أتت‭ ‬الأرقام‭ ‬أولاً،‭ ‬وإلّا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬بالغة‭ ‬المتانة‭ ‬حتى‭ ‬تُمكّن‭ ‬أشكالَ‭ ‬سلوكٍ‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬الظهور‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬البداية‭ - ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭ - ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬امتلاك‭ ‬الناس‭ ‬الرقم‭ ‬خمسة،‭ ‬فبمجرد‭ ‬معرفتهم‭ ‬لكيفية‭ ‬البناء‭ ‬على‭ ‬أمور‭ ‬كالرقم‭ ‬‮«‬خمسة‮»‬‭ ‬يصبح‭ ‬بإمكانهم‭ ‬بناء‭ ‬وعيهم‭ ‬الرقمي‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭. ‬ويُعَدّ‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬المحوري‭ (‬في‭ ‬اليد‭ ‬خمسة‭ ‬أشياء‭) ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭ ‬تسارعاً‭ ‬فكرياً‭.‬

 

مـا‭ ‬حجم‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬تلعبه‭ ‬الأرقام‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬وثقافتنا؟

•‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً،‭ ‬فهي‭ ‬تمكِّن‭ ‬جميع‭ ‬التقانات‭ ‬المادية‭. ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬مساعدتها‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬بالكميات‭ ‬وتغيير‭ ‬حياتنا‭ ‬الذهنية،‭ ‬فهي‭ ‬سمحت‭ ‬لنا‭ ‬بتطوير‭ ‬مهارات‭ ‬خَلقت‭ ‬الزراعة‭. ‬فقبيلة‭ (‬البيراها‭) ‬تملك‭ ‬تقنيات‭ ‬القطع‭ ‬والحرق،‭ ‬لكنهم‭ ‬يحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬إن‭ ‬أرادوا‭ ‬إنشاء‭ ‬نظامٍ‭ ‬زراعي‭. ‬لو‭ ‬ألقيت‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬قبائل‭ ‬الأنكا‭ ‬والمايا‭ ‬ستجد‭ ‬أنّ‭ ‬اعتمادهم‭ ‬على‭ ‬الأرقام‭ ‬والحساب‭ ‬كبير‭. ‬فالأرقام‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬بوابة‭ ‬مهمة‭ ‬وأساسية‭ ‬لأشكال‭ ‬الحياة‭ ‬هذه‭ ‬وللحضارات‭ ‬المادية‭ ‬التي‭ ‬نتشاركها‭ ‬الآن‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يمتلكها‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬مرحلةٍ‭ ‬ما‭. ‬لقد‭ ‬عاش‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬مجموعاتٍ‭ ‬صغيرةٍ‭ ‬نسبياً‭ ‬قبل‭ ‬ظهور‭ ‬الممالك‭ - ‬قبل‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬10‭,‬000‭ ‬سنةٍ‭ ‬مضت‭ - ‬ثم‭ ‬برزت‭ ‬الممالك‭ ‬بصورة‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬الزراعة‭. ‬إذاً‭ ‬فالأرقام‭ ‬أساسية‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬حولك‭ ‬مما‭ ‬أنتجته‭ ‬التقانة‭ ‬والطب‭. ‬لقد‭ ‬صدر‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ - ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬نظام‭ ‬الكتابة‭ - ‬عن‭ ‬سلوك‭ ‬غذّته‭ ‬الأرقام‭ ‬بصورة‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬نطور‭ ‬الكتابة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نطور‭ ‬الأرقام‭.‬

 

كيف‭ ‬أوصلتنا‭ ‬الأرقام‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة؟

•‭ ‬تم‭ ‬اختراع‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬حالاتٍ‭ ‬قليلة‭ ‬فحسب،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الوسطى‭ ‬وبلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين‭ ‬والصين،‭ ‬ثم‭ ‬تطور‭ ‬عنها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬نظم‭ ‬الكتابة‭. ‬ومن‭ ‬المثير‭ ‬للاهتمام‭ ‬أن‭ ‬الأرقام‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الرموز،‭ ‬إذ‭ ‬تمحورت‭ ‬تلك‭ ‬الكتابات‭ ‬إلى‭ ‬حدٍّ‭ ‬بعيد‭ ‬حول‭ ‬الأرقام‭. ‬فالنقوش‭ ‬الكتابية‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين‭ ‬والتي‭ ‬يعود‭ ‬تاريخها‭ ‬الى‭ ‬5‭,‬000‭ ‬عام‭ ‬مضت‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬الكميات‭. ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬صادقاً،‭ ‬فكون‭ ‬الكتابة‭ ‬اخترعت‭ ‬في‭ ‬حالاتٍ‭ ‬قليلة‭ ‬فقط‭ ‬قد‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالأرقام‭ ‬مجرد‭ ‬مصادفة‭. ‬تلك‭ ‬مسألةٌ‭ ‬مثيرةٌ‭ ‬للجدل،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أسباباً‭ ‬وجيهة‭ ‬للاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬الأرقام‭ ‬كانت‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬اختراع‭ ‬الكتابة،‭ ‬وأظن‭ ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬العلماء‭ ‬سيقول‭: ‬ذلك‭ ‬أمرٌ‭ ‬محتمل،‭ ‬ولكننا‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬الحقيقة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬اليقين‭.‬

 

:: الببغاء‭ ‬يجمع‭ ‬الأرقام ::

 

أشـرت‭ ‬إلى‭ ‬أمرٍ‭ ‬آخر‭ ‬وهو‭: ‬هل‭ ‬الأرقام‭ ‬غريزةٌ‭ ‬إنسانية‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬وهل‭ ‬بإمكان‭ ‬الكائنات‭ ‬الأخرى‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القدرة؟‭ ‬هل‭ ‬بإمكان‭ ‬الطيور‭ ‬والحيوانات‭ ‬الأولية‭ ‬ابتكار‭ ‬الأرقام‭ ‬أيضاً؟

•‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬بإمكانها‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬بأنفسها،‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬ذلك‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬ولا‭ ‬نملك‭ ‬دليلاً‭ ‬ملموساً‭ ‬على‭ ‬إمكانية‭ ‬قيامها‭ ‬بذلك‭ ‬بمفردها‭. ‬لو‭ ‬ألقيت‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬أليكس‭ - ‬الببغاء‭ ‬الإفريقي‭ ‬الرمادي‭ ‬اللون‭ ‬والذي‭ ‬درسته‭ ‬عالمة‭ ‬النفس‭ ‬آيرين‭ ‬بيبربرغ‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬–‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬بإمكانه‭ ‬فعله‭ ‬لوجدته‭ ‬مثيراً‭ ‬للإعجاب،‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بالعدّ‭ ‬والجمع‭ ‬بانتظام،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يطور‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬مفردات‭ ‬الأرقام‭ ‬تلك‭ ‬إلّا‭ ‬مع‭ ‬التدريب‭ ‬المستمر‭. ‬بمعنىً‭ ‬آخر،‭ ‬يمكن‭ ‬نقل‭ ‬تلك‭ ‬المقدرة‭ ‬إلى‭ ‬الكائنات‭ ‬الأخرى،‭ ‬فبعض‭ ‬قرود‭ ‬الشمبانزي‭ ‬تبدو‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تعلم‭ ‬الأرقام‭ ‬ومبادئ‭ ‬الحساب‭ ‬الأساسية،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬بمفردها‭. ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬فإنّ‭ ‬تلك‭ ‬الكائنات‭ ‬تشبهنا‭ ‬بقدرتها‭ ‬على‭ ‬التعلم‭ ‬إن‭ ‬تم‭ ‬تدريبها‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬سهولة‭ ‬ذلك‭ ‬يبقى‭ ‬مفتوحاً‭. ‬ويبدو‭ ‬الأمر‭ ‬سهلاً‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا‭ ‬لأننا‭ ‬تعلمنا‭ ‬الأرقام‭ ‬في‭ ‬سنٍّ‭ ‬مبكرة،‭ ‬لكن‭ ‬إن‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬الأطفال‭ ‬فستجد‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬فطرية‭.‬

 

مـا‭ ‬هي‭ ‬الأبحاث‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬ترغب‭ ‬برؤيتها‭ ‬تنفذ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال؟

•‭ ‬عندما‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬المجموعات‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬نعدها‭ ‬أساس‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬عن‭ ‬الدماغ‭ ‬تجدها‭ ‬تشكل‭ ‬طيفاً‭ ‬ضيقاً‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭: ‬كطلاب‭ ‬المعاهد‭ ‬الأمريكيين‭ ‬والأوروبيين‭ ‬وبعض‭ ‬اليابانيين،‭ ‬فهم‭ ‬أناس‭ ‬يمثلون‭ ‬ثقافات‭ ‬ومجتمعات‭ ‬معينة‭ ‬تمثيلاً‭ ‬حسناً‭. ‬وسيكون‭ ‬من‭ ‬الرائع‭ ‬إشراك‭ ‬سكان‭ ‬الأمازون‭ ‬والسكان‭ ‬الأصليين‭ ‬في‭ ‬دراسات‭ ‬الرنين‭ ‬المغناطيسي‭ ‬الوظيفية‭ ‬fMRI‭ ‬لنرى‭ ‬مدى‭ ‬اختلافها‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬أخذنا‭ ‬المرونة‭ ‬التي‭ ‬تتمتع‭ ‬بها‭ ‬قشرة‭ ‬الدماغ‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬الثقافات‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬الدماغ‭.‬

 

مـا‭ ‬الذي‭ ‬تأمل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬الناس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب؟

•‭ ‬آمل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يستمتعوا‭ ‬بقراءته،‭ ‬وأن‭ ‬يتبينوا‭ ‬بصورة‭ ‬أفضل‭ ‬أنّ‭ ‬كثيراً‭ ‬مما‭ ‬يرونه‭ ‬أساساً‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬نتاج‭ ‬موروثات‭ ‬ثقافية‭ ‬محددة‭. ‬لقد‭ ‬توارثنا‭ ‬لآلاف‭ ‬السنين‭ ‬أموراً‭ ‬من‭ ‬حضاراتٍ‭ ‬معينة‭ ‬كالهنود‭ ‬الأوروبيين‭ ‬الذين‭ ‬ما‭ ‬نزال‭ ‬نعتمد‭ ‬على‭ ‬نظمهم‭ ‬الرقمية‭ ‬المرتكزة‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬العشرات‭. ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الناس‭ ‬ويعوا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬فجأةً،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬البشر‭ ‬تطوير‭ ‬النظام‭ ‬وتحسينه‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬وكنا‭ ‬نحن‭ ‬المستفيدين‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬الأمور‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬نظرتنا‭ ‬إلى‭ ‬أنفسنا‭ ‬كجنسٍ‭ ‬مميز‭ - ‬ونحن‭ ‬كذلك‭ ‬فعلاً‭ - ‬واعتقادنا‭ ‬بأننا‭ ‬أصحاب‭ ‬أدمغة‭ ‬كبيرة‭ ‬فعلاً‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬صحيح‭ ‬الى‭ ‬حدّ‭ ‬ما،‭ ‬فإن‭ ‬الحقيقة‭ ‬الأكبر‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬تميزنا‭ ‬لا‭ ‬ينبع‭ ‬مما‭ ‬نقدمه‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الوراثية،‭ ‬وإنما‭ ‬الثقافة‭ ‬واللغة‭ ‬هما‭ ‬ما‭ ‬أعطانا‭ ‬ذلك‭ ‬التمييز،‭ ‬فما‭ ‬يعانيه‭ ‬بعض‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬عند‭ ‬تعاملهم‭ ‬مع‭ ‬الكميات‭ ‬لا‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬نقص‭ ‬جيني‭ ‬لديهم،‭ ‬فهذا‭ ‬حال‭ ‬البشر‭ ‬جميعاً‭. ‬نحن‭ ‬نمتلك‭ ‬الأرقام‭ ‬فحسب‭.‬


المصدر‭:‬
http‭://‬www.smithsonianmag.com/innovation/how-humans-invented-numbersand-how-numbers-reshaped-our-world-180962485‭/‬

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 248 (صفحة 73)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها