المخطوطات‭ ‬المفقودة‭ ‬فـي‭ ‬المغرب.. المفهوم‭ ‬والأسباب

أحمد السعيدي

يقدّر المختصون ما نتداوله اليوم من نصوص التراث العربي الإسلامي بنحو %10، ما تبقى من ذلك ضائع أو مفقود.. ولا شك أن هذا الفقدان يشكل ثُلمة في عُرض تراثنا، ما يجعل الحاجة ماسّة إلى فعل الكثير لاسترداد ما ضاع بسنّ سبل علمية وحضارية لحفظ هويتنا العربية الإسلامية، وإبراز ما خفي من نصوص تراثنا في مختلف العلوم والفنون.
ونريد هنا أن ننبه إلى تلكم الظاهرة وبيان أسبابها ودواعيها (الإحراق، الإتلاف الذاتي، المحو بالماء، عدم استقرار الأوضاع السياسية والأمنية، الاختلاف العقدي، الآفات الطبيعية وغيرها..)، مع اقتراح السبل والاستراتيجيات الكفيلة باستعادة المفقود بواسطة البحث والتنقيب، والاستخراج، والترجمة، والفهرسة، ورقمنة رصيد الخزانات، ولم لا إطلاق مشروع هدفه البحث عن المخطوطات المفقودة وتحقيقها ودراستها..

 

***

 

:: فـي مفهوم المخطوط المفقود ::

لا بد من تعريف المصطلحين، فالمخطوط معروف وهو «الكتاب الذي كُتب باليد. مصطلح حديث ظهر مع ظهور الكتاب المطبوع»(1). أما «المفقود» ففيه ما يقال. ذلك أن النقاش مستمر بخصوص الوسم الدّال على المخطوط غير الموجود أو غير المتوافر.. فمؤتمر الإسكندرية الخامس أقرّ مصطلحاً جديداً هو «المخطوط المطوي»، وبعض المؤلفات السابقة تتحدث عن المخطوط أو الكتاب المفقود مثلاً في الفرنسية نجد مصطلح (Livre perdu(2 في كتاب: «الكتب المفقودة [الضائعة]، بحث ببليوغرافي في الكتب التي لم يعثر عليها». وفي الإنجليزية نلفي مصطلح  (Lost Book(3 في كتاب: «كتاب الكتب المفقودة (الضائعة): تاريخ غير مكتمل لكل الكتب التي لن تقرأها أبداً».

 

المفقود، الضائع، المطوي..، مـا دلالة هذه المصطلحات؟

المفقود من «فَقَدَ الشيءَ يَفْقِدُه فَقْداً وفِقْداناً وفقُوداً، فهو مَفْقُودٌ وفَقِيدٌ: عَدِمَه؛ وأَفْقَدَه الله إِياه». (لسان العرب: فقد). والضائع من «ضاعَ يَضيعُ ضَيْعاً، ويُكْسَرُ، وضَيْعَةً وضَياعاً، (بالفتح): هَلَكَ وَتَلِفَ، وضاع الشيءُ: صارَ مُهْمَلاً». (القاموس المحيط: ضاع). أما المطويّ والمطوية فهي «المؤلفات التي اختفت أو اختبأت لسبب أو لآخر. فالطيُّ لغةً هو نقيض (النشر) بمعنى الظهور، وهو اصطلاحاً: الإخفاء والاختباء والانزواء لبعض النصوص التي وصلنا عنوانها من دون محتواها، أو بلغنا عنها خبرٌ وفُقدتْ أعيانها..»(4).
كلا مصطلحي الفقدان والضياع جارٍ على الألسنة ويأتلف في عدم الشيء وتلفه وهلاكه..، لكن «المطوي» بمصطلحه هذا (= المفقود، الضائع..) مفهوم جديد، ذلك أنه متداول بهذه الصيغة (المطوي) التي ليست جديدة في علوم المخطوطات والتراث عموماً، من ذلك مصطلحات:

الطيّ وهو «الطريقة التي تطوى بها الفرخة إلى عدد معين من الطيات لكي تشكل ملزمة معينة».

«طيّ الكتاب ضمه وثنيه».

الكتاب المطوّى: «شكل مشرقي للكتاب مشكّل من أوراق مطوية بالتعاقب»(5).

الآن ندرك كيف استعمل مصطلح متداول للدلالة على مفهوم تراثي جديد، وهذا يطرح عدة إشكالات منها: أن الباحث في التراث وغيره لا يأمن الخلط بين الطيّ بمعنى الثني والضم..، والطيّ بمعنى الفقدان والضياع.. وسينصرف الذهن إلى أن الطي حالة فيزيائية أكثر منها ظاهرة ثقافية وحضارية.
وهذا أحد نقائص هذا المفهوم الجديد، ولو استُخدم مصطلحا «المفقود» أو «الضائع» لكان أسلم وأفضل، وقد ورد أحدهما في ورقة المؤتمر فيما نصه: «يأتي مؤتمرنا القادم هادفاً إلى الكشف عن (المطويِّ) من التراث، وعن (المنزوي) من المخطوطات، وعن (المفقود) من كتاب المعرفة العربية..»(6).
مهما يكن من أمر، فسواء استعمل هذا المصطلح أو ذلك، فكلها تفيد الدلالة على عدم وجود كتاب ما، إذن لا مُشَاحَّة في الاصطلاح.
 

:: فقدان المخطوطات: الظاهرة وأسبابها ::

تتعدد تلك الأسباب نتيجة آفات مختلفة منها الآفات البشرية (سوء الحفظ والاستعمال..) والبيولوجية (القوارض والحشرات الدقيقة والفطريات..) والفيزيائية (الحرارة والضوء والرطوبة..) نذكر منها: 
الإحراق: تسبب في إعدام المخطوطات تماماً، ففقدت مصادر فريدة لم تتح الفرصة لإيجاد نسخ عنها، وهكذا أحرق كتاب إحياء علوم الدين للغزّالي (505هـ) في عهد المرابطين وكتب ابن رشد الحفيد (595هـ) الفلسفية على عهد الموحدين وكتب ابن حزم (456هـ).. بناء على شهادات لعبد الواحد المراكشي في قوله: «ثم أمر بإخراجه (ابن رشد الحفيد) على حال سيئة وإبعاده وإبعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم؛ وكتبت عنه الكتبُ إلى البلاد بالتقدّم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها إلا ما كان من الطب والحساب..». وقوله: «ولما دخلتْ كتب أبي حامد الغزّالي -رحمه الله- المغرب أمر أمير المسلمين بإحراقها». كما أحرقت كتب المذهب: «وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرّد ما فيها من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والقرآن، ففعل ذلك، فأحرق منها جملة في سائر البلاد.. لقد شهدتُ منها وأنا يومئذ بمدينة فاس، يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار»(7). وأحرقت كتب ابن حزم أيضاً بأمر المعتضد بن عباد أمير إشبيلية، فردَّ على ذلك بأبيات له:

فَإِنْ تَحْرِقُوا القِرْطَاسَ لاَ تَحْرِقُوا الَّذِي                

                                                  تَضَمَّنَهُ القِرْطَاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيرُ مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي                    

                                                 وَيَنْزِلُ إِنْ أَنْزِلْ وَيُدْفَنُ فِي قَبْرِي
دَعُوْنِيَ مِنْ إِحْرَاقِ رقٍّ وكاغدٍ                         

                                                 وَقُولُوا بِعِلْمٍ كَي يَرَى النَّاسُ مَنْ يَدْرِي
وَإِلاَّ فَعُوْدُوا فِي المَكَاتِبِ بَدْأَةً                         

                                                 فَكَمْ دُونَ مَا تَبْغُونَ للهِ مِنْ سِتْرِ
كَذَاكَ النَّصَارَى يَحْرِقُونَ إِذَا عَلَتْ                     

                                                 أَكفُّهمُ القُرْآنَ فِي مُدُنِ الثَّغْرِ

الملاحظ أن إحراق الكتب أفقد بعضها مؤقتاً، والبعض الآخر إلى الأبد، ما أفقد التراث العربي الإسلامي جزءاً مهماً من هويته،  لكن أسباباً أخرى تثوي خلف ذلك منها: الاختلاف المذهبي والعقدي والتطاحنات والدسائس السياسية.. إلخ، ما يجعل الإحراق وسيلة لإفناء الكتاب إلى حين أو إلى الأبد.
الإعارة التي استنزفت رصيد كثير من خزائن الكتب العامة والخاصة في المغرب. نذكر أن ابن خلدون حبَّس كتاب العبر على خزانة القرويين في ثماني مجلدات لم يتبق منها خلال القرن التاسع عشر إلا اثنان. يقول أبو علي اليوسي: «وقد اختلفت أحوال الناس وأقوالهم في إعارة الكتب، فمنهم من كرّهها صوناً للكتب عن الضياع، وقديماً قيل: «آفة الكتب العارية»، ومنهم من يحضّ عليها لأنّها من التعاون على البرّ..». من مظاهر الاستنزاف التي ذكرنا، عدم إرجاع المخطوطات من قبل المستعيرين، ما حدا بأحد السلاطين خلال العصر المريني (أبو عنان المريني) إلى تقنين الإعارة بشروط أو منعها أحياناً. ويتوصل الأستاذ أحمد شوقي إلى عدد المفقود من المخطوطات من خلال تفحص فهارس خزائن مغربية على عهد الموحدين والمرينيين (بين القرنين السادس والتاسع)، وموازنتها بالموجود، ما يجعل الفارق بيّناً، هذا واقع الحال الذي سببته الإعارة الخارجية للمخطوطات، وأفقدت خزائن الكتب كثيراً من نفائسها، وليس أمر المخطوط كالمطبوع الذي يسهل تعويضه– إن لم يكن نفيساً أيضاً كأوائل المطبوعات- بنسخة أخرى.
• النهب والسرقة بسبب الاضطرابات السياسية والحروب والصراعات، ومن أشهر الخزائن التي نهبت نذكر خزانة زيدان السعدي التي اختطفت سنة 1612م، ونقلت إلى دير الإسكوريـال بإسبانيا، وبقيت فيها إلى اليوم بمخطوطاتها المقدرة بعشرة آلاف في البداية، قبل أن تتسبب حرائق في إبادة جزء منها. نضيف إلى ذلك، الحملات الاستعمارية على المنطقة من قبل البرتغال وإسبانيا وفرنسا، ما سبّب هجرة المخطوطات وفقدانها، «فالاعتماد على السرقة هو الذي جعل كثيراً من المخطوطات المحبَّسة على المكتبات العمومية تسقط في أيادي الخواص، أو تجنح إلى المكتبات الأجنبية».
• الكائنات الدقيقة كالأرضة والنمل الأبيض والسمكة الفضيّة والعث.. فتكت بالمخطوطات، وجعلتها غير صالحة للاستعمال والتداول، لذا لجأ ممتلكو المخطوطات إلى بعض الوسائل لتفادي هذه الآفة مثل كتابة عبارة «يا كبيكج»، أو «يا كيكتج» في طالعة المخطوط. ومن معانيها نبتة برية، وأيضاً نوع من الجن يعتقد الناس أن التوسل به يحمي الكتاب من الأرضة والتسوس والحشرات. ويذكر محمد المختار السُّوسي أمثلة عديدة على آفات الخزائن بالمغرب حين زيارته لها، من ذلك:

ما رأى من خزانة أحد العلماء في قوله: «حين أجد الأوراق متناثرة في تابوت علاه الغبار طبَقاً على طبَق، فأخذت من الأوراق ما وجدته قيماً، وعهدي بالبقايا هناك».

ما رأى في خزانة أخرى: «فأخبرني أحدهم أن خزانة جدهم قد أغلقوا عليها حتى صارت دقيقاً».

ما رأى في خزانة بأكَلو (جنوب المغرب): «وللمذكور خزانة يحرص هو وآباؤه أن يستروها حتى على الهواء، وحكى لي ثقة أنها تناهز ألف سفر غالبها مخطوط، ولا بد أن يكون بينها كتاب قيم نادر».

لا جرم أن الآفات المذكورة وسواها أتلفت كثيراً من المخطوطات النفيسة في مختلف العلوم الإسلامية، ما أدى إلى بروز ثلمة في عُرض التراث العربي الإسلامي والهوية الحضارية، فليس من السهل أن تستتر مؤلفات ذات بال من حيث محتواها أو مؤلفوها أو قيمتها الفنية والجمالية، أو ما تضمنته من سماعات العلماء ومكاتباتهم ووجاداتهم وإجازاتهم.. وما إليه من طرق تحمّل العلم في الحضارة الإسلامية، ولو قيّض لها الظهور لأفادت العلم والعلماء أيّما إفادة، ولأجابت عن المشكَل وجلّت الغامض من النُّكَت والمسائل المختلف بشأنها.



الهـوامـش:
                               1 - مصطلحات الكتاب العربي المخطوط: 311. 
                               2 - ينظر كتاب:
                                Bibliographique Philomneste junior, Livres perdus essai sur les livres introuvables devenus, Gay et Doucé éditeurs, Bruxelles, 1882
                               3 - ينظر كتاب
                               ,History of All the Great, The Book of Lost Books, An Incomplete, Stuart Kelly
                               Books You’ll Never Read, Random House, 2006
                               4 - من ورقة المؤتمر الدولي الخامس لمركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية المنعقد بتاريخ 8-6 مايو 2008 على الرابط:
                               .www.manuscriptcenter.org/lost/Arabic/about.asp 
                              (تاريخ التصفح: 23 فبراير 2016)
                               5 - مصطلحات الكتاب العربي المخطوط: 223.
                               6 - من ورقة المؤتمر (مصدر سابق).
                               7 - المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 385.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 66)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها