وجه الإنسان فـي الفن المعاصر

د. عبد العظيم محمود حنفي

كثيرة‭ ‬هي‭ ‬المعارض‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تحوي‭ ‬مئات‭ ‬اللوحـات‭ ‬لصور‭ ‬الأشخاص،‭ ‬التي‭ ‬يمثل‭ ‬معظمها‭ ‬تعبير‭ ‬الفنان‭ ‬المعاصر‭ ‬عن‭ ‬وجه‭ ‬الإنسان،‭ ‬وبعض‭ ‬تلك‭ ‬المعارض‭ ‬تعرض‭ ‬لوحـات‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬الجميل،‭ ‬تحمل‭ ‬توقيعـات‭ ‬‮«‬رينوار‮»‬‭ ‬و«بونار‮»‬‭ ‬و«ماري‭ ‬لورانسان‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يقفز‭ ‬بنا‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬‮«‬موديلياني‮»‬‭ ‬ذات‭ ‬التعبير‭ ‬الأخاذ‭ ‬العجيب‭ ‬إلى‭ ‬متاهات‭ ‬الفزع‭ ‬والتشوية‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬لوحات‭ ‬‮«‬ديبيفيه‮»‬‭ ‬و«ليروي‮»‬‭ ‬و«بيكون‮»‬‭ ‬و«جرينبرج‮»‬،‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬الأجداد‭ ‬العزيز‭ ‬وجو‭ ‬السيدات‭ ‬الجميلات‭ ‬إلى‭ ‬جو‭ ‬العيادات‭ ‬النفسية‭ ‬ومخاوف‭ ‬‮«‬فرجينيا‭ ‬وولف‮»‬‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬النقاد‭ ‬يردون‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬وجه‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬اختراع‭ ‬الفوتوغرافيا‭ ‬وتقدمها‭ ‬السريع‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬فصام‭ ‬بين‭ ‬التصوير‭ ‬والوجه‭ ‬الإنساني‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬يردها‭ ‬أساساً‭ ‬إلى‭ ‬روح‭ ‬العصر‭ ‬نفسه،‭ ‬وإلى‭ ‬أزمة‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر‭. ‬فمهما‭ ‬بلغت‭ ‬براعات‭ ‬الكاميرا‭ ‬وتقدمها،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تبلغ‭ ‬التعبير‭ ‬الساحر‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الوجوه‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة،‭ ‬ولا‭ ‬الأغوار‭ ‬الدفينة‭ ‬في‭ ‬أقنعة‭ ‬الفيوم،‭ ‬ولا‭ ‬نبض‭ ‬النفس‭ ‬العميق‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬‮«‬رمبرانت‮»‬‭. ‬

الكاميرا‭ ‬تمنح‭ ‬اللمحة‭ ‬البارعة‭ ‬العابرة،‭ ‬ولكن‭ ‬الفن‭ ‬البشري‭ ‬يعطي‭ ‬سر‭ ‬الأبد‭ ‬النابض‭ ‬في‭ ‬سريرة‭ ‬الإنسان‭.‬
 

العبث‭ ‬بالوجوه

لم‭ ‬يعد‭ ‬فنان‭ ‬العصر‭ ‬يتعمق‭ ‬الوجه‭ ‬الإنساني‭ ‬لذاته‭ ‬مقدماً‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تعبيره‭ ‬الخاص‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬‮«‬جويا‮»‬‭ ‬و«رمبرانت‮»‬‭ ‬و«فرانز‭ ‬هالز‮»‬‭ ‬و«فلاسيكيز‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يقنعه‭ ‬التزام‭ ‬‮«‬موديلياني‮»‬‭ ‬بوجوه‭ ‬نماذجه،‭ ‬مع‭ ‬جرأة‭ ‬التشكيل‭ ‬والتحوير‭. ‬التي‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬مطالب‭ ‬الجمال‭ ‬التقليدي،‭ ‬بل‭ ‬أخذ‭ ‬يستدير‭ ‬للوجه‭ ‬ويتخذه‭ ‬ذريعة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬أو‭ ‬إحساس‭ ‬أو‭ ‬أزمة‭.‬
ومن‭ ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬المطلب‭ ‬يمزق‭ ‬الفنان‭ ‬وجوه‭ ‬نماذجه‭ ‬ويشيع‭ ‬فيها‭ ‬تشويهاته،‭ ‬فتتحطم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬النموذج‭ ‬واللوحة‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬النموذج‭ ‬الإنساني‭ ‬جليس‭ ‬الفنان‭ ‬وصفيه‭ ‬يحاول‭ ‬تقديمه‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬التشكيلي،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬وسيلة‭ ‬لشيء‭ ‬يسقط‭ ‬عليه‭ ‬عداءه،‭ ‬وكراهيته‭ ‬واحتجاجه،‭ ‬حتى‭ ‬ليكاد‭ ‬النموذج‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خصمه،‭ ‬ليكون‭ ‬بذلك‭ ‬قد‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬اللوحة‭ ‬بعد‭ ‬عراك‭ ‬نفسي‭ ‬عنيف،‭ ‬وأحال‭ ‬الفن‭ ‬إلى‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬القبح‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬نموذج‭ ‬للجمال‭. ‬وهكذا‭ ‬اختفى‭ ‬تبتل‭ ‬‮«‬فرا‭ ‬انجيليكو‮»‬‭ ‬في‭ ‬الوجوه‭ ‬المقدسة،‭ ‬وهيام‭ ‬‮«‬ليوناردو‭ ‬بالموناليزا‮»‬‭.‬
وأخذ‭ ‬‮«‬بيكاسو‮»‬‭ ‬يعبث‭ ‬بحبيباته‭ ‬‮«‬دورا‭ ‬مارا‮»‬،‭ ‬و«فرانسواز‭ ‬جيلو‮»‬،‭ ‬و«جاكلين‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬مهتماً‭ ‬بإبراز‭ ‬جمالهن‭ ‬في‭ ‬لوحاته،‭ ‬وإنما‭ ‬هن‭ ‬عنده‭ ‬رموز‭ ‬تشكيلية‭: ‬‮«‬دورا‭ ‬مارا‮»‬‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تبكي،‭ ‬تنعى‭ ‬مصرع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬عراك‭ ‬الحرب‭ ‬الإسبانية،‭ ‬وتنبىء‭ ‬بنذر‭ ‬المحنة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الثانية‭.‬
وجان‭ ‬‮«‬ديبيفيه‮»‬‭ ‬يصور‭ ‬القبح‭ ‬والبشاعة‭ ‬وتبدو‭ ‬نماذجه‭ ‬وكأنها‭ ‬صرعى‭ ‬أحداث‭ ‬مزقت‭ ‬إنسانيتها‭ ‬وجعلتها‭ ‬وجوهاً‭ ‬مشوهة‭ ‬من‭ ‬أنقاض‭ ‬هيروشيما‭.‬
يقول‭ ‬المعلقون‭ ‬الفنيون‭ ‬بشأن‭ ‬تلك‭ ‬الوجوه‭: ‬إن‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬أخرج‭ ‬‮«‬مصوري‭ ‬الأشخاص‮»‬‭ ‬من‭ ‬نطاق‭ ‬الفنانين‭ ‬الكبار‭ ‬وحصرهم‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬الصالونات‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬باعد‭ ‬بين‭ ‬كبار‭ ‬الشخصيات‭ ‬وبين‭ ‬الفنانين،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬الإمكان‭ ‬أن‭ ‬يعهد‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الملكة‭ ‬إليزابيث‮»‬‭ ‬لمصور‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ديبيفيه‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬بيكون‮»‬‭ ‬لتصويرهما‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬‮«‬فلاسكييز‮»‬‭ ‬مصوراً‭ ‬‮«‬لفيليب‭ ‬الرابع‮»‬‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬صـور‭ ‬‮«‬فرانز‭ ‬هالز‮»‬‭ ‬‮«‬أوصياء‭ ‬هارلم‮»‬‭.‬
لقد‭ ‬شغل‭ ‬الفنانون‭ ‬بالحلول‭ ‬التشكيلية‭ ‬عن‭ ‬الصورة‭ ‬الشخصية‭ ‬وبالإغراب‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬ربط‭ ‬التعبير‭ ‬الفني‭ ‬من‭ ‬قديم‭ ‬بجلال‭ ‬وجه‭ ‬الإنسان‭.‬

تشـرشل‭ ‬فـي‭ ‬قناع‭ ‬للموت

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬نماذج‭ ‬‮«‬ديبيفيه‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬بيكون‮»‬‭. ‬يصعب‭ ‬قبولها‭ ‬أو‭ ‬اعتبارها‭ ‬صوراً‭ ‬لوجوه‭ ‬الأشخاص‭ ‬بالمقاييس‭ ‬التي‭ ‬يقبلها‭ ‬الذوق‭ ‬العام،‭ ‬فإن‭ ‬أساليب‭ ‬التعبير‭ ‬المتحررة‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬تلقى‭ ‬موقف‭ ‬الرفض‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬التزمت‭ ‬معالم‭ ‬الصورة‭ ‬الشخصية‭ ‬ولم‭ ‬تضحّ‭ ‬باحترامها،‭ ‬وربما‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬في‭ ‬الأذهان،‭ ‬تلك‭ ‬الضجة‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬لوحة‭ ‬المصور‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الكبير‭ ‬‮«‬جراهام‭ ‬سوذرلاند‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صورها‭ ‬لتشرشـل‭ ‬بتكليف‭ ‬من‭ ‬البرلمان‭ ‬البريطاني‭ ‬في‭ ‬ميلاده‭ ‬الثمانين‭. ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬‮«‬سوذرلاند‮»‬‭ ‬عن‭ ‬استقصاء‭ ‬الملامح‭ ‬الشخصية‭ ‬والتزاماتها،‭ ‬ولكنه‭ ‬أطلق‭ ‬لنفسه‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬اللوني‭ ‬بمزاج‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬الصفراء‭ ‬والرمادية،‭ ‬وبعض‭ ‬التحرر‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬النفسي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وجه‭ ‬تشرشل‭. ‬وما‭ ‬كاد‭ ‬الستار‭ ‬يزاح‭ ‬عن‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬وستمنستر‭ ‬على‭ ‬أنغام‭ ‬لحن‭ ‬البطل‭ ‬بتهوفن‭ ‬الذي‭ ‬استقبل‭ ‬به‭ ‬تشرشل،‭ ‬حتى‭ ‬انهال‭ ‬الاحتجاج‭ ‬على‭ ‬اللوحة،‭ ‬وقال‭ ‬عنها‭ ‬أحد‭ ‬النواب‭ ‬المحافظين‭ ‬وقتها‭ ‬‮«‬إنها‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭ ‬كدراسة‭ ‬لمرض‭ ‬اللمباجو‮»‬‭ ‬بينما‭ ‬أعلن‭ ‬تشرشل‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬أسرته‭ ‬–آنذاك‭- ‬أن‭ ‬‮«‬سوذرلاند‮»‬‭ ‬سبق‭ ‬الحوادث،‭ ‬إذ‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬وجهه‭ ‬قناعاً‭ ‬للموت‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬الرحيل‭. ‬هل‭ ‬يعود‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬اللقاء‭ ‬الحميم‭ ‬بين‭ ‬الفنان‭ ‬والإنسان،‭ ‬وتسفر‭ ‬أزمة‭ ‬العصر‭ ‬عن‭ ‬تعبير‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الصورة‭ ‬الإنسانية؟


 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 245 (صفحة 124)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها