الموصلُ فضاءٌ للصِّراعِ بينَ الثَّقافات

 قراءةٌ في رواية (تِرتِر)

أحمد جارالله ياسين

روايةُ (تِرْتِر) للعراقي نزار عبد الستار كانتْ من ضِمن القائمة القصيرة لـ جائزة الشيخ زايد 2019، وتدورُ أحداثُها في فضاء متنوع الأمكنة، يتوزعُ بشكلٍ محدودٍ بينَ اسطنبول وبرلين ولندن من جهةٍ، وبين مدينةِ الموصل العراقية وأزقتها وشوارعها بشكلٍ رئيسٍ وواسعٍ ومهيمن من جهةٍ أُخرى، تقع الحوادث في آواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والموصلُ تخضع حينذاك ظاهريّاً لسيطرة العثمانيينَ إداريّاً وعسكريّاً ودينيّاً، لكنها في الوقت نفسه تخضع أيضاً اقتصادياً واجتماعياً واستخباراتيّاً، لصراع السيطرة عليها من الدول الأوربية إنكلترا وآلمانيا وفرنسا.. التي كانت تُدرك أن نهاية العثمانيين باتت قريبةً ولابد من التحضير مسبقاً لوراثتها.


يكتشف المتلقي بعد قراءة الرواية أن العتبة التي تصدرت البداية، بعد صفحة العنوان، تكادُ تشي بالمكنون الدَّلالي الفكري الرئيس للرواية لمن يتفحصها بالتأويل عموديّاً، وتضمنّت نصاً حوارياً مترجماً للأديب الألماني فلاديمير هولان جاء فيه:
- أنت تموت.. هل تمتعت بحياتك؟
- نعم
- كيف؟
- مرة تحت شجرة قديمة سلمتني فتاة لا أعرفها رسالة ومضت..
- هل قرأتها؟
- نعم
- ماذا تقول؟
- لاشيء!

وكأن الموصل ذاتها -بنسختها العثمانية- هي المدينة التي يُوجّه إليها الخطاب حول موقفها العجيب غير المبالي من فكرة مفادها: أنها إن بقيت على ماهي عليه من جمود ستموت في النهاية مجاناً، والسؤال الآخر هل أنها وأهلها -في ظل ركود حياتهم وجمودها الذي لم يوصلهم إلى اللاشيء- قد تمتعوا بالحياة حقا قبيل موتها / موتهم؟ أما الفتاة التي سلمت الرسالة فلم تكن –من وجهة نظر رمزية- سوى (آينور هانز) المرأة الألمانية الأب والتركية الأم، التي حاولت بثّ أنماط الحياة الحديثة في الموصل بطريقتها الغربية، التي كانت أشبه بالحلم في كثير من أفكارها ومشاريعها الجمالية والإنسانيَّة والاقتصادية.. لكنها على ما يبدو من خاتمة الرواية فشلت في النهاية، ولم تحقق أهدافها كلها لأسباب خارجة عن إرادتها، ومضت عائدة إلى جزيرة ثيرا في أوربا، مثلما مضت الفتاة في النص التصديري بداية الرواية..

والغريبُ أنَّ إجابة الطرف الثاني (إذا اعتبرناه رمزياً الموصل وأهلها)، في ذلك النص كانت (نعم)، على الرغم من أن الرسالة التي يزعم ذاك الطرف أنها كانت مصدر تمتعه بالحياة، لا تقول شيئا!! فأين مصدر المتعة إذن!؟

وبتعبيرٍ آخرَ فإنَّ حالَ الموصلِ حينذاك هي نفسها حال الطرف المجيب عن تلك التساؤلات، فآينور التي جاءت برسالة التحضر والعلم والتجارة والطب والجمال إلى الموصل، لتقريبها من الحضارة الأوربية خدمة لمصالح بلدها الأم آلمانيا وشريكتها الدولة العثمانية، وكذلك رغبة إنسانية وجمالية منها تجاه مدينة أحبتها آينور، أدركت في النهاية أن تلك الرسالة تحولت إلى لاشيء بفعل موقف طبقة مهيمنة من المتنفذين في المدينة، لاسيما من المعممين المتطرفين بخبرات تدينهم الراكد تحت تأثير الفكر الاستعماري العثماني المتشدد في أيامه الأخيرة، والمدعوم من الفكر الإنكليزي، من أمثال أتباع الشيخ معروف الذين يرون (أي شيء يتعلق بأوربا هو كفر، ويجلب اللعنة، وزوال النعمة) ص: 87. وكما أفصح لآينور عن سبب ذلك الموقف الانتهازي الشيخ المعتدل سعد الدين المعارض للعثمانيين والمتطرفين، بقوله: (العثمانيون والإنكليز هم الذين بنوا جوامعنا ياهانم ووضعوا العمائم على رؤوسنا) ص: 56.

فتلك الطبقة وأتباعها من المتشددين حرضت على حرق المصانع والأجهزة الحديثة، وإغلاق الأسواق العصرية وقتل من يعمل فيها، وتسببت بهروب من تبقى منهم مثل آينور، فعلوا ذلك بحجة التعارض بين مفهومهم التقليدي الجامد والخرافي للإيمان والتدين، وبين مظاهر الحداثة والحضارة الأوربية التي كان الغرض منها -وفق منظور آينور الألماني- تحقيق مزيد من التكريم للإنسان في مظهره وصحته، وطريقة عيشه من أجل كسب وده تمهيدا لقبول الدور الاقتصادي الألماني في الموصل، ذي البعد السياسي المتحالف مع السلطان عبد الحميد لمواجهة النفوذ الإنكليزي مستقبلا في الموصل وغيرها، بإقامة خط سكة برلين –الموصل– بغداد، وفعلوا ذلك أيضا بتحريض سري من المخابرات الأجنبية المتنافسة مع الألمان فوق أرض الموصل، لاسيما من الإنكليز الذين قال عنهم السلطان في حواره الأخير مع آينور ردا على إصراها على العمل في الموصل: (الإنكليز في النهاية سيستولون على الموصل وسيكون من الصعب عليهم مسامحتك على أحلامك) ص: 273.

 ومن ثمَّ فإن رسالة آينور إلى الموصل لم تحقق شيئاً بعد تلك السنوات كلها من التخطيط والعمل والتثقيف الجمالي والاقتصادي، والمفارقة أن أصحاب ذلك الموقف المتشدد من رسالة آينور الذين استولوا بسلطتهم الدينية والإدارية على تمثيل الناس عامة، ظنوا بفعلهم الجاهل ذلك أنهم قد تمتعوا بالحياة التي يريدها – من وجهة نظرهم المحدودة - الله لهم، على الرغم من أنها خلت من أي مظهر من مظاهر الحياة العصرية فأمست بركودها وتخلفها لاشيء.. مثلما لم تقل شيئا تلك الرسالة في النص التصديري.. ومع ذلك كانت مصدر متعة لمن وصلت إليه.. وتلذذ أو تمتع برفضها غباءً؛ لأنه بذلك حقق نظرية الاستعمار الإنكليزي التي عبر عنها هنري هايسفورد بقوله لآينور: (لقد ذهب زمن العبيد السود، عبيدنا الآن هم الأغبياء.. وفري أحلامك، فهذه البلاد لا تقدر الأمل، ولا تحب الحياة) ص: 135.. ويضيف (دولة سلطانك بجشعها وفسادها، هي التي دمرت نسيج الموصلين، بما تفرضه من ضرائب، وهجرت الحرفيين المهرة، وأجلستهم على الخوازيق بتهمة الكفر، وهذا يريحنا كثيراً) ص: 135.

ومن وجهة النظرِ الثَّقافيةِ النَّقدية؛ فكأن بؤرة الرواية تتمحور حول البحث السردي الرؤيوي عن الأسباب الداخلية والخارجية، التي قوضت نهوض المدينة أو عرقلته على مدى التاريخ، في الحاضر والأمس، ولاسيما في آواخر زمن العثمانيين الذين حكم –أغلبهم- الناس باسم الدين ثم سرقوا ونهبوا باسمه أيضا، مع أتباعهم ومناصريهم الانتهازيين المحليين، ومن حاول الخروج عن ذلك السياق فشل وعزلوه مثلما حدث مع السلطان عبد الحميد، كما جاء على لسان زكريا وهو ينبه آينور إلى هذه السياسة (لاتعتمدي على الشرف والحق، والأخلاق والصدق.. الوالي يرتشي ويسرق ويبيع الأراضي الأميرية ويقاسم التجار أرباحهم، وبعدها يظهر أمام الناس بأنه الحافظ لحدود الله والمطبق للشريعة الإسلامية. رجال الدين يسكتون عن نهب خزينة الولاية ويغضبون لبيع ملابس داخلية شفافة) ص: 248، لذلك واجهتهم آينور بحزم أحيانا في لحظات قوتها ويقظتها، وفي مقدمتهم المتشدد معروف الذي قالت له: (أريدك أن تكف عن خيانة الله والكذب عليه، لا تغرر بالناس ولا تدفعهم إلى الباطل باسم الدين) ص: 236.

فالتدينُ عن جهلٍ الَّذي تنتفع منه السلطة لتمرير أهدافها الانتهازية تحت غطائه المقدس الزائف، يحرض لاحقاً على التشدد ونشره بين صفوف الناس، واتخاذه وسيلة لقمع أي فعل أو فكر للتنوير والنهضة في مجالات الحياة كافة، لاسيما إن كان مصدرهما يحمل حجج اتهامه بالكفر مسبقا مادام قادما من الغرب، مع أن الغرب نفسه ممثلا بالإنكليز، هو من يسهم بتغذية ذلك التدين الجاهل بالمادة وبالجهد الاستخباراتي، والتشدد الأعمى؛ لأنه في النهاية يخدم مصالحهم الاستعمارية الآنية وبعيدة المدى، لاسيما في مدينة مهمة مثل الموصل تمثل بقعة جغرافية واصلة بين الشرق والغرب، وهذا الأخير – الغرب – بأنموذجه الإنكليزي كان حينذاك يفهم جيداً طبيعة السياسة العثمانية التي وصلت حينذاك مرحلة الضعف والشيخوخة.. لذا كانت معارضة الإنكليز للتنوير الألماني مقبولة، لاسيما من المحليين المتنفذين دينياً ووظيفياً، لأنها تدعم تشددهم ضد منجزات آلينور بحجة خرقها لأعرافهم الدينية، فضلا عن كون ذاك التشدد يمثل نوعا من الولاء للإنكليز الذين يتحكمون بمصادر التمويل المادي لتلك الطبقة.

ويبدو أن فشل آينور في مشروعها التنويري في الموصل سببه أيضاً، تشظي شخصيتها بين نزعتها القوية الجاذبة إلى جذورها الشرقية التركية الحالمة من جهة نسبها إلى الأم، التي غذتها أيضا علاقتها العاطفية القوية مع حبيبها ومعلمها الروحي والجمالي الفنان ادولف، وبين ميلها من جهة أخرى إلى جذورها الألمانية العملية الواقعية العنيدة من جهة الأب، لكن نزعتها الحلمية العاطفية غالباً ما تفوقت على ميلها الثاني، وهذا ما توصل إليه السيد الإنكليزي هانسفورد وصارحها به، لكنه كان يعلم أيضا أن عنادها الألماني يجعلها تهرب من الحقيقة، التي تسببت بفشلها في النهاية (آينور أنت تفتحين قلبك للناس هنا بينما أنا أفكر بملايين الإنكليز، الذين يجب أن أضمن لهم المستقبل لقرن قادم. لست أقل منك شرفا ونزاهة.. الفرق بيننا فقط أنك تريدين إسعاد الناس في الموصل، بينما أنا أريد إسعاد الإنكليز في لندن... لست شريراً يا صديقتي ولكنني لن أتركك تنجحين أبداً، سأدمرك بكل ما أملك من قوة سأفعل هذا رغم أن قلبي يحبك) ص: 246.

لكنها عندما تخرج من دائرة الأحلام وتفكر واقعيا بما وصلت إليه تجربتها، تعترف بتلك الحقيقة، (هنري أعلم أنك ستنتصر في النهاية ولكن دعني أستلذ بأحلامي ماذا سيضرك لو أنك جنبتني استعمال القوة.. اتركني أشعر بالفخر لأشهر لا تؤذني برجالك المتدينين دعني لحلمي وأوكد لك أنني سأخسر). ص: 245.
 

:: أنا أودُّ البقاء في الموصل ::

صَحيحٌ أنَّ جهودَ آينور كانت في أوَّلِ الأمرِ بدافع التكليف الرسمي لها من الحكومتين العثمانية والألمانية، إلا أنها بعد أن عاشت في الموصل واختلطت مع الأهالي وعامة الناس، أمست تحمل دوافع أخرى منها ما هو إنساني أو ثقافي أو عاطفي، وكلها مجبولة عليها بطبعها الشخصي من دون تكلف أو تصنع، فضلا عن تأثيرات رودلف حبيبها السابق الذي عزز في شخصيتها تلك الدوافع في التعامل مع الحياة والناس، لذلك على الرغم من فشلها في إنجاز المهمة المكلفة بها كاملة، إلا أنها على الصعيد الشخصي الذي ارتبط روحياً بأهالي الموصل من غير المعممين المتشددين وأتباعهم، ظلت تحاول العودة إليهم والمحاولة ثانية في التواصل معهم، وهذا ما أفصحت عنه في حوارها الأخير مع السلطان عبد الحميد، (مولاي أرجوكم دعوني أرجع إلى الموصل وأكمل ما بدأته، يمكنني الدفاع عن نفسي لا يهمني أي شيء، الأمر لم يعد يتعلق بمشروع سكة حديد برلين بغداد، وأرجو منكم ألا تعتبروا أن المهمة انتهت بفشل المشروع، أنا أود البقاء في الموصل.. لا أعرف كيف أشرح الأمر.. حين أقف فجرا ًبباب الجسر وأنظر إلى وجوه الناس وهم يترقبون دخول المدينة أشعر بأنني وجدت هدفي وحياتي.. علي أن أكمل ما بدأته يا مولاي..) ص: 272.

لقد سيطر العثمانيون في الفترة الأخيرة من حكمهم على عقول الناس، وأقنعوهم، أو أجبروهم على موالاتهم بحجة العقيدة الدينية التي تجمعهم، التي اتجهت بها غالبية الطبقة من المعممين الموظفين إلى طريق مسدود في التفسير والتأويل والفتاوى، من أجل الإبقاء على احتكارهم للسلطة بحجة الحفاظ على الدين، وكما قال الشيخ المعتدل سعد الدين (هؤلاء باعوا الولاء كي تبقى وظائفهم لهم) ص: 208.

 وكي لا يخرج الناس عن طاعتهم، ومن ثم عن طاعة السلطة الحاكمة حينذاك في الدولة العثمانية، التي كانت راضية عن ذلك السلوك في التعامل مع الدين الممهد للخضوع لها ولثقافة الزهد التقليدية، التي أشاعتها بين العامة منعاً للناس من التطلع للأفضل، يقول كروغر زميل آينور عن أولئك المتشددين: (إنهم يقلدون العثمانيين في كل شيء.. ليس لهم القدرة على تغيير أنفسهم أو فعل أشياء لها فائدة. هم لا يعرفون قيمة أرضهم).

 أما الشيخ معروف الموالي للعثمانيين فقد أشاع بين الناس فكرة حول جهاز الأشعة، الذي جلبته آينور إلى المستشفى وخلاصتها (أن هذه الصور الشيطانية توقع المسلم في معصيتين مهلكتين أولاهما التصوير الذي هو من صفة الخالق المصور، والثانية التكهن بالموت قبل وقوعه، وأخذ يردد بانفعال أن جهاز أشعة إكس فتنة وأن رونتغن الكافر سيتلقى جزاء مخزياً، وسيحشر يوم القيامة مع أبي جهل). ص: 220.

 ومن ثم فإنَّ مثل هذا التيار المتشدد بفكره وسلوكه كان هو الأكثر هيمنة على عقول عامة الناس، حتى أن الشيخ سعد الدين المعتدل قال لآينور مرة: (هذه البلاد لا تريد الحياة.. ولا تملك العقل لتدرك مصيبتها) ص: 210، وجهاز أشعة إكس (يزعجهم لأنهم يخافون زوال نعمة الجهل.. يزعجهم لأن هذا الجهاز سيبهر الناس وعندها ستصبح خرافاتهم بلا قيمة) ص: 208، والشيخ سعد الدين يدرك قيمة العلم والمخترعات الحديثة ويشجع آينور على جلبها إلى المدينة، خدمة لأهلها وكشفا لزيف أولئك الذين جمدوا الحياة، ووقفوا بوجه تطورها العلمي، لذلك يقول لها أيضا: (هذا عصر العلم يا آينور هانم. عصر التعليم، علينا التفكير بالطريقة نفسها التي فكر بها الرجل الذي صنع لنا جهاز الأشعة. حكايات الطيبة والرحمة والشهامة والرجولة والكرم تصنع الكسل وتبقي الجوع على ما هو عليه وتشيع التخلف.. الله يتجسد في العلم) ص: 209.

والإشكالية الكبيرة تكمن أيضاً في خضوع السلطة الإدارية لتوجهات أولئك المتشددين، الذين احتجت عليهم جمعية العلم التنويرية من أبناء الموصل المتعلمين والمثقفين، (ووجهت رسالة احتجاج إلى الوالي مصطفى بك؛ لأنه رفض أثناء افتتاحه مستشفى الغرباء المرور بقسم أشعة إكس، ورأت في ذلك إهانة كبيرة لقيم العلم في الحياة، ودلالة على معاداة التطور والتقدم. لم تمض سوى ساعات حتى أغلقت الشرطة مقر الجمعية في باب الطوب، وأصدرت أمرا بمنع كل النشاطات)، ص: 190.

أما الإنكليز فقد سيطروا على قسم آخر من الناس بفضل مكرهم ودهائهم وأموالهم فضلا عن تواجدهم القديم في المدينة، وكما قال كروغر: (لم يكن من السهل على أصحاب الأرض الاقتناع بأن آلمانيا ستشتري محصولهم. لا يثقون إلا بالإنكليز) ص: 213؛ لأن الإنكليز (يفهمون عقلية البدو والعشائر أفضل منا) ص: 58.

فعندما أرادت بعض الشخصيات الموصلية التي تعلمت في الخارج إنشاء جمعية باسم العلم، ونالت الموافقة على منحهم بناية لممارسة نشاطهم التنويري في المدينة بعد أن بذلوا جهوداً جبارة في نيل الموافقات الرسمية، وبعد شهر واحد فقط اشترت الأرض المجاورة للبناية الزوجة الثالثة للسيد حسين طاهر، لبناء جامع باسم قدرية خاتون، ومن المفارقة أن الزوجة كانت هيلدا الإنكليزية، مما يبين مدى التغلغل الإنكليزي الناعم في الحياة الموصلية، وإدارته السرية للصراع مع الألمان بواجهة المظاهر الدينية، ومن يميل إليهم لاسيما جمعية العلم.

فضلاً عن الصِّراع الاستخباراتي والاقتصادي البديل عن الصراع العسكري، في السيطرة على الموصل أو الممهد للنصر العسكري فيها إذا ما وقعت الحرب، التي كانت علاماتها تلوح في أفق العقد الأول من القرن العشرين وتحققت في منتصف العقد الثاني، فإن الموصل شهدت صراعاً آخر ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً بين رؤيتين ثقافيتين: الألمانية ممثلة بآينور وفريق عملها، والإنكليزية ممثلة بالسير هنري هانسفورد السَّياسي الإنكليزي المحنك.
 

:: إنَّهُم يخذلونَ أنفسهم ويكرهونَ الحياة ::

إذا كَانت آينور ترى في الموصل مدينةً قابلةً للتغيير والتطوير، إذا ما وجدت من يوفر لها الأسباب التي تقودها إلى ذلك المسار الحداثي؛ لأن أهلها لديهم الاستعداد لذلك لكنهم فقط بحاجة إلى التوجيه والتشجيع والثقة بهم، على الرغم من الضغط الذي تمارسه عليهم تلك الجماعات المتشددة دينياً وفكرياً، التي تبدو سيطرتها عليهم سطحيةً وإجباريةً، وليست عن قناعة اكتسبوها من الثقة بهم وبطريقة تفسيرهم للحياة والدين.. فكانت آينور تشتغل على هذا الجانب المسكوت عنه في ثقافة المدينة وأهلها، وتحاول استنهاضه اقتصادياً واجتماعياً وجمالياً، وجعله القوة التي ستمهد لها الطريق نحو قبول الاستثمارات الاقتصادية في المدينة، ففي حوارها مع السير هنري هانسفورد تقول له: (ألا ترى معي أن المدينة بحاجة إلى مشاريع ترفيهية.. إلى شيء يزيل هذا الشحوب الحزين)؟ ص: 189.. وحتى لو أنهم تظاهروا بذلك الحزن كما يدعي هانسفورد فإنها ترد عليه (أنت مخطيء.. حتى لو تظاهروا بهذا وخجلوا من عين الله فإنهم ليسوا بهذا الحزن أبدا.. الحياة تتضاءل حين تقل معرفتنا بها.. اجلب لهم شيئا جديدا وستكتشف أنهم مثلنا تماما) ص: 189. فـ (خرائب السور، وتراكم النفايات وانبعاث الروائح من المدبغة والمسلخ اللذين في باب الطوب، لم تخف عن آينور جمال الموصل العتيق، فمن بين الركام القبيح، كان الحسّ يمد أصابعه في لمسات عمرانية بارعة السحر، ومن بين الروائح والذوق الفقير كانت البضائع الفاتنة في السوق تشكّك في المظهر البائس للذين يسيرون في الطرقات) ص: 68.

 وقد وجدت جهودها صدىً طيباً لدى النخبة المثقفة فأشادت بها جريدة (الموصل)، و(بجهودها... في إلحاق الموصل بركب الحضارة، وقالت الجريدة إن هذه السيدة المباركة أدخلت مدينة الموصل التاريخ من بوابة المجد، وجعلتها المدينة الأولى في العالم، التي تستخدم جهاز المخترع العظيم فارس جائزة نوبل في الفيزياء العبقري الجليل فيلهلم رونتغن، وانتقدت الجريدة عدم تفاعل الولاية مع هذا الحدث المعجز) ص: 190.

بينما تتمثل الرؤية الإنكليزية بمنطق السير هنري هانسفورد، الذي يرد على محاولات آينور تلك في تغيير الموصل بقوله: (أنت تفسدين الموصل، الفرح لا يناسب هؤلاء، إنهم يتجهزون للقبر هكذا هي حياتهم..) ص: 189، بل إنه يرى في آينور (الأنثى الوحيدة في هذا البلد الميت)، ص: 190، ويخاطبها منتقداً إياها على موقفها الإنساني مما يجري في الموصل قائلا: (لا يصح أن تكوني هشةً وضعيفةً، كل الحضارات وأوربا معها، تأسست بالقسوة، والعنف والدماء، لقد قتلنا آلاف البشر من أجل أن نصنع القماش الإنكليزي الفاخر، وقطعنا آلاف الأصابع لمساجين هنود، وبنغال، كي لا ينافسونا على النعومة. كوني قوية يا آنسة من أجل آلمانيا قاسية وعنيفة، فأوروبا ستكون لطيفة ومسالمة بعد مائة عام أما الآن فعلينا أن نكون بقلوب حجرية) ص: 119.

ويدعم الوصف في الرواية، هذه الرؤية التي تشكلت عند آينور في بداية تجربتها، تجوالها في الموصل (كانت تبدو على الوجوه السمر انكماشة مستنفرة لإطلاق النار، المباني كئيبة وبالية، والأشجار قليلة، والأتربة متراكمة على جوانب الطرق، وملابس الرجال والنساء من غير الموظفين تبعث على الخوف)، ص: 66.

وقد أدرك الألماني (كروغر هايس) المشرف على قسم الخياطة في مدرسة الصنائع، الرؤية الإنكليزية للموصل ولبغداد أيضا فــ(الموت هو الشيء الوحيد الساحر هنا.. لا توجد جنيات مرحة ولا سجاجيد طائرة، ولا فوانيس تحقق الأمنيات.. كل هذه الأشياء غادرت بغداد وسافرت إلى أوروبا)، ص:61.

 لذلك اعترض على سلوك آينور وخططها في الموصل قائلا: (ليس من مصلحتنا الخروج عن المسار.. لا أحد طلب منا نسج الموصلين.. نبيعهم الطعام والقليل من الأدوات، التي تعودوا على استعمالها، طناجر، ملاعق، سكاكين، وفوانيس، أحجار لتنعيم الكعوب، غسيل لمعالجة القمل، ونأخذ منهم النفط.. هذا كل شيء.. لماذا تُعقدين الأمور)؟

كما أنه في موقف آخر يصرح لها أن: (الناس هنا لا يتقبلون التغيير، إنهم يسألونني حين أدلهم على شيء جديد إن كان هذا لا يتعارض مع كلام الله، تخيلي يا آنسة هانز أنهم يظنون أنني أعرف كلام الله الذي يؤمنون به)، ص: 57.. وقد استنتج من تجربته هنا أنه (منذ خراب نينوى وبابل والناس هنا يظنون أن الحضارة كفر ومعصية لله)، ص: 60.. ويصل إلى تحذير يقدمه لآينور خلاصته (الغبار هو الشيء الوحيد الذي يتحرك في هذه البلاد.. إنهم يخذلون أنفسهم ويكرهون الحياة)، ص: 62.

وعلى الرغم من محاولة رأس الهرم العثماني السلطان عبد الحميد الثاني، التقرب من الرؤية الألمانية للموصل، إلا أن محاولته تلك لم تنجح بسبب وقوعه بين جذب قوتين: الأولى الإرث السلطوي العثماني، الذي تحقق له ولمن سبقوه بفعل اعتماد تلك السلطة على حجة الدين المشترك، الذي يجمعها مع الشعوب التي تحكمها واستغلال تلك الحجة غالباً، حتى لو كان الحكم في مجالات الحياة كلِّها متخلفاً ومستبداً ومجانباً لحقيقة الدين الإسلامي، الذي يقف مع العلم والحياة، والتنوير ضد الجهل والتخلف والاستبداد، الناتج عن طبيعة الفهم المنغلق لطبقة واسعة من السلطة العثمانية وأتباعها، لاسيما من المعممين المُوَّالين لها حفاظاً على مناصبهم، وهذا ما أدركه السلطان عبد الحميد متأخراً، وحاول إصلاحه بالتعاون مع الألمان، لكن بعد فوات الأوان واستقواء شوكة المعممين المتشددين، الذين يزعجهم إدخال الحداثة إلى الحياة في الموصل (يزعجهم لأنهم يخافون زوال نعمة الجهل، يزعجهم لأن هذا الجهاز سيبهر الناس، وعندها ستصبح خرافاتهم بلا قيمة)، ص: 208.

لقد لقنوا العامة من الناس أن: (أي شيء يتعلق بأوربا هو كفر، ويجلب اللعنة، وزوال النعمة). ويدعم الإنكليز هذا التيار الذي يريد رسم صورة كئيبة عن مدينة الموصل بحجة الالتزام والمحافظة فهم (يدركون قيمة إبقاء كل شيء على ما هو عليه)، ص:58- 59 في الموصل. لذلك وبالحجة (المحافظة)، نفسها يعترض نائب القنصل الإنكليزي على بضائع بيت الرغبة، التي شهدت إقبال النساء عليها، بينما كان السبب الحقيقي للاعتراض اقتصادي بحت، يخص مصالح الإنكليز فيقول في تصريح صحفي: (إن بازار بيت الرغبة يهدد ببضائعه الرخيصة صفة المحافظة، التي يتسم بها المجتمع الموصلي)، ص: 166. أما آينور فترى أن جلب جهاز أشعة رونتغن، ومعالجة الناس به سيجعل الجميع لاحقا يتقبلون (فكرة أن تكون الملابس الداخلية حريرية، وحتما سيدركون لاحقا أن هذا لن يغضب الله أبدا)، ص: 154.. و(أن الخياطة لا تتعارض أبدا مع كلام الله)، ص: 57.

أما القوة الثانية فتمثلت بمظاهر الوجود الإنكليزي الاستخباراتي والاقتصادي والثقافي، الذي كان يعمل دوماً على تعزيز حضور ثقافة القوة الأولى؛ لأنها تلبي رغبة الإنكليز بإبقاء المدينة تحت سلطة الجهل والتخلف، الذي لا يجعل أهلها يهتمون بسرقات الإنكليز لثروات مدينتهم واستغلال فضائها لتحقيق مصالح بريطانيا العظمى. وكما عبر اليهودي شاؤول جلعادي عن مكر الإنكليز أمام آينور بقوله: (الإنكليز يجيدون تحريك الناس هنا أكثر من السلطان. في المجالس الدينية يقولون إننا نصنع جوارب رودلف من شعر الخنزير، ويدعون أن عيادتك لا تعمل بقواعد الحياء الشرعي)، ص: 153. كما أن: (الإنكليز استغلوا فساد الولاة وتوغلوا بأموالهم، والنظام المدني لن يمكن العثمانيين من السيطرة على الموارد، ولهذا هم يستخدمون الدين القديم وتقوية البعض من شيوخ العشائر وتأجيج النزاعات، ولأن الدولة العثمانية بحاجة إلى ضخ الأموال في أوصال مستعمراتها، فإنها تتساهل مع الوجــــــود الإنكليزي الذي بدوره يمد العشائر الكبيرة بالمال، كي تبقى في نــــــــــزاع مع العشائر الصغيرة الطامحة، وهكذا تموت المدينة وتحيا الصحراء)، ص: 59. على العكس مما كان يطمح إليه الألمان.

أما المعممون التنويريون وهم قِلَّة فقد أدركوا حقيقة ذلك الفخ الذي عُلِّقَ فيه السلطان عبد الحميد الثاني، وصعوبة نجاته منه، كما جاء على لسان الشيخ سعد الدين في رده على رؤية آينور للسلطان بوصفه –السلطان- رجلاً منفتحاً كما تتصور هي بعد مقابلتها له: (نعم هذا صحيح، ولكنه يحكم باسم الله وجعل هؤلاء الذين يهينون الطبيب غزالة ويعادون جهاز الأشعة، يتكلمون باسم الله أيضا.. آينور هانم عليك مغادرة الموصل قبل أن يفقد عبد الحميد سلطانه.. هذه البلاد لا تريد الحياة ولا تملك العقل لتدرك مصيبتها)، ص: 210.

 كما أنه فسرَّ لها مرة الموقف بشكل أكثر وضوحاً: (حظك سيء يا آينور هانم لقد جئت في وقت بدأ فيه السلطان يفقد مناصريه، من الخطباء والمؤذنين وقراء القرآن ومتولي الأوقاف والكليداريين، هؤلاء باعوا الولاء كي تبقى وظائفهم لهم، الدنيا غدر وخيانة؛ لأن الأرزاق معقودة بيد السلطان؛ ولأنها سترفع من عبد الحميد وتذهب إلى أخيه لهذا لن تجدي من يناصرك ويدافع عنك)، ص: 208.
 

:: الجَمالُ.. تَعليمٌ وتَثقيفٌ ::

ثَمةَ جُهدٌ آخرُ لآينور للتقربِ منَ النَّاس أملاً بتغيير طريقة حياتهم والتمهيد لتقبل الحداثة، لاسيما التقنية، والتمثل بأفكارها الجمالية والطبية؛ لأنها كانت ترى: (إنْ كَانتْ الموصل بائسة المظهر مثل بغداد فعلينا جعلها جميلةً وميالةً للحياة، وعلينا إلقاء البدو والعشائر خارج الأسوار)، ص: 60، وكانت واثقة من فاعلية هذا الجهد لديها وقبوله لدى الجهات التي أرسلتها إلى الموصل فتقول: (إن العثمانيين والألمان بحاجة إلى شغفي الجمالي)، ص: 81، وذلك (من أجل السعي لخلق ثقافة حياتية جديدة. الله يريد أن نحب لا أن نخاف)، ص: 270، وقد حاولت تطبيق تلك الرؤيا عملياً في ثلاثة بيوت استأجرتهم في الموصل، و(كانت بيوت آينور الثلاثة تتشابه في الشكل وتقع على زقاقين، اثنان إلى الشرق والأخير إلى الجنوب، ولا يزيد كل واحد منها عن مائة متر... اطلقت آينور على البيوت تسميات: متعة، ورغبة، وبهجة)، ص: 92-93.

فخصصت بيت المتعة للفعاليات الطبية الخاصة بالعلاج الحديث لأمراض النساء وعمليات التوليد، بينما خصصت بيت الرغبة كبازار للملابس النسائية، لاسيما ملابس النوم والألبسة الداخلية، وبيت البهجة كان مخصصا لها تقيم فيه وسط أجواء رومانسية حالمة.

وهذا الجهد الجمالي والطبي تركَّز على تثقيف العنصر النسوي في الموصل بكل ما هو جديد في هذين المجالين، أما المجال الاقتصادي والسياسي فقد ركزت فيه على العنصر الذكوري، وهي تصرح بمنهجها قائلة: (مصنع الجوارب والمتجر والشركة وسوق الألمان وكل رصيدي في البنك هو بخدمة مصلحة الدولة العلية، ولكن مهنة الطب هي أنا.. الرجال لا يتغيرون إلا بزوال القوة، أما النساء فيتغيرن بالحب. بالنسبة لي الملابس تشبه أشجار البرتقال لذلك علي أن أكون فنانة في ابتكارها.. المدن لا تكون جميلة إلا بنسائها، وأنا سأجعل نساء الموصل عاشقات وحسناوات) ص: 160. إنها تؤمن أن الحب والخيال والحلم يصنعون المعجزات.

فمن وجهة نظرها (الجمال تعليم وتثقيف، ولا يمكن لامرأة أن تكون منتجة للسعادة والحكمة بغياب التربية الناعمة) ص: 168. لذلك حاولت في بيت (الرغبة) الترويج للبضائع النسوية من ملابس واكسسوارات على الطراز الغربي.

يمثل الجانب الرومانسي مصدرا من مصادر هذا السلوك الجمالي الحالم عند آينور، الذي اكتسبته من شخصية حبيبها ادولف، الذي علمها (أن الأشياء التي نتوصل إلى يقين حاسم بشأنها تسبب لنا التعاسة لأننا سنتوقف عن تخيلها)، ص: 143. لذلك هي لم تصل إلى تصورات يقينية حاسمة بشأن خططها في الموصل، بل ظلت تحلم كل يوم بمشروع ما ومبادرة جديدة، نجحت مرات واخفقت مرات، لكن في نهاية الرواية يصل السلطان عبد الحميد إلى يقين بفشل المهمة التي كلف بها آينور، بفعل القوى الدولية الأخرى الداخلية والخارجية، ولم يستجب لخيالها الحالم بتغيير الموصل.

وأخيراً نقول إن أفعال ومنجزات آينور في الموصل، لاسيما الجمالية والتنويرية كانت أشبه بالـ(تِرتِر) تلك الحبات اللاَّمعة الجميلة التي تزين الملابس وتضفي عليها لمعاناً وجمالاً وتغير من شكلها.. وأن منجزها الكبير في الموصل لا علاقة له بمقياس الربح والخسارة، وإنما بفتحها العقول هناك على الإيمان بإمكانية تحقيق الحلم كما قال لها السلطان: (الطيبون والحالمون يخسرون دائماً ولكنني لا أعتقد أن هذا الأمر له علاقة بقوة الشر.. لو أننا نجحنا وحققنا ما نريد فما الذي سيبقى للذين سيولدون بعدنا؟ أنت جربت وشاهد الناس أعمالك وعرفوا أن الأحلام يمكنها أن تتحقق.. هذا هو إنجازك العظيم يا آلينور) ص: 273.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها