غودار ..‮«‬ليس‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرام‮»‬

د. السهلي بلقاسم

يُعتبر غودار Godard من أهم السينمائيين العالميين، بل يذهب العديد من النقاد إلى أبعد من ذلك بمقارنته بإيزنشتاين، لأن كليهما جاء إلى السينما لكي يحطمها، أو بالأحرى لكي يصنع سينما أخرى جديدة. فغودار نموذج للسينمائي المثقف الذي رفض البرجوازية ولم يقبل بالشيوعية، فوجد نفسه في عداد اللا منتمين، على حدّ تعبير الفيلسوف كولن ولسون. لقد كان غودار كغيره من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، الجيل الذي لم يشارك في الحرب وإنما عاش نتائجها في تجربة البحث عن الذات، والتساؤلات الوجودية. مرحلة كان شعارها: وماذا بعد؟ إذ إن هذه التجربة الوجودية المعاصرة لفكر سارتر وميرلوبونتي ساهمت في تطور ونضوج فكر السينمائي الناقد، خصوصاً بعد ثورة الشباب الفرنسي في مايو 1968. لقد تطور فكر رافض للبرجوازية مؤمن بالمادية التاريخية، وقد حافظ فيه غودار ككل فنان أصيل على مشاعر القلق الخصب الذي يلازم كل فنان، والحيرة الملازمة للتفكير في تناقضات العالم الذي يعيش فيه، من خلال سينما سليلة مآسي ما بعد الحروب والثورات إلى حدّ بعيد، حيث تغيّـر العالم، وبات من الضروري إيجاد لغة أخرى للتعبير عن هذا التغيّـر، فالتجربة الوجودية بالنسبة لغودار أعادت تعريف واختراع السينما بعمق جديد(1).
 

***


مقالات كتبت بالكاميرا

ولد غودار في الثالث من ديسمبر عام 1930 في فرنسا من أصل سويسري، ودرس في نيون السويسرية جامعة السوربون في باريس، وتخصص في علم السلالات البشرية، غير أن ولعه بالسينما قاده إلى دار الأرشيف الفرنسي، حيث شاهد العديد من الأفلام، وبذلك كان الأرشيف هو المدرسة التي تخرج منها غودار الناقد الذي هاجم السينما البرجوازية هجوماً عنيفاً، ودافع عن الأفلام الأمريكية من الدرجة (ب)، لأنها تمنح حرية للمخرج في التعبير، على غرار أفلام الموجة الجديدة في السينما الأوروبية والفرنسية، بالرغم من تأخر ظهور الموجة الجديدة في فرنسا، إذ كانت إيطاليا السباقة إلى هذه الموجة. السينما الفرنسية لم تتمكن من أن تحدث قطيعة مع تقاليدها إلا في وقت متأخر، عبر تحول فكري وذهني مثلته الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، مما أعطى إمكانية ظهور العديد من المخرجين الشباب، حتى إن الناقدة الفرنسية فرانسوا جيرو وصفت ظاهرة موجة السينما الجديدة في فرنسا بظاهرة وجود مئة مخرج شاب في السينما الفرنسية. غير أن غودار عزا هذه الثورة في السينما الفرنسية، ومن خلال موقفه من الرأسمالية، إلى قلة تكلفة الإنتاج السينمائي لمخرجي الموجة الجديدة، في حين كانت هوليوود تنتج أفلاماً بتكاليف إنتاجية باهظة، لا يمكن أن تقدم للمخرجين الشباب فرصة لإخراجها، لأنها أفلام تنتمي إلى الإنتاج الرأسمالي.
ويعتبر الناقد البريطاني راسل تايلور أن ألكسندر أستروك هو أول من أصدر البيان رقم صفر لجماعة السينما الجديدة بمقالته (السينما قلم) مؤكداً في هذا البيان أن السينما وسيلة للتعبير الذاتي، ومن الضروري أن يحصل المخرج على حريته كفنان من الاستوديوهات الكبيرة التي تنتج الأفلام مثل المصانع. وتضمن هذا البيان الدعوة إلى أن السينما، بالإضافة إلى اعتبارها فناً سابعاً، فإن لها أيضاً لغة خاصة بها. وهكذا تحرر الشكل الجديد للسينما من إحداثيات المكان والزمان، وبدأ المكان والزمان يأخذان قيماً ذاتية جديدة، كتعبير عن مجتمع وحاضر جديدين(2). وبالإضافة إلى العديد من المخرجين الذين جاؤوا من صحافة النقد السينمائي كفرانسوا تريفو وكلود شابرول، والبعض الآخر جاء من السينما التسجيلية كآلان رينيه وأنييس فاردا وجورج فرانجو؛ يعتبر جودار من أهم نتاج هذه الجماعة، ليس لأنه جمع بين النقد والإخراج فحسب، بل لأنه كان دائم التأكيد على أن أفلامه هي مقالات كتبت بالكاميرا: «إنني أكتب مقالات في شكل روائي أو روايات في شكل مقالات، إنني مازلت ناقداً كما كنت أيام كراسات السينما، الفرق الوحيد أنني بدلاً من كتابة النقد أصنع أفلاماً». إذ مثلت مجلة (كراسات سينمائية) التي مارس فيها غودار النقد، المدرسة التي تخرج منها مخرجاً سينمائياً برؤيا نقدية، فأخرج أول أفلامه القصيرة في سويسرا عام 1954. إذ أصبحت السينما بالنسبة إلى جودار ليست فقط شبيهةً بالفكر، ولكن يستخدم الفكر كمفهوم لفهم السينما، وهو ما يساعدنا على أن نجيب عن بعض الأسئلة حول القصد والمعنى السينمائيين(3)، فأخرج غودار أول أفلامه الطويلة في فرنسا 1959، ومثّل أداوراً قصيرة في العديد من أفلامه وأفلام مخرجين آخرين.


مراحل فـي التجربة

ويمكن تقسيم أفلام غودار إلى ثلاث مراحل ترتبط كل منها بالأخرى ارتباطاً عميقاً. المرحلة الأولى هي مرحلة الأفلام القصيرة من عام 1958-1954، وأخرج فيها العديد من الأفلام القصيرة، (عملية بناء) عام 1954، و(قصة الماء) مع فرانسوا تريفو عام 1957، وثلاثة أفلام روائية قصيرة هي (امرأة فاتنة) عام 1955، و(الكل يسمى باتريك) عام 1957، و(شارلوت وصديقها) عام 1958.

والمرحلة الثانية من حياة غودار الفنية امتدت من عام 1959 إلى عام 1969، أنتج وأخرج فيها العديد من الأفلام الطويلة التي حملت بصمات المخرج الناقد والثوري المتمرد. وقد بلغ مجموع أفلام هذه المرحلة 15 فيلماً، منها خمسة أفلام صورت بالألوان، كان أولها (على آخر نفس) بالتعاون مع كلود شابرول كمستشار فني، ومثل فيه جان بول بولمندو الممثل الفرنسي الشهير الذي عمل في العديد من أفلامه. وأخرج كذلك (الجندي الصغير) عام 1960، و(المرأة هي المرأة) 1961، و(عاشت حياتها) 1962، و(المحاربون) و(الاحتقار) 1963، و(الفريق المستقل) و(امرأة متزوجة) 1964، و(بيرو المجنونة) 1965، و(صنع في أمريكا) 1966، و(عطلة نهاية الأسبوع) 1967.

المرحلة الثالثة من مراحل حياة غودار الفنية أخرج فيها خمسة أفلام طويلة (الكسل) عام 1961، و(العالم الجديد) 1962، و(النصاب الكبير) 1963، و(الحب) 2000، و(الابن الضال) و(الصينية) 1967 وهو الفيلم الذي صنفه النقاد بأنه الفيلم النبوءة بثورة الشباب الفرنسي في مايو 1968.
لقد تناول غودار موضوع الحرب، باعتباره أهم موضوعات العصر في فيلمه (المحاربون) الذي اعتبر من أكثر الأفلام تجريداً، وفي هذا الفيلم جمع غودار بين التجريدي والواقعي، وبين الخيالي والواقعي، بالإضافة إلى استخدامه الأبيض والأسود في بعض أفلامه، وهو استخدام كان له مغزاه لأن العقل السينمائي يستطيع أن يفكر على نحو درامي في الأحداث من خلال الضوء واللون(4).
أما فيلم (كل شيء على ما يرام) الذي يصفه غودار بأنه أعظم تقرير عن الموقف في فرنسا، فقد تحوّل فيه الذاتي والموضوعي، وكذلك الخيالي والتسجيلي والواقعي والتجريدي والاجتماعي والإنساني إلى لحظات فعالة في السينما: الحركات الواضحة، والتأطير الغريب الخارج عن المألوف، والمونتاج المجازي... للوصول إلى انسجام مع الأفكار من خلال سينما متأملة(5). وحتى في أواخر أعوامه لم يتخلّ غودار عن فعل التأمل هذا، وهي المرحلة التي يمكن اعتبارها المرحلة الغنية بالتأمل والملاحظة، من خلال فيلمه الأخير (سوسياليزم) الذي يعتبر صرخة أخرى من صرخات غودار في وجه البرجوازية والرأسمالية والعولمة وثقافة الاستهلاك. فيلم ليس من السهل متابعته. إنه استعارة للحياة في أوروبا. سفينة تسير على غير هدى في عمق البحر، ركابها من كبار السن الناقمين. هذا هو عالم غودار. إنه يصوغ المضمون صياغة جديدة، صياغة تعتمد على رفض اللغة الشائعة، التي أصبحت تعجز بنيوياً عن تقديم صورة حقيقية صادقة لما يحدث في الواقع(6).


اللغة والصورة

سينما غودار سينما جديدة حاولت دائماً الخروج عن النمط التقليدي في السينما، فلم تعد الصورة تحيل إلى وضع شامل أو تركيب، وإنما الوضع مشتت انكسر فيه الخط أو وتر الكون الذي كان يشد الوقائع بعضها إلى البعض الآخر(7) على مستويات متعددة، منها ما هو متعلق بالسيناريو والبناء الدرامي والرؤية الإخراجية باستخدام نظام اللقطة الطويلة، واللقطة الواسعة، والديكور المفتوح على الواقع، والإضاءة الطبيعية، وتهديم الجدار الرابع، والمونتاج الفكري المفتوح على تأويل المتلقي/ المشاهد. فغودار يعتبر المونتاج مرحلة أساسية من مراحل التأليف السينمائي.
إن أفلام غودار، في أغلبها، تساوي بين اللغة والصورة، وتواجه إحداهما بالأخرى، وتقوض إحداهما من خلال وجود الأخرى، باستخدام المونتاج(8)، وباستخدام اللغة المعبرة والمتناسبة مع طبيعة المضمون. فمن المفترض أن يعرف المشاهد لغة الأدب العالمي لكي يستطيع أن يفهم الحوار العميق بين شخصيات أفلام غودار، فهو لا يعمل على استلاب عقل المتفرج وإغراقه في الدراما والتوجه إلى عواطفه فقط، بل من خلال التناقض والتضاد بين أحجام اللقطات، وبين مشاهد الحركة ومشاهد السكون، وبين الواقعي والخيالي، لأن نمط أو نوع التفكير في الطريقة التي تعمل بها السينما هي بشكل ما مكتسبة من إدراكنا لنمط أو نوع المعرفة التي يمكن للسينما أن تنتجها(9).
إن توزيع التناقضات كالصمت والحوار، الموسيقى والمؤثرات، الصخب والهدوء، يشكل بالنسبة لغودار ما وراء القياس البصري والصوتي، فالأصوات يجب ألا تستخدم لسد الثغرات الصوتية، ولا لتشرح بطريقة خارجية المشاعر والصور.. هي يجب أن تتدخل لإبراز التغير في أسلوب الفيلم(10). فأسلوب جودار في أغلب أعماله تميز بإحداث تواتر في الإيقاع، وهو تواتر اعتبره النقاد مصدراً رئيسياً لجمالية فن الفيلم، ومصطلح (أنا أسمع.. أنا أرى) لم يعد ملائماً تماماً، لأن سينما الموجة الجديدة قامت بإدخال مصطلح أنا (أشعر) كوصفة جديدة(11) لسينما تجاوزت دهشة السمع والبصر.


الهوامش:
(1) جيل لبوفيتسكي، جان سيرو: شاشة العالم، ترجمة راوية صادق، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012، ص21.
(2) جيل دولوز: الصورة الحركة أو فلسفة الصورة، ترجمة حسن عودة، سلسلة (الفن السابع)، دمشق 1997 ص 283.
(3) دانيل فرامتون: الفيلموسوفي - نحو فلسفة السينما، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009 ص41.
(4) المصدر نفسه ص189. 
(5) المصدر نفسه ص61.
(6) جريدة المدى العراقية العدد 3774 تاريخ  2016/11/3.
(7) جيل دولوز: مصدر سابق ص 275.
(8) دانيل فرامتون: مصدر سابق ص 306.
(9) المصدر نفسه ص 51.
(10) برغسون دولوز غودار وآخرون: حوار الفلسفة والسينما، ترجمة عز الدين الخطابي، منشورات عالم التربية، الدار البيضاء 2006، ص 67.
(11) دانيل فرامتون: مصدر سابق ص 260.

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 116)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها