لوحات «بيكون».. هجاء الانحطاط الإنساني

وفيق صفوت مختار

كـان «فرانسيس بيكون» Francis Bacon يُصر على تقديم لوحات تعج بمشاهد صنعتها الحروب وآلتها البشعة، واقتصاديات السوق الحرة، وانهيار القيم والمُثل العُليا، لزرع الخوف حدّ الرُّعب. شخوصه محشورة بإهمالٍ في عزلةٍ وجوديةٍ وقدريةٍ، على سرير «بروكرست» Brvkrst، تلك الشخصية القادمة من الميثولوجيا اليونانية، الذي كان يُهاجم الناس ويقوم بمط الأجساد أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوالهم مع سريره الحديدي. ومُزقت أجساد بسياط «الماركيز دي ساد» Marquis de Sade 1814-1740 الذي اشتق منه مصطلح «السادية» Sadism أو الاستمتاع بتعذيب الآخر، نعم إنَّها أجساد لم تصورها فرشاة، بل فتّتتها سياط تنهال ضرباً على أجساد ضحاياها فتتلوى ويتناثر دمها ولحمها أصباغاً كامدة.

يقول «بيكون»: «ليست أعمالي إلَّا سعياً دؤوباً لإظهار نمط من أنماط الإحساس.. فالتصوير يعكس بنية جهازنا العصبي الخاص من خلال إسقاطه على القماش».

في العام 1988 أقام بيكون معرضاً في متحف المتروبوليتان في نيويورك، وقد زار المعرض أكثر من 200 ألف شخص، ولم يكن طريق «بيكون» لتحقيق هذه الشهرة والنجاح العريض بالسهل فقد دان النُقَّاد والدارسون الأمريكيون «بيكون» لأسلوبه شبه الواقعي، ولاختياره تلك الموضوعات المثيرة، ولعدم اشتراكه في التطوُّرات التكنيكية الجديدة للفن المعاصر، ولقد لقي نقداً أشد مرارة من «أندريه فيرميجيه» Andre Vermejih الناقد الفني لصحيفة «لوموند الفرنسية»، الذي قال عن موضوعاته وأسلوبه: «إنَّ هواجس بيكون رتيبة ومملة»!!

وعلى الرغم من هجوم النُقَّاد الفرنسيين والأمريكيين على «بيكون»، فإنّ الفنانين الأمريكيين قد أيدوه بشدة،ٍ فقد قال الفنان «لاري ريفرز» Larry Rivers رائد الفن الشعبي: «على الرغم من غرابة أعمال بيكون فإنَّه أعظم الفنانين المعاصرين». وقال الفنان «جيم داين» Jim Dine: «إنَّ هناك قلة تُعد على الأصابع من الفنانين الذين أحترمهم، أحدهم بيكون الذي أعتبره فناناً عظيماً».

غير أن «بيكون» لم يهتم بآراء الناس أو النُقَّاد في أعماله، وقال في رده على هذه الآراء: «لقد كان أملي دائماً أن أُعبِّر عن الأشياء بصورةٍ مباشرةٍ كما أراها في الواقع أو ما يُسمى الحقيقة المؤلمة».

وكان له رأي خاص في رفض التخلي عن رؤاه الفنيَّة الرئيسية في الفن المعاصر، فكتب إلى الرسام الإيطالي «ماثيو سميث» Matthew Smith قائلاً: «إنَّ الرسم يتجه لأن يكون تشابكاً كاملاً بين الرؤى والألوان بحيث تصبح الرؤية هي اللَّون، واللَّون هو الرؤية.. هنا تكون ضربة الفرشاة خلقاً للأسلوب وليست مُجرَّد التعبير عنه في فراغ اللَّوحة، بذلك تصبح كُلّ حركة للفرشاة تغييراً في شكل الرؤية وفي تأثيراتها.. هذا هو السبب الذي يجعل من الرسم صراعاً غامضاً ومستمراً».

رحل «فرانسيس بيكون» بالعاصمة الإسبانية «مدريد» في الثامن والعشرين من العام 1992 عن عُمْر يناهز 83 عاماً بعد أن فرض اسمه على الساحة التشكيلية العالمية كحالةٍ مُتفرِّدةٍ قائمة بذاتها، ليبقى حتى يومنا هذا واحداً من أهم الممثلين لاتجاه التشخيص الجديد في فن التصوير.

إنَّ الأشكال الأميبية التي يرسمها «بيكون» نجد لها تبريراً في أطروحاته النظرية عندما يتحدَّث عن أسلوبه عندما يقول إنَّه «أسلوب لاختراق أماكن شعور جديدة، بدلاً من أن يكون مُجرَّد تصوير لشيءٍ ما». وعن أعماله المسكونة بالوساوس والهواجس، قال «دينس ميلهاو» Denis Milhau: «إنَّها أعمال ترتكز جميعها على الشكل الإنساني، وتُقدِّم نفسها كدعوى تدين الشرط الإنساني، بل الإنسانية جمعاء بما فيها الفنان نفسه، الذي يطيب له أن يُعلن أن أعماله عبارة عن صورة لشخصه وللآخرين».

ويمكن النظر إلى أعمال هذا الفنان التي أصبحت أسعارها تتفوق على أعمال كبار الفنانين بأنَّها هجاء عنيف للانحطاط الإنساني في القرن العشرين الذي عبَّرت عنه الحروب الشرسة، واقتصاد السوق الذي يطحن المجتمعات الفقيرة، والأسلحة الفتاكة التي تبيد البشر وتحوِّلهم إلى كتلٍ لحميةٍ متفحمةٍ ومشوهةٍ. إنَّ «بيكون» هو ضمير الإنسان في عصر الموت السريع برمته.

ولقد استحوذ اسم الفنان البريطاني «فرانسيس بيكون» على مزاد «كريستي» الذي يُعد واحداً من أكبر وأهم مزادات الفن في العالم، ففي عام 2012 بيعت لوحة لهذا الفنان بعنوان «ثلاث دراسات لرسم لوسيان فرويد» رسمها عام 1969 بمبلغ زاد على 142 مليون دولار في مزاد علني في نيويورك. تتألَّف هذه اللَّوحة من ثلاثة أجزاء يصور فيها صديقه «لوسيان فرويد» حفيد عالم النفس الشهير «سيجموند فرويد» وهو يجلس على كرسي خشبي. لقد تخطى سعر هذه اللَّوحة الرقم القياسي السابق المُسجل باسم لوحة «الصرخة» للفنان النرويجي «إدوارد مونش» Edvard Munch (1944-1863) التي بيعت بمبلغ يقرب من 120 مليون دولار.

وفي عام 2013 أعلنت دار «كريستي» عن بيع لوحة أخرى لـ«بيكون» في مزادها العلني في لندن بمبلغ كبير حطم الأرقام القياسية التي قدرت لها.فقد بيعت لوحة من أعماله يصور فيها صديقه «جورج داير» بأكثر من 70 مليون دولار، عنوان اللوحة «بورتريه لجورج داير وهو يتكلم» رسمها في ذروة شهرته عام 1978.

 

 


نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 245 (صفحة 119)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها