الأطفال وصناعة المستقبل الرقمي

"اليوتيوبرز الصغار The little YouTubers"

د. محمود أحمد هدية

يُعد المحتوى المرئي الرقمي من أقوى أنواع المحتويات عند المتلقي؛ لقدرته الكبيرة على جلب التفاعل.. وذلك لقدرة الدماغ البشرية على الاحتفاظ بأشكال الصور والتصميمات وتذكرها بنسبة أكبر من المحتوى المكتوب، فمن خلاله يستطيع صانعوه نشره على نطاق واسع، لذلك سعوا للبحث عن المنصة الأنسب لصناعة ونشر الفيديوهات الخاصة بهم، وهو ما تجسّد في اليوتيوب. تلك المنصة الإعلامية والإعلانية الأشهر على الإطلاق، والتي تأخذك إلى عالم آخر، تستطيع فيه عرض إبداعاتك ورسم خيالك في أي مجال، فإذا كانت لديك موهبةٌ، أو تريد مشاركة هواية ما مع العالم؛ فانطلق واصنع ما تحب مستقلّاً بساطَ اليوتيوب، سواء كنت هاوياً أو تسعى للتربح، فعليك باليوتيوب؛ باعتباره من أهمّ وسائل التواصل الاجتماعي في وقتنا الحالي، فهو وسيلة أكثر أهمية من التلفزيون بالنسبة لقطاع كبير من مستخدمي الإنترنت حول العالم، وبصفة خاصة الشباب في السنوات الأخيرة القليلة؛ إذ أصبح ثاني أشهر محرك بحث في العالم مع شركة جوجل، التي دفعت الكثير لترك التليفزيون والإقامة أمام شاشات الكمبيوتر، مما أتاح للكثير نشر فيديوهاتم بنقرة واحدة.
 

وسيطر اليوتيوب على أكثر من ثلث مستخدمي شبكة الإنترنت، أي ما يزيد عن المليار مستخدم منقسمين بين التليفون –الجوال- وأجهزة الكمبيوتر، وما لبس أن هيمن على عالم الفيديو، فأتى في المركز الثاني بعد موقع الفيسبوك من حيث عدد المستخدمين بأذواقهم المختلفة، فمنهم من يبحث عن الترفيه بالاستماع إلى الموسيقى أو مشاهدة الأفلام، والبعض الآخر يستخدمه من أجل التعلم؛ لأنه يلبّي احتياجات الجميع، فضلاً عن سعي العديد من المراكز البحثية والأكاديمية في العالم؛ لاستخدام موقع اليوتيوب في كثير من الدراسات النفسية.. وذلك عن طريق معرفة أكثر كلمات التي يتمّ البحث عنها في اليوتيوب، بالإضافة لدراسةٍ لأكثر مقاطع الفيديو مشاهدةً، للتعرف على الذوق العام العالمي... ومن ثم توفيرها لتلك الفئة المستهلكة، عبر الشركات التسويقية.

 

لماذا المحتوى المرئي؟

يُعدّ الفيديو أحد أهم الجوانب المرئية المستخدمة في تسويق أي محتوى في يومنا هذا، وفي هذا السياق يتوقع خبراء الإنترنت والتسويق حول العالم، أن هذا عام 2019م سيشهد 80٪ من حركة الإنترنت، من حركة مرور الفيديو في العالم وهو ما نرصده في تلك الأيام، وذلك لرغبة مستخدمي الإنترنت مشاهدة مقاطع الفيديو بدلاً من قراءة النص المكتوب، ففي إحصائية أخيرة أبرزت أن متابعي اليوتيوب يفضلون مشاهدة فيديو عن منتج ما أكثر من قراءته، في حين يقول 90٪ من المتابعين أن مشاهدة فيديو المنتج مفيدٌ جداً في اتخاذ قرار الشراء، على عكس المحتوى المكتوب فقط، بالإضافة إلى أن 64٪ من المتابعين لديهم رغبة أكبر في إجراء عملية شراء بعد عرض المحتوى المرئي والمتمثل في مشاهدة فيديو المنتج.


صناعة اليوتيوبر الصغير:

مع سهولة الوصول إلى كاميرات التصوير وبرامج تحرير مقاطع الفيديو، الأمر الذي أتاح -لأي مستخدم- نشرَ محتواه على الإنترنت، بما في ذلك الأطفال، حيث أصبح بعضهم الآن نجوماً ذوي شهرة كبيرة بالنسبة للمشاهدين من الأطفال، ممن يحبون مشاهدة أقرانهم وهم يعرضون توصيات أو تعليقات على ألعابهم ونصائحهم بشأنها، فضلاً عن نزهاتهم ومواقفهم مع أسرهم، بالإضافة لقيامهم بالعديد من التجارب العملية.

تلك العوامل خلقت فرصاً لأولئك اليوتيوبرز الصغار لإيجاد مساحة لهم لكسب المال، عن طريق تصوير بعض المشاهد المثيرة والغريبة، والتي تسترعي ردّ فعل مشاهديها؛ فأوجدت لأولئك الصغار رعاة من شركات الألعاب والمواد الغذائية. فضلاً عن أشهر المنتجات المتعلقة بالأطفال، فبدورها تسعى الأسرة للقيام  بتصوير أطفالهم، ثم رفع هذه المواد على الشبكة، ومن خلالها يجنون الأموال من اليوتيوب أو الشركات التجارية؛ في مقابل نشر إعلاناتها. كما يربحون الأموال بمشاركة الفيديوهات مع ازدياد أعداد مشاهدة الفيديوهات الخاصة بهم.


إذن ما الدافع القويّ الذي يوجه الأطفال لصناعة فيديوهات خاصة بهم؟

تنبع تلك الدوافع عادةً من القيمة التسويقية لليوتيوب؛ إذ يستقبل يوتيوب يوميّاً ملايين الفيديوهات الجديدة، مما يخلق مليارات المشاهدة من كافة أنحاء العالم، فالإعلانات وأرباحها تخضع لعملية معقدة أشبه بالمزادات، حيث بلغ ثمن الإعلانات على اليوتيوب عام 2013م حوالى 5.6 مليار دولار، ويأتي ذلك من حجم المشاهدات اليومية والتي تبلغ حوالي ما يزيد عن 3 مليار مقطع باليوم الواحد، والإعلانات تأخذ ثلاث أشكال لعرضها، فعندما تشاهد أي فيديو على يوتيوب تظهر لك النوعية الأولى، وهي إعلانات تظهر في بداية أو خلال الفيديو وهي قابلة للتخطي بعد 5 ثوانٍ من عرضها، والنوعية الثانية هي الإعلانات الكتابية التي تظهر داخل مربع الفيديو بالأسفل، والثالثة إعلانات تظهر على يمين الفيديو بشكل مستمر، وهذه الإعلانات مدفوعة من قبل الشركات المُعلنة حتى يراها الجمهور، وينال يوتيوب أرباحه منها، ثم يمنح كل صانع فيديو نصيباً من الربح على الإعلانات التي ظهرت خلال عرض المحتوى الخاص به.

وتساعد الخاصيات الموجودة باليوتيوب هؤلاء الصغار على الترويج لأعمالهم عن طريق مقاطع الفيديو المقترحة، والتي تظهر في اليوتيوب حسب المقطع المعروض، وبالتالي فإن عرض الطفل لمقطع كرتونيّ سيبقيه في عالم مقاطع الكرتون، فاليوتيوب يظهر المقاطع المقترحة حسب كلمات البحث المقترحة بشكل آليّ، مما يجعل المتابع أسيراً لتلك الفيديوهات في كثير من الأوقات.


المال في مواجهة الطفولة

وأمام الرغبة الملحة من طرفيْ المعادلة –الطفل ووالديه- تنفجر قضية مهمة، وهي الآثار المترتبة على صناعة الطفل لتلك الأعمال وما ينتج عنها من سلبيات على مستوى الشخصية والأسرة، إذ في المقابل يفقد الطفل في تلك الحالة المشاعر المتبادلة مع والديه اللذين يسعيان لوضعه على طريق لا يحيد عنه، ولا يحتمل الخطأ؛ رغبة في الحصول على المال، مما يزعزع روابط الثقة والارتباط بينهم، بالاعتماد عليهم كمصدر لجمع الأموال فقط، وهو ما يعتبر نوعاً من أنواع الاستغلال المتعمد لهم، في ظل عدم احترام الحياة الشخصية للطفل؛ مما يعرضه لأن يكون هدفاً لأصحاب النيات السيئة من مرتادي اليوتيوب، الأمر الثاني أن حالة التباهي والثناء غير المحدودة التي يعيشها الطفل، سواءٌ من أسرته أو محيطه، تُعدّ نوعاً من أنواع الإساءة التي يمكن أن تمارس ضده، فهو في تلك الحالة أشبه بمدمن المخدرات، ما يتسبب له في أزمات عند فقدها، فيعيش حياة مرهونة بالإعجاب، مطعمة بالخيلاء والتظاهر، ما يمكن أن يعرضه لإنهاء علاقاته الإنسانية.


الطفل والصراع اليوتيوبي

يعيش اليوتيوبر الصغير حالة من القلق والتوتر الشديدين، بين رغبته في كسب المال والمحافظة على نسب المشاهدة؛ تلك الحالة تجعله دائماً ومن حوله يطرحون عدداً من الأسئلة تستحوذ على جلّ تفكيرهم، والتي يسعى اليوتيوبر لمعرفة من سيشاهد الفيديو الخاص به، والفئة المستهدفة؟ فضلاً عن نوع المحتوى المفضل عند المتابعين؟ فبمعرفتهم يستطيع تقديم ما يرغبون في مشاهدته، بالإضافة إلى المنافسين من أقرانه والتعرف على أساليبهم للحصول على عدد من الأفكار الجديدة، فضلاً عن رغبته في تحسين جودة المحتوى المقدم، سواء صورة أو صوت. وذلك للمحافظة على جودة العمل مع مرور الوقت. لذلك يسعى اليوتيوبر الصغير إلى متابعة الإحصائيات التي تشير لأكثر الفيديوهات مشاهدة ليتعرف على اتجاهات الجمهور وتحديد ما يميزها في نقاط يمكنه من خلالها تحسين أعماله واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لتعزيز وضع الفيديوهات الخاصة به ونشرها، فضلاً عن نشر فيديوهات غريبة للأطفال والحيوانات كالقطط والضحك والمشاعر الإنسانية وبعض الموضوعات العامة لجذب مزيدٍ من المشاهدين.

هذا الوضع يؤثر سلباً وبشكل خطير على الاستمتاع بالحياة الطبيعة للطفل والرضى عنها؛ لأنه يخوض معركة لإثبات الذات، والمحافظة على مكتسباته، لأنه إذا صار عاديّاً وغير مميزٍ، وليس بالأول، أو عاجزاً عن جذب اهتمام الناس إليه؛ ربما يرى نفسه أتفه وأسوأ وأغبى وأحقر طفل مما قد يُحدث مجموعة من الاضطرابات النفسية الشديدة لديه، خاصةً وأن أغلبهم من نجوم اليوتيوب يملكون غرفاً مزينة وكبيرة، ويظهرون في الفيديوهات بكثرة وهم يتسوقون مع عائلاتهم ويشترون مزيداً من الألعاب والأشياء الجديدة في كل مرة، فإذا فقدت تلك الأشياء، فقد الطفل أمامها شخصيته.


أشهر اليوتيوبرز الصغار

يضمّ اليوتيوب مجموعة كبيرة من الأطفال الصغار المالكين لقنوات خاصة بهم، وتحصد فيديوهاتهم مليارات المشاهدات بشكل دوريّ، لكلّ منهم طريقته وأسلوبه الخاص في العرض والتقديم، الأمر الذي يشجع غيرهم لخوض ذلك المجال ومن أبرز أولئك اليوتيوبرز:

أَلِف:

الطفلة البالغة من العمر خمس سنوات، التي تظهر في العادة وهي تلعب مع دماها وتمارس الرقص، إذ حطمت مقاطع الفيديو الخاصة بها أرقاماً قياسيّة في عدد مرات المشاهدة، بواسطة القناة المملوكة لها على موقع اليوتيوب، والتي يتابعها قرابة مليون ونصف المليون مشترك، وشُوهدت فيديوهاتها قرابة 2 مليار و444 مليون مرة، حيث تقدم دعاية لمنتجات متنوعة مثل الألعاب والحلويات والأزياء، والتي من خلالها تستطيع تلك الطفلة أن تربح وعائلتها آلاف الدولارات في العام الواحد.

ويقوم والد أَلِف بتصوير الفيديوهات الخاصة بابنته، وفي كثير من الأوقات يصوّرها وهي تسكب على رأسه صوص الشوكولاتة ومشروب الكولا والقهوة تحت مسمى "لعبة كُلْ وإلَّا سكبتُه على رأسك"، بالإضافة لأنها ربما تقوم بحركات عجيبة وغريبة كأن تقطع ثمرة بطيخ نصفين وتلبس أحدهما برأسها، وبينما تحدث كل هذه الأمور تُسمع قهقهة الوالد الذي يقوم بعملية التصوير ولا يُظهِرُ وجهه في الفيديوهات على الإطلاق وهو ينادي على طفلته.

 

رايان هيجا:

ذلك الطفل البالغ من العمر ثمان سنوات، والمالك لقناة Ryan Toys Review واحدة من أكثر قنوات يوتيوب شعبية والتي جذبت أكثر من 17.4 مليون مشترك و 26 مليار مشاهدة، محققاً أرباحاً تخطت 22 مليون دولار، حيث يبلغ دخله قرابة 9 مليون جنيه إسترليني سنوياً من خلال عرضه ألعابه على قناته الخاصة، وقد استطاع أن يجمع مبلغ 11 مليون دولار في الفترة من يونيو 2016م إلى يونيو 2017م، وقد احتلّ مرتبة عالية في قائمة مستخدمي يوتيوب الأعلى أجراً، وتبدي عائلة ريان سعادتها لما يحققه ابنها منذ أن أنشأ قناته في عام 2015م، وكان في الثالثة من عمره، الأمر الذي أدّى في نهاية الأمر لاستقالة والدته لوان من عملها كمدرسة علوم، وتفرغت لإدارة حساب ابنها بعد أن رأت ما يحققه من ثروة خرافيّة، ويتابع ريان الآن في قناته أكثر من 17.4مليون متابع.

في آخر الأمر؛ نستطيع القول أن المستقبل الرقمي لم يعدْ يقتصر على أولئك اليافعين الحاصلين على أعلى الشهادات، أو أفضل التدريبات، ولكن على من يملك القدرة على التعبير والسيطرة في ظلّ الثقافة الرقمية بشكلها ولغتها ومضمونها وما تحتويه من كلّ جديد وجذاب وبراق، استطاعت أن تجذب حولها كل ما يستقطب، فجمعتهم وقدمت لهم معطياتها، فتخللت كل الوجود دون استئذان، وبلا قول أو مقدمات، فسار في ركبها هؤلاء وأولئك، فتخطت الحدود، ومحت الخصوصيات، ومن بينهم الأطفال.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها