كثيرة هي المعارض الفنية التي تحوي مئات اللوحـات لصور الأشخاص، التي يمثل معظمها تعبير الفنان المعاصر عن وجه الإنسان، وبعض تلك المعارض تعرض لوحـات من العهد الجميل، تحمل توقيعـات «رينوار» و«بونار» و«ماري لورانسان» إلا أنه لا يلبث أن يقفز بنا من وجوه «موديلياني» ذات التعبير الأخاذ العجيب إلى متاهات الفزع والتشوية الإنساني في لوحات «ديبيفيه» و«ليروي» و«بيكون» و«جرينبرج»، من عصر الأجداد العزيز وجو السيدات الجميلات إلى جو العيادات النفسية ومخاوف «فرجينيا وولف». وإذا كان النقاد يردون هذا التحول في تصوير وجه الإنسان إلى اختراع الفوتوغرافيا وتقدمها السريع الذي أدى إلى فصام بين التصوير والوجه الإنساني إلا أن البعض الآخر يردها أساساً إلى روح العصر نفسه، وإلى أزمة الفن المعاصر. فمهما بلغت براعات الكاميرا وتقدمها، فإنها لا تستطيع أن تبلغ التعبير الساحر عن الحياة في الوجوه المصرية القديمة، ولا الأغوار الدفينة في أقنعة الفيوم، ولا نبض النفس العميق في وجوه «رمبرانت».
الكاميرا تمنح اللمحة البارعة العابرة، ولكن الفن البشري يعطي سر الأبد النابض في سريرة الإنسان.
العبث بالوجوه
لم يعد فنان العصر يتعمق الوجه الإنساني لذاته مقدماً من خلاله تعبيره الخاص كما كان يفعل «جويا» و«رمبرانت» و«فرانز هالز» و«فلاسيكيز»، كما لم يعد يقنعه التزام «موديلياني» بوجوه نماذجه، مع جرأة التشكيل والتحوير. التي تخرج عن مطالب الجمال التقليدي، بل أخذ يستدير للوجه ويتخذه ذريعة للتعبير عن شيء أو إحساس أو أزمة.
ومن أجل هذا المطلب يمزق الفنان وجوه نماذجه ويشيع فيها تشويهاته، فتتحطم العلاقة بين النموذج واللوحة. لم يعد النموذج الإنساني جليس الفنان وصفيه يحاول تقديمه لنا في إطار من الجمال التشكيلي، وإنما هو وسيلة لشيء يسقط عليه عداءه، وكراهيته واحتجاجه، حتى ليكاد النموذج أن يكون خصمه، ليكون بذلك قد انتقل من الحياة إلى اللوحة بعد عراك نفسي عنيف، وأحال الفن إلى تعبير عن القبح لا إلى نموذج للجمال. وهكذا اختفى تبتل «فرا انجيليكو» في الوجوه المقدسة، وهيام «ليوناردو بالموناليزا».
وأخذ «بيكاسو» يعبث بحبيباته «دورا مارا»، و«فرانسواز جيلو»، و«جاكلين»، حيث لا يبدو مهتماً بإبراز جمالهن في لوحاته، وإنما هن عنده رموز تشكيلية: «دورا مارا» في وجه المرأة التي تبكي، تنعى مصرع الإنسان في عراك الحرب الإسبانية، وتنبىء بنذر المحنة الكبرى في الحرب الثانية.
وجان «ديبيفيه» يصور القبح والبشاعة وتبدو نماذجه وكأنها صرعى أحداث مزقت إنسانيتها وجعلتها وجوهاً مشوهة من أنقاض هيروشيما.
يقول المعلقون الفنيون بشأن تلك الوجوه: إن العصر الحديث أخرج «مصوري الأشخاص» من نطاق الفنانين الكبار وحصرهم في نطاق الصالونات. كما أنه باعد بين كبار الشخصيات وبين الفنانين، فلم يعد في الإمكان أن يعهد الرئيس الأمريكي أو «الملكة إليزابيث» لمصور مثل «ديبيفيه» أو «بيكون» لتصويرهما كما كان «فلاسكييز» مصوراً «لفيليب الرابع» أو كما صـور «فرانز هالز» «أوصياء هارلم».
لقد شغل الفنانون بالحلول التشكيلية عن الصورة الشخصية وبالإغراب في الفن عن موضوع ربط التعبير الفني من قديم بجلال وجه الإنسان.
تشـرشل فـي قناع للموت
وإذا كانت نماذج «ديبيفيه» أو «بيكون». يصعب قبولها أو اعتبارها صوراً لوجوه الأشخاص بالمقاييس التي يقبلها الذوق العام، فإن أساليب التعبير المتحررة كثيراً ما تلقى موقف الرفض حتى لو التزمت معالم الصورة الشخصية ولم تضحّ باحترامها، وربما ما زال في الأذهان، تلك الضجة التي أحدثتها لوحة المصور الإنجليزي الكبير «جراهام سوذرلاند» التي صورها لتشرشـل بتكليف من البرلمان البريطاني في ميلاده الثمانين. لم يخرج «سوذرلاند» عن استقصاء الملامح الشخصية والتزاماتها، ولكنه أطلق لنفسه حرية التعبير اللوني بمزاج من الألوان الصفراء والرمادية، وبعض التحرر في التعبير النفسي من خلال وجه تشرشل. وما كاد الستار يزاح عن اللوحة في قاعة وستمنستر على أنغام لحن البطل بتهوفن الذي استقبل به تشرشل، حتى انهال الاحتجاج على اللوحة، وقال عنها أحد النواب المحافظين وقتها «إنها لا بأس بها كدراسة لمرض اللمباجو» بينما أعلن تشرشل في محيط أسرته –آنذاك- أن «سوذرلاند» سبق الحوادث، إذ جعل من وجهه قناعاً للموت مع أنه لم يفكر بعد في الرحيل. هل يعود بعد ذلك اللقاء الحميم بين الفنان والإنسان، وتسفر أزمة العصر عن تعبير جديد من خلال الصورة الإنسانية؟
نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 245 (صفحة 124)