حالة إسعافيّة

أريج بوادقجي

هذهِ هي اللفّة الخامسة، ألفُّ وأدورُ، حولَ المكانِ نفسِه، ولا أجدُ مكاناً لسيّارتي الرماديّة ذاتِ الخرير.

قرّرت للحظة، ومن شدّة الدوران، أن أتركها وسطَ الشارعِ المُكتظّ، لتخرّ وحيدةً، أو لتصمتَ وحدَها، فأنين أسناني فاقَ زميرَ السيّارات الزاحفة... لولا أنّ مكاناً ضيّقاً على الزاوية كان يصفّق ويصفّر لي من بعيد.

ركنتُ السيّارةَ، وكأني سأتركُها إلى الأبد، إلى جانبِ لافتةٍ كُتِبَ عليها: "المكانُ غير مخصّص للعموم".

وعلى العموم وعلى مرآهم، ركنتُها، لأصل إلى عيادة الطبيب أخيراً، وأنا مقطوعُ النَفَسِ، رماديّ النّفس، أُنفّس عن غضبي وأُبربر.

وضعتُ قدمي اليمين على العتبة، كمحاولةٍ جادةٍ للتفاؤل والاستبشار، فرمقني الجميع بنظراتٍ مصحوبةٍ بوجوهٍ متبرّمة، وكأنّهم يقولون: "الله لا كان جاب الغلا".

ارتعدتُ، وبتّ أنقّل نظري بين المقاعدِ الملآى، علِّي أجد لنفسي مكاناً.

لكني، كسيارتي العتيقة، لم أجد مكاناً مخصّصاً للعموم، فركنتُ ظهري على زاويةِ الحائط، وعقدتُ ذراعيّ، وبدأتُ أستمعُ لتمتمات المنتظرين.

- إنني هنا منذ الصباح

- وأنا كذلك... لا يمكننا إلا الانتظار

- كيفَ لا... والطبيب (خريج برّا، فقد تخرّج بدرجةِ امتياز من جامعة موزنبيق).

- لا.. لا.. أعتقدُ أنّه خريج جامعة أديس أبابا

- لا يهم.. المهم أنّه خريج برّا، وسيمنحني الابتسامة الهيليوديّة

- بل قولي الابتسامةَ الإفريقيّة

- هاهاهاها.. لا فرق

- نعم، الطبيب (شاطِر) ويستحقّ الانتظار

- تسلي بألعاب الفيديو

استغرقَ المتمتمون في اليقين، فاستغربتُ مبالغتَهم، وعَجِبتُ من يقينِهم المُفرِط وعدتُ بذاكِرتي إلى بضعِ ساعاتٍ خلَت، كُنت أقرأ فيها مقالةً عن الإنسانِ الحديث، يقولُ كاتبها:

"الإنسانُ الحديثُ إنسانُ شكٍّ وارتياب، لا يستقرّ مع يقين... لا من أجل السلب والنفي والجحود، بل من أجل تجليّات العقل والإرادة".

شردتُ لحظةً في سقفِ الغرفة، وسألتُ نفسي: ما سرّ يقينِهم هذا"؟

لأعود بعدَها إلى الأرض، وأنظر إلى الممرضة، ذات الوجه الكَلِح المتجهّم، والشفاهِ المُتقلّصة، فنظرت إليّ كأنّني الطيّر وكأنّها الفزّاعة.

لتسألني: ماذا تريد؟ تفضّل!

وضعتُ يدي على فمي، وقلتُ لها: "أعاني من ألمٍ شديدٍ... حالتي إسعافية"!

فعاودَت سؤالي ببرود، بعد أن نكّست ذقنها، وصرفَت عني عينَها: "هل لديكَ موعد مع الطبيب"؟

فشردْتُ من جديد، وعدت أرّدد في قلبي ما قرأته اليوم، بعد أن عاينتُ ملامِح وجهها جيداً:

الإنسانُ الحديثُ يأنَفُ التجهّمَ والعبوس، هو إنسانُ بهجةٍ وفرحٍ وغِبطة.

فقاطعتني المُمرّضة الصفراء قائلة: "ماذا قلت"؟

فأجبتُها مُبتسماً، وأنا أحثّها على الإسراع: "أليست هذه العيادةُ الحديثةُ لطبّ الأسنان؟ قلتُ لكِ إنَّ حالتي إسعافية"!

فقالت بصوتٍ يشبه النُباح أوالصياح: "كيف تسمح لنفسك أن تحدّثني بهذه الطريقة"؟

أشارت إلي بأطراف أصابعها المطليّة بلونٍ قانئ، وهي تقول: "انظر إلى جموع المنتظرين.. انتظر دورك لو سمحت"!

أطعتها كطفلٍ ساذج، ونظرتُ إليهم، كانوا كنسخِ متشابِهة، وجوه مطليّة إلى حدّ التحنيط، وشفاه مزمومة، وأصابعٌ تتسابقُ على ألواحهم الإلكترونيّة.

وشوَشت إحداهن الأخرى:

- كم هو فج

- لكن، شخصيّتها قويّة.. و(بيستاهل)

- نعم، إنها مُلبّكة.. سأعطيها بخشيشاً

- ياه.. تستحق.. وأنا كذلك

نَدِيَ جبيني خجلاً، وفكّرت للحظةٍ أن آخذ حقي، لكني تراجعت، وكظمت غيظي بعد أن عدت إلى ذاتي قليلاً.

وتذكرت نصيحةً قالها لي أحدُ العرّابين: "إذا نطَقَ السفيه فلا تُجبِهُ .. فخيرٌ من إجابتِه السكوتُ".

تمنيت للحظة، أن أكون مثلهم، مُدمِناً على لعبةٍ من ألعابِهم الالكترونيّة، علِّي أتخدّر وأنسى ألمي، بل لأسكت تماماً.

لكني سرعانَ ما حاصرنتي فكرة من أفكار المقال الذي قرأت، كانت تلحّ علي إلحاحاً، وتنقر رأسي، كأنّها النقّار، وكأنّه الخشب.

"الإنسانُ الحديثُ يعبّر عن ذاته على أكملِ وجهٍ.. نعم على أكمل وجه".

أحاطت بي العبارة، بل وحمَلتني على أن أضعَ يدي على أكمل قلبي، وأسألَه: ماذا تريد"؟ فنبَض.. تحسّسته ثانيةً فنبَض كذلك.

ودون أن أنظر حولي، توجهت مُحلّقاً إلى باب الخروج، باب الخروج من العيادة، ولم أصفق البابَ خلفي، بل صفّقت بجناحيّ إلى الطرقاتِ العامة، لأمشي دون وجهة، وأنا أحكي وأشكو للقِطط الشاردة وللغيوم الداكنة عن ألمِ أسناني.. الذي نسيته مع مواءِ أوّل قطّة وهطولِ أوّل زخّةِ مطر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها