عصر ما بعد المعلومات..

رؤية الدكتور نيكولاس نيجروبونت

د. إسماعيل فشتالي



ما وراء الإحصاء السكاني

في عصر المعلومات، أصبح وسط الاتصال والإعلام أكبر وأصغر في نفس الوقت. فقد وصلت أشكال جديدة للإرسال مثل شبكة "سي إن إن" مثلاً لجمهور أكبر من المشاهدين، وجعلت مساحة الإرسال أكثر اتساعاً. أما المجلات المحلية ومبيعات الفيديو كاسيت وخدمات الكابلات، فهي أمثلة على أن القنوات التليفزيونية قد أصبحت ذات نطاق أضيق لخدمة مجموعات أصغر من السكان، ولذلك فإن الإرسال أصبح أكبر وأصغر في نفس الوقت.

أما في عصر ما بعد المعلومات يرى نيكولاس نيجروبونت أنه "عادة ما يكون جمهور المشاهدين واحد فقط. ويتم تقديم وعرض وتنفيذ خدمات المعلومات بناء على طلبك وحدك. والمعلومات المطلوبة تكون شخصية وخاصة جداً. والاعتقاد السائد هو أن جعل الخدمة شخصية هو امتداد لتضييق جمهور الخدمات، فأنت تنتقل من فئة كبيرة إلى فئة أصغر وأصغر إلى أن تصل إلى الفردية. وحينما تصل إلى البيانات الخاصة بك من قبيل العنوان، والحالة الاجتماعية والسن والدخل، ونوع السيارة والمشتريات الخاصة، والعادات والضرائب الخاصة، فقد وصلت إلى شخص بذاته في تعداد سكاني حجمه فرد واحد".

إن الفردية الشخصية الحقيقة حسب نيكولاس متاحة لنا اليوم. وهذا المفهوم ليس بسيطاً. ففي عصر ما بعد المعلومات سيكون تفهم الآلات (الحواسيب) لاحتياجك وشخصيتك بنفس درجة المهارة والبراعة التي نتوقعها من إنسان آخر، بما فيها الخصوصيات (مثل ارتداء قميص مقلم بالأزرق دائماً)، والأحداث العشوائية تماماً سواء الجيد منها أو السيء، أي ستكون ترجمة لكل تفاصيل حياتنا. وهنا يرى نيكولاس بأن الآلة ستصبح في علاقة تواصل مع ذواتنا يقول "يمكنها أن تذكرك أن تترك سيارتك في موقف خاص (كراج) قريب من المكان الذي تذهب إليه؛ لأن السيارة أخبرتها بأنها بحاجة إلى عجلات جديدة. ويمكنها أن تقطع وتعرض لك مقال خبير مطاعم عن مطعم جديد في بلدة بعيدة؛ لأنك سوف تذهب إلى هذه البلدة التي افتتح بها المطعم في خلال عشرة أيام، كما تعرف الآلة أنك في العادة توافق على آراء هذا الخبير صاحب المقال. وكل تلك العمليات تتم بناء على نموذج فردي خاص بك، وليس كجزء من مجموعة تنتمي إليها يمكن أن تشتري نفس الصابون أو معجون الأسنان". هذا الأمر إذن مرتبط بما سيأتي من اختراعات ستغير وجه واقعنا المعاش.
 

المكان بدون الفراغ

يرى نيكولاس أنه مثلما قام النص النشيط بإزال حدود الصفحات المطبوعة، بحيث أصحبت النصوص تشير إلى نصوص أخرى، وأصبح يمكن عرض صور وأفلام فيديو ورسائل صوتية، فإن عصر ما بعد المعلومات سوف يزيل الحدود الجغرافية. فسوف تكون الحياة الرقمية أقل اعتماداً على مكان معين في زمان معين، وسوف يصبح نقل المكان نفسه ممكناً. يقول نيكولاس "إذا تخيلت أنني أنظر من النافذة إلى خارج غرفة المعيشة الإلكترونية في بوسطن، حيث أقيم، وأمكنني أن أرى جبال الألب، وأسمع الأجراس المعلقة في رقاب البقر في الجبال، وأستنشق (رقمياً) رائحة السماد البلدي الناتج من فضلات الأبقار في الصيف، فأنا بهذه الطريقة كأنني في سويسرا ذاتها. ولو أنني بدلاً من ذهابي إلى العمل بقيادة الذرات (السيارة) إلى وسط المدينة، أمكنني الدخول إلى المكتب وتنفيذ العمل إلكترونياً، فأين مكان عملي إذن؟".

وفي المستقبل سوف نجد أن نظم الاتصالات وتكنولوجيا "الحقيقة التخيلية" في متناول الطبيب المعالج في مدينة هيوستن. بحيث يمكنه القيام بعملية دقيقة لمريض في ولاية آلاسكا. وفي المستقبل الأقرب يرى نيكولاس: "سوف يتعين على جراح المخ التواجد في داخل غرفة العمليات مع مخ المريض. ولكنَّ كثيراً من الخبراء في نظم المعلومات لن تحتاج أعمالهم إلى زمن أو مكان محدد، سوف يتم فصلهم عن الموقع الجغرافي سريعاً. إن عصر ما بعد المعلومات سيفتح آفاقاً مدهشة في مجالات شتى، وأمام ذلك، فإنه لا بد ستثار قضية الأخلاق بخصوص بعض الاختراعات.


اللاتزامن

يذكر نيكولاس أنه تقابل مع أناس يتعجبون كيف كانت حياتهم تسير قبل ظهور آلات الرد على مكالمات التليفون في منازلهم، أو رسائل البريدي الصوتي في مكاتبهم، يقول: "إن الميزة في النظامين ليست الصوت، بل إمكانية التعامل في غير الوقت الكافي بإزاحة للزمن. فالميزة الحقيقية هي ترك الرسالة بدلاً من تعطيل الشخص الآخر في مكالمة متزامنة على خط التليفون بدون داع. والواقع أن آلات الرد على المكالمات التليفونية مصممة بحيث يتم منها استرجاع الكلمات المسجلة من قبل. والمفروض أن يتم تشغيل هذه الآلة طوال الوقت، وليس عندما لا تكوت داخل المنزل أو لا تريد أن تقوم بالرد، فالمفروض أن تقوم الآلة دائماً بالرد على الشخص الطالب وإعطائه الفرصة لترك رسالة صوتية". هذه الميزة إذن ساهمت في تحسين التواصل وفتحت الباب للقيام باتصالات عديدة رغم عدم وجود الطرف الثاني على الخط.

إلا أن الخاصية الثانية مهمة بصفة خاصة؛ لأنَّ "العميل التفاعلي سوف يستخدم تلك (البِتات) لترتيب الأولويات وعرض الرسائل عليك بطرق مختلفة. فمثلاً، من أرسل الرسالة وموضوعها قد يكونان أساس ترتيب عرضها عليك، وهذا يشبه ما تقوم سكرتيرتك حينما تسمح لمكالمة ابنتك ذات السنوات الست بالوصول إليك فوراً، بينما ينتظر رئيس مجلس إدارة مؤسسة ما على الخط. وحتى في أيام العمل المزدحمة فإن الرسائل الشخصية للبريد الإلكتروني تظهر على سطح كومة الرسائل". انطلاقاً من ذلك نبه نيكولاس إلى أنَّ الكثير من اتصالاتنا يجب أن تكون لا تزامنية، أي يجب ألا تكون في الزمن الحقيقي. فكثير الأشياء التي لا تستحق الرد تقاطعنا باستمرار، وتتطلب منا التواجد اللحظي الدقيق، لذلك فنحن مجبرون على تنظيم حياتنا في نظام وتزامن.


الرغبة حسب الطلب

يرى نيكولاس أنه سيكون مصطلح "المعلومات حسب الطلب"، هو المسمى السائد في الحياة الرقمية. نطلب من الحاسوب صراحة أو ضمناً ما نريده، ومتى نريده. وسوف يتطلب ذلك إعادة تفكير وتغيير جذري في نظام البرامج المدعمة بالإعلانات. يقول نيكولاس: "ووسائل الإعلام الرقمية في المستقبل ستعمل على مبدأ أن يتم الدفع مقابل المشاهدة، ولن يكون الاختيار الموجود إما دفع المقابل بالكامل لكل البرامج أو عدم الاشتراك (وبالتالي عدم أي مقابل)، ولكن سيكون مثل الاشتراك في الجرائد اليومية والمجلات حيث يتم تقسيم التكلفة بين قارئ الجريدة والمعلنين. وفي بعض الأحيان، سوف يكون لدى المستهلك حرية استقبال مواد إعلامية بدون إعلانات ولكن بتكلفة أعلى. وفي أحيان أخرى سوف تكون الإعلانات شخصية بحيث يصعب تمييزها عن الأخبار، فهي في حد ذاتها أخبار". هذه الإمكانية من الأكيد رغم تكلفتها ستتيح إمكانية الاختيار بدل الجَبرِ على مشاهدة الكثير من الأمور.

ونخلُصُ مِمَّا سبق إلى أن ما ذكره نيكولاس هو من الأمور الغريبة والمدهشة، لكنَّ الدَّهشة الحقيقية أنَّ اختراعات هذا القرن تكون قد فاقت توقعات نيكولاس. يصدق الأمر علينا نحن اليوم، فقد نقرأ هُنا وهناك عن توقعات تكنولوجية وكثير منا قد لا يصدقها، لكن سنصاب بالدهشة عندما نراها حقيقة.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها