في معنى التعددية اللغوية

المسلمون والبيزنطيون في عصر بني أمية نموذجاً

د. عبدالوهاب القرش

تتمثل الخطوط العريضة للاحتكاك الثقافي بين المسلمين والبيزنطيين، في الاحتكاك اللغوي بأسبابه وآثاره على مستقبل اللغتين اليونانية والعربية.

لقد تميز عصر بني أمية بأهمية كبيرة في تاريخ اللغة اليونانية في الشام ومصر وفي بيزنطة نفسها، وبفقدان بيزنطة للشام ومصر لم يعد كل منهما إقليماً بيزنطياً، وتحولا إلى إقليمين عربيين إسلاميين، وقد أثر ذلك بدوره على وضع اللغة اليونانية داخل الأقاليم البيزنطية الأخرى، ولم تمر هذه التحولات دون أن تترك آثاراً لغوية عند المسلمين في لغتهم العربية أكثر مما تركت عند البيزنطيين في لغتهم اليونانية، فلماذا؟

لقد كان التأثير اليوناني اللغوي أكثر على اللغة العربية؛ لأن المسلمين بفتحهم للشام ومصر، ودخولهم حوض البحر المتوسط بثقافته اليونانية، كانوا حديثي عهد بعلوم اليونان وغيرها، ولم يصحب المسلمون معهم شيئاً كثيراً من التراث الثقافي وإنما جاءوا فقط بالدين الإسلامي واللغة العربية، وفيما عدا ذلك وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الاعتماد على الشعوب التي فتحوا بلادها، فلذلك أخذوا عن البيزنطيين مسمياتهم للعلوم والأدوات والموازين وبعض صناعاتهم.

على أي حال لم يمض وقت طويل حتى سادت اللغة العربية الشام ومصر وضعفت اللغة اليونانية والقبطية، كما أن المسيحية في البلدين قد بدأ تعربيها لغوياً وثقافياً وأصبحت عربية، فاضطرت أديرة فلسطين وسوريا إلى تلبية حاجات الرهبان ورجال الكنيسة بما يغذيهم من مؤلفات الآباء القديسين، فنقلت بعض كتاباتهم إلى اللغة العربية في نهاية القرن السابع الميلادي، وبذلك لم تتأخر اللغة العربية في إزاحة اللغة اليونانية، فحلت مكانها في البطريركيات الثلاث في الدولة الإسلامية، وأصبحت اللغة العربية لغة سكان البلاد، الذين بقوا على دين آبائهم في كنف الدولة، هذا فضلاً عن لغتهم الأصلية فالموظفون البيزنطيون والشوام والأقباط، الذين تركهم المسلمون في وظائفهم السابقة كانوا يجيدون التحدث باللغتين، وكذلك السريان والنساطرة والبوليسيون والسفراء، وسكان الحدود من البيزنطيين والمسلمين والإمبراطور ليو الثالث، وبعض رجال الدولة من المسلمين والبيزنطيين، كل أولئك كانوا يجيدون التحدث باللغتين اليونانية والعربية.

هذه الازدواجية اللغوية أو حتى التعددية اللغوية هي خاصية من خصائص الفتح الإسلامي، ولكن الأمر الثابت أن اللغة العربية كان يستخدمها الحكام في شكلها العلمي النقي، أو في اللهجات المحلية التي كانت تكتب جنباً إلى جنب مع اليونانية، التي طرأت عليها تغيرات شعبية، والتي كانت تستخدم في الكنائس، وفي الوثائق الرسمية.

ومن الناحية الثقافية فرض تفوق المسلمين السريع لغتهم ودينهم، وانحنت اليونانية الهزيلة في الشام ومصر إعجاباً بدينهم وأدبهم وشعرهم، وشهادة ساويرس بن المقفع معروفة حق المعرفة، ففيها يندب موضة الاستعراب بين المثقفين المسيحيين في زمانه لولوع الناس باللغة العربية ومحاكاتها مع إهمالهم للكتاب المقدس بلغته اليونانية والقبطية فيقول: "استعنت بمن أعلم استحقاقهم من الإخوة المسيحيين وسألتهم نقل ما وجدناه منها -أي من سير الآباء المسيحيين- بالقلم القبطي واليوناني إلى القلم العربي، الذي هو معروف الآن عند أهل الزمان بإقليم ديار مصر لعدم اللسان القبطي واليوناني من أكثرهم".

لقد ترك الوجود البيزنطي في الشام ومصر طابعه على اللغة العربية وخصوصاً من حيث المفردات، حيث إنه لا يزال حتى اليوم أوضح أثر تركته فترة الحكم البيزنطي، وهذا الأثر يتناول مختلف نواحي الحياة، وهذا التأثير اللغوي يحتاج إلى دراسات مستفيضة من علماء يجيدون اللغتين العربية واليونانية إجادة كاملة ليتسنى لهم معرفة الكلمات التي انتقلت من وإلى أي من اللغتين.

ومن الأمثلة التي يشيع الاستشهاد بها فيما سبق ذكره في الحياة العامة نجد:
جلا (ظهر) = Gal,Gel , gle
جَهَرَ = Gar
قالون (جيد – صالح – حسن) = Kolos,é, on
الخداء (الغناء) = Hóde
عُدَار أو هُدْرَة (شجاع) = Hydra
شرف = Hyper
لص (السارق) = Lestis
نطرون (بورق) = Nitron
مغناطيس = Magntis

ومن الكلمات المتعلقة بالكون والطبيعة

عُقَّة (البَرْقة المستطيلة في السماء) = Oiglé
النَّيِّرة (الكوكب الأكبر في السماء) = Maire
جمَّ (جم الماء وغيره) = Gem
عِدّ (الماء الجاري) = Hydor
تُرْعة = Thura
قرن (الوقت من الزمن) = Khronos
قِري (أعواد العصا) = lkrion
هاله (ما حول القمر) = Alus
نرجس (نوع من الزهور) = Narkiuosos

ومن الكلمات المتعلقة بالكائنات الحية غير الآدمية

عصفور = Strouthos
بَرَمة (نملة) = Myrméx
جُنُدع (ضرب من صغار الخنافس) = Kanthor
حِنْطة خَنْدَريس (ضرب من السوس الذي يقع في الحنطة) = Kanthais
حوت = Kótos

ومن الكلمات المتعلقة بالإنسان

الضَفيرة (المجدول من الشعر) = Gephura
عُتُلّ (الغليظ الجافي) = Othélus
فاق (بمعنى الطويل) = Gigas
قُنْع، قُبْع، قُتْع = Conkhos

ومن الكلمات الخاصة بالمكايل والموازين والمقاييس

الأوقية = Ouggia
الرطل = Litra
القسط = Xestes
المد = Modius
الأردب = Artaba
القدح = Xodos
البالة (الجراب) = Phialé
القيراط = Keration
متر (مقياس للأطوال) = Metron

ومن الكلمات الخاصة بالتجارة

خراج (الضريبة – كلمه آرامية انتقلت إلى اليونانية ومنها إلى العربية) = Choregia
البقط (عقد أو اتفاق) = Pactan
القيسارية (السوق) Kaysarriyya
الفندق = Pandakeion
الدينار = Dinarius
الدرهم = Drochmos
الصولدى = Solidus
نقل (للفواكه) = Nugalon
نولون (ما يدفع لشحن البضاعة) = Noulon

ومن الكلمات الخاصة بالصناعات

الديباج (ومعناه المفروشات المزخرفة) = Topestes
القباطى (وهو نسيج مزخرف يصنع في مصر) = Tapestry
المصطكاء (وهو نوع من العطور) = Masticha
مجموع السفن التي تحمل البضائع وقد عرفت باسم أسطول = Stool
قرطاس (الورق كاغد) = Khartes
أنجور (المراسي التي على ظهر السفن) = Angor

ومن الكلمات الخاصة بالمأكولات والمشروبات

مَلِح (اللبن وتنقلاته أو مشتقاته) = Amelgen
دُهْن = Démos
خمر خالص = Khalis ikos
خَنْدَريس (ضرب من الخمر الفاخرة) = Kanthareós

ومن الكلمات الخاصة بأصحاب الوظائف

اللغثيط (وهو عند البيزنطيين يعادل صاحب الحسبة عند المسلمين) = Logothetes
أصحاب القنطاريات (وهم حملة نوع من الرماح عرفوا بهذا الاسم) = Kantarios
أصحاب المنجنيق = Manganarios
جسطال أو قسطال = Gastalia
أصحاب البريد = Veredus
الشرطي (الحارس) = Schwerts
نوتي (ملاح) = Nautaus

ومن الكلمات المتعلقة بالعمارة

قِرمْيد (ضرب من الآجر) = Keremis IDos
كورة = Curia
إيوان (كلمة فارسية انتقلت إلى اليونانية ومنها إلى العربية) = Iwan
البلاط (مقر الحكم) = Platian
رباط = Ribat
الفسطاط (الخيمة) = Fassatan
نوسا (مقبرة) = Naos
مسطارين (أداة للبناء) = Moustrian

ومن الكلمات المتعلقة بالدين

فردوس = Paradeisos
القليس (الكنيسة) = Ecclesia
الحاثليق (الرئيس الديني الأعلى للنساطرة) = Calholicos
الزنار = Zonar
مجوس (عباد النار) = Magous
ناموس (روحي) = Namos

وهناك خيط لغوي آخر يتجلى في أسماء المدن اليونانية التي سيطر عليها المسلمون وما زالت حتى اليوم مركبة من عناصر يونانية، وعلى سبيل المثال:
طرسوس = Tharsian
بيروت = Beryta
قيسارية = Caesarea
عكا = Acra
أرواد (وهي جزيرة صغيرة مقابلة للساحل الشامي) = Aradus
حلب = Aleppo
أنطـاكية = Antioch
قبـرص = Cipro
رودس = Rhodian

 

نخرج مما سبق من الكلمات أن المسلمين استخدموا تعبيرات مبسطة حتى يفهم عنهم أهل الشام ومصر، ويتلفظوا بها بسهولة، وفي أثناء ذلك كانوا يستعيرون منهم بعض الكلمات الأعجمية وخاصة في الأطعمة وأدوات الحضارة، وكانوا يعربونها وقد يبقونها على صورتها الأصلية.

وربما كان أهم من ذلك ما أصاب اللغة العربية من لكنات أهل الشام ومصر، فإن كثيراً منهم كانوا يجدون عُسراً في نطق بعض حروف اللغة العربية، التي لا توجد في اللغة اليونانية أو القبطية. ويعرض علينا الجاحظ صوراً مما كان يجري على ألسنة عامتهم من هذه اللكنات، حتى لتفسد العبارة العربية إفساداً، فمن ذلك أن أماً قالت لبعض ولدها: "وقع الجردان في عجان أمكم" فأبدلت الذال من الجرذان دالاً، ونطقت العجين عجاناً، وتسربت هذه اللكنات إلى ألسنة العرب الذين كانت أمهاتهم من أهل الشام ومصر –الموالي- ومن ذلك من كان يبدل الحاء هاء والقاف كافاً فإذا قال: أحَرُوريٌ أنت؟ "قال: "أَهَرُورِيُ أنت"؟ وإذا قال: "قلت لك" قال: "كلت لك". ومن ثم اعتنى خلفاء بني أمية بتأديب أولادهم، ويُقال إن عبد الملك بن مروان أهمل تأديب ابنه الوليد فجرى اللحن على لسانه، ومما يروى من لحنه أنه نطق يوماً كلمة "لص" بضم اللام، وأنه قال لأبيه حين قتل أبو فديك الخارجي: "يا أمير المؤمنين قتل أبي فديك".

على أن المسلمين أثروا بدورهم في إعلان هرقل وخلفائه اللغة اليونانية لغة رسمية للإمبراطورية البيزنطية بدلاً من اللغة اللاتينية، وذلك لعدة أسباب هي: أنه بفتح المسلمين للشام ومصر وشمال إفريقيا وغيرها، تقلص بذلك حدود استخدام اللغة اليونانية، كما أنه بسبب الفتح الإسلامي هاجرت الشعوب الناطقة باليونانية إلى الأراضي البيزنطية فازداد بذلك عدد اليونانيين في آسيا الصغرى، وكانوا أهم العناصر التي اعتمدت عليها الإدارة البيزنطية، ونتيجة لذلك أصبحت اللغة اللاتينية غير مفهومة للسكان اليونانيين، وخاصة في الأقاليم الشرقية، والكنيسة الشرقية تعاليمها باللغة اليونانية، فكان من الصعب الاستمرار في أن تكون اللغة الرسمية في التعامل هي اللاتينية والشعب يتكلم اليونانية.

والحقيقة أن إعلان هرقل ذلك معناه انتصار للكنيسة الشرقية ولغتها، حتى إنه اتخذ لقب باسيلوس Basileus بدلاً من إمبراطور Imperator، وتبدلت الأسماء والألقاب فمثلاً تبدلت كلمة قلعة Castrum بكلمة Kastra؛ والميدان العام Forum أصبحت Foros وترجمت قوانين جستنيان الأول من اللاتينية إلى اليونانية، وتحولت العملة البيزنطية من النقش اللاتيني إلى اليونانية حيث حلت العبارة اليونانية "بهذا ننتصر Eniouto Niko" محل العبارة اللاتينية "فليساعد الله الرومان Deus a Diuto Romanis"، وقد أثر هذا التحول على مستقبل الإمبراطورية البيزنطية بل وأوروبا كلها، ففرض اللغة اليونانية كان بالنسبة إلى بيزنطة يعني التلاحم بين الدولة والكنيسة، وجعل اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية كان معناه ازدياد البعد والشقة بين الغرب الأوروبي والإمبراطورية البيزنطية، لاختلاف الإرث الثقافي واللغوي الذي لعب دوراً بالغاً في الفصل بين الغرب اللاتيني والشرق اليوناني، والذي استطاع القرن السابع الميلادي أن يفصح عنه بشكل واضح.

وقبل أن نترك الحديث عن الاحتكاك اللغوي نذكر بعض الكلمات العربية الإسلامية التي عرفها البيزنطيون، وكانت معظمها كلمات دينية، وهو أهم ما جاء به المسلمون، ومثال ذلك: الله أكبر Alloha Akkbr، محمد الرسول -صلى الله عليه وسلم- Mohamet، الكعبة Koupap، وكانوا يطلقون على المسلمين أسماء الهاجريين Agaranes نسبة إلى السيدة هاجر زوجة سيدنا إبراهيم، والإسماعيليين Ishmaelenes نسبة إلى سيدنا إسماعيل أجداد الرسول الكريم -عليهم السلام جميعاً- كما أطلقوا على المسلمين اسم الشرقيين Sarakenos.



المصادر والمراجع
1- الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الرابعة، مكتبة الخانجي القاهرة، 1395هـ.
2- الجهشياري: الوزراء والكتاب، تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الإبياري، عبد الحفيظ شلبي، الطبعة الثانية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة 1401هـ/1980م.
3- الرازي: مختار الصحاح، دار الباز للطباعة والنشر، بيروت، بدون تاريخ.
4- ساويرس بن المقفع: تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية أو سير الآبار البطاركة. المجلد الثاني، 3 أجزاء، مطبوعات جمعية الآثار القبطية المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، ج1: 1943م، ج2: 1948م، ج3 1959م.
5الكرملي: نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها، المطبعة العصرية، القاهرة 1938.
6- المبرد: الكامل في اللغة والأدب، جزآن، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1365هـ/1945ـ1946م..
7- أس. س. ترتيون: أهل الذمة في الإسلام، ترجمة الدكتور حسن حبشي، الطبعة الثانية، دار المعارف، القاهرة، 1967م.
8- عبد الرحيم غالب: موسوعة العمارة الإسلامية، دار العلم للملايين، بيروت، 1990م.
9-    Cedrenus. G., Historiarum compendium., P. G. M. tome cXXI- CXXll., paris, 186.
10-  Bar Hebraeus., The chronography of Gregory Abul-faraj., Tr., from the Syrian By. E. A. Wallis Bidge., London, 1932.
11-  Nasralla.j: Saint Jean de Damas. Harissa.1950
12-  Theophanes., Chronographia., P.G.M tome Cix., paris. 1963.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها