مباحث الموسيقى العربية في التلقي النقدي المعاصر

د. عبد الكريم الرحيوي

الموسيقى نشيد الروح وصوتُ الجَمَال، تأنس لسماعها كل ذات كبد حَرّى، وتلَذّ لهسيسها كُلُّ الكائنات ذوات الأحاسيس. ولمّا صيَّرَ الإنسانُ الموسيقى صناعةً، وكساها حلل التغنّي والإنشاد، وأسبغ عليها أردية التنغيم والتوقيع؛ أصبح لها شأن رفيعٌ ومقام عَلِيٌّ.

قال الشيخ الرئيس ابن سينا: (إن صناعة الموسيقى تشتمل على جزأين، أحدهما: يسمّى التأليف وموضوعُه "النغمة"، ويُنظر في حال اتفاقها وتنافُرها، والثاني: "الإيقاع" وموضوعُه الأزمنة المتخللة، بين النغم والنقرات المنتقل بعضها إلى بعض، وينظر في حال وزنها وخروجها عن الوزن، والغاية منهما معاً صنعة اللحن)1.


الموسيقى علم وصناعة

لا يهتم بدراسة الموسيقى والسماع لها إلا من حباه الله سمعاً مُرهَفاً، وعقلاً راجحاً، وذوقاً فنِيّاً راقياً، وعِلماً رصيناً في نقد الآداب والفنون، ومنها علم الموسيقى والأصوات والسماع؛ بل منها -رأساً- علمُ الشعر ونقده، وما يتصل بهما من الأجناس الأخرى ذات الصلة.

قال ابن خلدون: (وأما العربُ فكان لهم أولاً فن الشِّعر، يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساويةً على تناسب بينها، في عدة حروفها المتحركة والسَّاكنة. ويفصّلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً يكون كل جزء منها مستقلا بالإفادة، لا ينعطف على الآخر. ويسمونه البيت. فيُلائم الطبعَ بالتجزئة أولاً؛ ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ؛ ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها. فلهجوا به، فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشَّرَفِ ليس لغيره، لأجل اختصاصه بهذا التناسب، وجعلوه ديواناً لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومَحكّاً لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب. واستمروا على ذلك)2.

والشعر لا يكتمل إلا بالإنشاد إذْ هو منه بسبب، والإنشادُ جالبُ الغناءِ ومُستدعِي التنغيم والترجيع. وقديماً اهتدى العربُ إلى صنوفٍ من الإنشاد وضروب من الشعر يستخدمونها في أحوالٍ خاصة وأزمنة معلومة، عددها ابن خلدون في قوله: (وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء، وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيراً بالغين المعجمة والباء الموحدة... وكانوا يسمونه السناد. وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يُرقَص عليه ويَمشي بالدف والمزمار؛ فيطرب ويستخف الحلوم. وكانوا يسمون هذا الهزج، وهذا البسيط، كُلُّه من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطِّباعُ من غير تعليمٍ شأنَ البسائطِ كلها من الصنائع)3.

واستمر الشِّعرُ ينمو في حياض الموسيقى واللحن والغناء، يَعبُر الحضارات والعصور والأزمان، إلى أن بلغ تلحينُ الشعر والتغنّي به بالآلات والأصوات شأواً مرموقاً في بغداد، ثم الأندلس، ثم بقية الأصقاع والبلدان، وانبرى لهذا العلم مؤهَّلون مختصّون، وبرزوا في صناعة اللحون وأدواته في المشرق والمغرب وبلاد الإسلام في ضفتي المتوسط؛ (فأورثَ بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف. وطما منها بإشبيلية بحر زاخز، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقيةَ والمغرب)4.
 

الموسيقى الأندلسية

في دراسة دقيقة له؛ يؤكد الباحث المغربي الدكتور عبد المالك الشامي -في معرض نقاشٍ حول هُوية الموسيقى الأندلسية- أنها وإن كانت تعني التراث الموسيقي الذي نما وترعرع في بلاد الأندلس مع مدرسة زرياب خاصة ومن جاء بعده من تلامذته؛ إلا أن هذه الموسيقى بالذات عند نسبتها إلى بلدان المغرب وتونس والجزائر مثلاً لم تعد تعني نفس المفهوم بنفس المعايير والمقاييس؛ بل لابد من استحضار ما لحقها من الزيادات والإضافات التي تشمل الكلام الشّعري وتشمل الألحان والطُّبوع التي تختص بها كل بلاد5.

وفي ظل هذا التلاقح الفني بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وهذا التأثير الناتج عن مظاهر الانفتاح والتحديث في تجاذبهما مع التأصيل؛ تقف (الموسيقى الأندلسية تبحث لنفسها عن مكان تحافظ من خلاله على حقها في الحياة والاستمرار والريادة)6. وعلى الرغم من أن التأصيل لا يرفض الانفتاح على الآلات الجديدة والأشعار الجديدة؛ إلا أنه يتعيّن الحفاظ على روح موسيقى الأندلس، والإبقاء على القواعد الثابتة لهذا الفن. وفي هذا السياق يقول الدكتور عبد المالك الشامي: (ولا بأس من الانفتاح على بعض الآلات الموسيقية، التي قد لا يكون لها مساس بالتعبير الموسيقي الأندلسي ضمن إطار البحث عن نوع من المتعة الظرفية التي تُشكِّلُ استثناءً لا يلغي القاعدة، وضمن إطار العمل على تنويع التعبير الموسيقي بما يخدم أهدافه الأساسية الرامية إلى البحث عن المتعة الفنية)7.

يستوقفنا في هذا الشاهد "معيار المرونة"! ونقصد به السلاسة والوعيَ إزاء قضية التحقيب ومتطلباته، وإزاء الخصوصيات السوسيوثقافية لكل بلد. فنرى هنا -مثلاً- كيفَ تجرد الباحث من التعصّب للمحافظة من ناحية، وعدم ميله كل الميل للحداثة التي تقطع حبل الودّ مع زمنية التراث من ناحية أخرى؛ فالباحث يخلق الموافقات ويجمع بين التجديد والتأصيل بخيط الانسجام والتآلف المقبول.. وتلك خصيصة لا مناص من التحلي بها في المقاربات الفكرية والأبحاث المعرفية والعلمية.
 

الأندلس وشمال إفريقيا: الموسيقى خيط وِصال

في سياق جاذبية التأثير والتأثر الحاصل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وفي سياق التفاعل الحضاري بين الشعوب والثقافات، وعلى إثر الحركية البشرية والتجارية التي سادت الضفتين؛ تمكّنت عديد الثقافات من "الارتحال" والتعايش في بيئة تلك البلدان، وكان منها الشعر والموسيقى وما في كنفهما من الأدوات والوسائل والبُنَى.

وتعتبر الحواضر الكبرى في البلدان التي استقطبت التراث الأندلسي الموسيقي والشعري، المسلمَ أو الممتزج بتراث بعض الأديان، من أهم الأمكنة التي تأثرت ثقافياً وفنياً بحركة التطور والتجديد التي بلغتها القصيدة العربية والموسيقى في الضفة الشمالية للمتوسط، ومن أهم الأمكنة التي أسهمت في بقائها واستمرارها؛ سواء في المغرب أو الجزائر أو أفريقيةَ القيروانِ. بل إن حاضرةَ فاس هي عاصمةُ التراث الأندلسي ومهدُه بعدَ حواضر الأندلس الكبرى، إزاء (ما نتج عن انتقال بعض المنظّرين والفاعلين الموسيقيين من الأندلس إلى أفريقية "تونس" أو إلى المغرب الأقصى أو الأوسط تحت ظروف سياسية متمايزة ومرحلية، وانتقال الجالية المسلمة واليهودية وبعض المسيحية إلى شمال إفريقيا حاملةً معها أنماطاً من أساليب الغناء الذي كان متداولاً في مجتمعاتها، وما نتج عن هذا وذاك من بعث نفس جديد في الفكر الموسيقي في البلدان التي هاجر إليها هؤلاء المرحلون)8.

كما أنَّ ظهور الشعر الملحون أسهم في ظهور موسيقى الملحون، وهي الموسيقى التي تأثرت بالموشحات الأندلسية، وبالقالب الموسيقي لشعرِ الصَّنعَةِ هذا (أي: البحر الشعري)، وبالأغراض الشعرية وبخاصة المديح النَّبوي والغزل، والمواضيع الاجتماعية والإنسانية وغيرها، وبالآلات الموسيقية التي تختص بصناعة اللحن والإيقاعات، وبالأمكنة وسحرها وعَبَقِها... لتصبح فاس ومكناس وتطوان وتافيلالت ومراكش وغيرها من الحواضر المغربية، والحواضر المغاربية معروفة بهذا الضرب من الغناء ومشتهرة به.
 

الفارابي وكتاب "الموسيقى الكبير"

لئن تعددت مناهل القراءة وكثُرَت مرافئ التلقي؛ فإننا سنتخيّر إحدى أهم كتب التراث العربي في فن الموسيقى، ويتعلّق الأمر بكتاب: "الموسيقى الكبير" لأبي نصر الفارابي. ثم سنبحث أهم موضوعات هذا المصنَّف التراثي.

من مقدمات تلقي كتاب الموسيقى الكبير للفارابي ضرورةُ إدراك غائية تأليفه. ويتبيّن من أوَّلِ وهلة أنَّ الباعث التعليمي التنظيري هو أهمُّ باعث، ودليلنا قول الفارابي ذاته في مقدمته: (ذكرتَ تشوّفك النظر فيما تشتمل عليه صناعة الموسيقى المنسوبة إلى القدماء، وسألتني أن أثبت لك في كتاب أؤلفه وأتحرى فيه شرحَه وتكشيفَه بما يسهل به على النَّاظرِ تناوله...)9.

وقد نبّه الفارابي إلى الغناء ومظاهره لدى العرب القدماء، فحصر تلك المظاهر في الغناء، والنياحة، والمراثي، وإنشاد القصيد، والقراءة بالألحان، ثم الحداء.. ولذلك نجده يميّز بين مفهومين للألحان: مفهوم متصل بصناعة التنغيم المجرد، وآخر مرتبط بصناعة الغناء وما اجتمع فيه من تركيب الألحان بحسب معاني الكلام المتغنَّى به.. وشرطه في ذلك كفاية صانع اللحن وقدرته على تمييز الجيد والرديء، والملائم والمنافر، وقدرته على التأليف والترتيب.

ويصر الفارابي على وجوب حصول مَلَكة خاصة وكفايَة مدروسة لتحقُّقِ صناعة اللحون وإجرائها، تماماً مثلما يستدعي مؤثثات أخرى لتركيب الأنغام وتأليف الموسيقى والغناء. ومن تلك العناصر لدى الفارابي:

- الإيقاعات والموصّلات والمفصّلات
- الصوت البشري والآلي10.
- القول الشعري


وفي الختام نقرّ أن البحث العربي في الموسيقى كان سبَّاقاً إلى العِلْمية والضبط المحكم؛ وحسبنا جهود ابن سينا والفارابي وإسحاق الموصلي وزرياب وغيرهم... بل إنَّ لنا في علم عَروض الشِّعر الذي أحدثه الخليل بن أحمد الفراهدي، الأسوةُ الحسنة في نبوغ البحث العلمي العربي في الشعر والإنشاد.

هذا صنيع أجدادنا الذين أنشأوا الحضارات وقادوا الأمم... إذن أما آن الأوان ليستعيد العرب ريادة البحث العلمي والفكري والمعرفي... وليتخلّصوا من التَّبعيةِ لمن كانوا بالأمس القريب يتلمّسون شمس المعارف في علوم العرب؟!



الهوامش
1. رسالة في الموسيقى لابن سينا من كتاب الموسيقى للشيخ الرئيس، مخطوطة محققة ومنشورة في كتاب: تاريخ الموسيقى العربية حتى القرن الثالث عشر الميلادي، هنري جورج فارمر. تعريب: جرجيس فتح الله. منشورات الجمل بيروت - بغداد. طبعة 2015م. ص: 357.
2. مقدمة ابن خلدون: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. الطبعة الأولى 1993م. ص: 338.
3. المقدمة، ص: 338.
4. المقدمة، ص: 339.
5. راجع: قطوف وهوامش: د/ عبد المالك الشامي. مطبعة أنفو برانت، 2016. المغرب. ص: 55-56-57.
6. قطوف وهوامش، ص: 67.
7. قطوف وهوامش، ص: 74.
8. قطوف وهوامش، ص: 17.
9. الموسيقى الكبير للفارابي: تحقيق غطاس عبد الملك خشبة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر. القاهرة، 1967م.
10. يميّزُ الفارابي بين الصوت الإنساني والصوت الآلي باستعمال مصطلح: الحلق.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها