اليوم الذي نفقت فيه الديناصورات

عالِمُ حفريات شاب اكتشف سِجِلاًّ لِأَهَمِّ حَدَثٍ في تاريخ الحياة

ترجمة: ياسين إدوحموش

دوغلاس بريستون Douglas Preston


لَو جَلَستَ فِي إحْدى الأُمْسِيَّاتِ فِي مَكَانٍ مّا في أمْريكَا الشَّمَالية، قَبلَ حَواليْ ستةٍ وستينَ مليون سَنَةٍ، وصوبتَ ناظريكَ نحو السَّمَاءِ، لرأيت فوراً ما قد يبدو على أنَّهُ نَجمٌ، ولو استمريت في النَّظرِ لمدَّةِ سَاعَةٍ أو سَاعَتينِ، فقد يبدو لكَ أنَّ النَّجمَ يزداد سطوعاً، رغم أنَّهُ بالكاد يتحرك، وذلكَ لأنَّهُ لم يكُنْ نَجْماً بَلْ كَويكِباً يَتَّجِهُ مُبَاشَرَةً صَوْبَ الأرْضِ بسرعة حوالي 45.000 ميل في الساعة. وبعد ستين ساعةً، يضربُ الكويكبُ سطحَ الأرضِ. لقد كانَ الهواءُ الموجود في المقدمة مضغوطاً وساخناً للغاية، وأحدثَ ثقباً في الجو مما خلق مَوجَةً صدميةً تفوقُ سرعة الصوت. ضرب الكويكبُ بَحْراً ضحلاً حيثُ تقع شبه جزيرة يوكاتان اليوم، وفي تلك اللَّحظة انتهت فترة العصر الطباشيري وبدأتْ فترةُ العَصرِ الحجري القَديم.

قبل بضع سنوات استخدم العلماء في مختبر لوس ألاموس الوطني ما كان يعتبر آنذاك أحد أقوى أجهزة الكمبيوتر في العالم، ما يسمى بآلة Q Machine، لتصميم آثار الارتطام، فكانت النتيجة مقطع فيديو للحدث بألوانٍ مزيفةٍ وبطيء الحركة ثانية بثانية. في غضون دقيقتين من سقوطه على الأرض، قام الكويكب الذي كان عرضه يبلغ ستة أميال على الأقل، بخلق حفرة بعمق حوالي ثمانية عشر ميلاً وتسبب في تطاير خمسة وعشرين تريليون طن من الحطام في الغلاف الجوي. تخيل دفقة صخرة صغيرة الحجم تسقط في ماء بركة، ولكن على نطاق كوكبي. وعندما انتعشت قشرةُ الأرضِ، ارتفعت قمة أعلى من جَبلِ إيْفرستْ بسرعة، كما كان مقدار الطاقة المنبعثة يفوق مليار قنبلة هيروشيما، غير أن الانفجار لم يكن يشبه الانفجار النووي، بسحابته المميزة فطرية الشكل. فبدلاً من ذلك، شَكَّلَ الانفجارُ الأولي "ذيل الديك"، وتدفقاً هائلاً من المواد المنصهرة التي خرجت من الغلاف الجوي، وتصاعد بعضها فوق أمريكا الشَّمالية، كما كانت جلُّ المواد أكثر سخونة بكثير من سطح الشَّمس، وأضرمت النار في كل شيء يقع على بعد ألف ميل. بالإضافة إلى ذلك، انتشر مخروط مقلوب من الصخور الساخنة والمذابة، على شكل عددٍ لا يحصى من بقع من الزجاج شديدة السخونة، تسمى التكتيت، وغطت نصف الكرة الغربي.

خرجت بعض المقذوفات عن جاذبية الأرض ودخلت في مدارات غير منتظمة حول الشَّمسِ، وعلى مدى ملايين السِّنين، وجدت أجزاء منها طريقاً إلى كواكب وأقمار أخرى في النَّظام الشَّمسي. أصبح كوكب المريخ في نهاية المطاف مليئاً بالحطام، مع العثور في الأرض على قطع من المريخ، التي جرى رميها بعيداً بفعل الارتطامات بالكويكبات القديمة. قدرت دراسة أجريت عام 2013 في مجلة Astrobiology أن عشرات الآلاف من الأطنان من الأنقاض هبطت على سطج تيتان، وهو قمر من أقمار زحل، وعلى يوروبا وكاليستو اللذين يدوران حول كوكب المشتري، وهي ثلاثةُ أقمارٍ يَعتقدُ العلماءُ أنها قد تكون موائل واعدة للحياة. وتشير النَّماذجُ الرياضية إلى أنَّ بعض هذه الحطام المتشرد على الأقل ما زال يحوي ميكروبات حية. قد يكون الكويكب قد زرع الحياة في جميع أنحاء النظام الشمسي، حتى عندما دمر الحياة على الأرض.

تبخر الكويكب عند الاصطدام وشكلت مادته، التي اختلطت بصخور الأرض المبخرة، سحابةً ناريةً وصلتْ إلى منتصف الطريق نحو القمر قبل أن تسقط على شكل عمود من الغبار المتوهج. وتشير نماذج الكمبيوتر أنَّ الغلاف الجوي على بعد 15 ألف ميل من نقطة الصفر أصبح ساخناً للغاية من عاصفة الحطام، مما تسبب في حرائق غابات عملاقة، ومع دوران الكرة الأرضية، التقت المواد المحمولة جَوّاً في الجانب الآخر من الكوكب، حيثُ سقطت وأضرمت النَّار في شبه القارة الهندية بأكملها، كما تشير قياسات طبقة الرَّماد والسَّخام التَّي غطت الأرضَ في النَّهايةِ إلاَّ أن الحَرائقَ استهلكت حوالي سبعين في المائة من غابات العالم. وفي الوقت نفسه، ضربت موجات تسونامي عملاقة ناتجة عن التأثير المتدفق خليج المكسيك، مما أدى إلى تمزيق السواحل، وفي بعض الأحيان تقشر مئات الأقدام من الصخور، دافعة الحطام نحو الداخل ثم امتصته مرة أخرى إلى المياه العميقة، تاركة رواسب مختلطة يجدها العاملون في البترول في بعض الأحيان في مناطق الحفر بأعماق البحار.

بيد أنَّ الضَّرر كان قد بدأ للتو فقط، ولا يزالُ العلماءُ يناقشونَ الكثيرَ من التفاصيلِ المستمدةِ من نماذج الكمبيوتر، ومن الدَّراسات الميدانية لطبقة الحطام والمعرفة المستمدة من معدلات الانقراض، والحفريات، والأحافير المجهرية، والعديد من الأدلة الأخرى. غيرَ أنَّ النظرةَ الشَّاملة قاتمة باستمرار، إِذْ إنَّ الغُبارَ والسخام الناجم عن الارتطام والحرائق منعَ كُلَّ أشعة الشَّمسِ منَ الوصولِ إلى سطح الكوكب لعدة أشهر، فتوقفت عملية التركيب الضوئي كُلياً، مما أدَّى إلى موت معظم الحياة النباتية، وإزالة العوالق النباتية من المحيطات، الأمرُ الَّذي تسبب في انخفاض كمية الأكسجين في الجو. وبعد نيران الحرائق دخلت الأرضُ في فترة من البرد، وربما حتى تَجَمُّداً عميقاً، كما انهارت سلسلتان أساسيتان للغذاء للأرض، في البحر وفي البر، فانقرضت حوالي خمسة وسبعين في المائة من جميع الأنواع، ومات أكثر من 99.9999 في المائة من جميع الكائنات الحية على الأرض، وتوقفت دورة الكربون.

لقد أصبحت الأرض نفسها سامة، فعندما ضرب الكويكب تبخرت طبقات من الحجر الجيري، وأطلقت في الغلاف الجوي تريليون طن من ثاني أكسيد الكربون، وعشرة مليارات طن من الميثان، ومليار طن من أول أكسيد الكربون؛ الثلاثةُ كُلُّها غازات دفيئة قوية، كما أدَّى الارتطام أيضاً لتبخر صخرة الأنهيدريت التي أطلقت عشرة تريليونات من مركبات الكبريت. هذا الأخير تفاعل مع الماء لتكوين حمض الكبريتيك، الذي انهمر بعد ذلك مطراً حمضياً قوياً، ربما كان كافياً لتجريد الأوراقِ من أي نباتات باقيةٍ وتصفية العناصر المغذية من التربة.

واليوم؛ فإن طبقة الحطام والرماد والسخام التي خلفها ارتطام الكويكب محفوظة في رواسب الأرض على شكل شريط أسود يبلغ سمكه حوالي سمك جهاز الكمبيوتر المحمول، وهذا ما يسمى بالحدود الطباشيري – الباليوجين؛ لأنه يمثل الخط الفاصل بين الفترة الطباشيرية والعصر الثالث. (تم إعادة تعريف العصر الثالث باسم Paleogene، ولكن مصطلح "الطباشيري- الباليوجين" لا يزال قائماً). تحوم ألغازٌ كثيرةٌ فوق وتحت طبقة الطباشيري - الباليوجين. ففي أواخِرِ العصر الطباشيري، تسببت براكين واسعة النطاق في بث كميات هائلة من الغاز والغبار في الهواء، وبات الهواء يحوي مستويات أعلى بكثير من ثاني أكسيد الكربون في الهواء الذي نتنفسه الآن، وكان المناخُ استوائياً، وربما كان الكوكب خالياً تماماً من الجليد. ومع ذلك، لا يعرف العلماء سوى القليل عن الحيوانات والنباتات التي كانت تعيش في ذلك الوقت، ونتيجة لذلك، فهم يبحثون عن رواسب أحفورية قريبة قدر الإمكان من الحدود الطباشيري - الباليوجين.

تتجلى واحدة من الأسرار الرئيسة في علم الحفريات فيما يُسمَّى "مشكلة الثلاثة أمتار". فخلال قرن ونصف من البحث الدؤوب، لم يتم العثور على أية بقايا ديناصور تقريباً في طبقة الثلاثة أمتار، أو حوالي تسعة أقدام، تحت الحدود الطباشيري - الباليوجين، وهو عمق يمثل عدة آلاف من السنين. ونتيجةً لذلك، جادل العديد من علماء الحفريات أن الديناصورات كانت في طريقها للانقراض قبل وقت طويل من ارتطام الكويكب، ربما بسبب الانفجارات البركانية وتغير المناخ، ورد علماء آخرون أن مشكلة الثلاثة أمتار تعكس فقط مدى صعوبة العثور على الحفريات، حيث قالوا إنه عاجلاً أم آجلاً، سوف يكتشف عالم ما الديناصورات أقرب بكثير إلى لحظة الدمار.

إن الإجابات لأسئلتنا حول أحد أهَمِّ الأحداث في تاريخ الحياة على هذا الكوكب عالقة بالحدود الطباشيري - الباليوجين. وإذا نظرَ المرءُ إلى الأرضِ كنوع من الكائنات الحية، كما يفعل العديد من علماء الأحياء، فيمكن القول إنَّهُ قد أُصيبَ برصاصةٍ ومات تقريباً. إنَّ فكَ شفرة ما حدث في يومِ التدمير أمرٌ حَاسِمٌ ليس فقط لحل مشكلة الثلاثة أمتار ولكن أيضاً لتفسير نشأتنا الخاصة كنوع.

في الخامس من أغسطس 2013، تلقيتُ بريداً إلكترونياً من طالب دراسات عليا يُدعَى روبرت ديبالما. لم أقابل ديبالما قط، لكننا كُنَّا نتحدث عن مسائل الحفريات لسنوات، منذ أن قرأ رواية كتبتها تتمحور حول اكتشاف الديناصور المتحجر التيرانوصوروس ريكس الذي قضى بسبب الارتطام. راسلني، من محطة شاحنات في بومان بولاية نورث داكوتا، قائلاً: "لقد قمت باكتشاف لا يصدق وغير مسبوق، وهو سري للغاية ولا يعرفه سوى ثلاثة في الوقت الحالي، وجميعهم زملاء مقربين". وتابع قائلاً: "إنه فريد من نوعه وأندر بكثير من أي اكتشاف ديناصور بسيط. أُفضِّلُ عَدم تحديد التفاصيل عبر البريد الإلكتروني، إن أمكن". أعطاني رقم هاتفه الخلوي ووقتاً للاتصال به.

اتصلت وأخبرني أنه اكتشف موقعاً مثل الموقع الذي تصورت في روايتي، والذي تضمن من بين أشياء أخرى، الضحايا المباشرين للكارثة. في البداية، كنت متردداً؛ إذ كان ديبالما نكرة على الساحة العلمية، وطالب دكتوراه من جامعة كانساس، وقال إنه وجد الموقع من دون دعم مؤسسي أو تعاون. اعتقدتُ أنَّه كان من المحتمل أنه يبالغُ، أو أنه ربما كان مجنوناً. (يمتلك علم الحفريات نصيبه من الناس غير العاديين). غير أنني كنت مفتوناً بدرجة كافية لأركب طائرة متجهة إلى نورث داكوتا لأرى بنفسي.

كان اكتشاف ديبالما يقع في التكوين الجيولوجي لهيل كريك، الذي ينتشر في أجزاء من داكوتا الشمالية، وداكوتا الجنوبية، ومونتانا، وويومينج، ويحتوي على بعض رواسب الديناصورات الأكثر شهرة في العالم. في وقت الارتطام، كان منظر هيل كريك عبارة عن أراضي منخفضة وشبه استوائية وسهول فيضية على طول شواطئ البحر الداخلي، وكانت الأرض غاصة بالحياة والظروف كانت ممتازة للتحجر، مع الفيضانات الموسمية والأنهار المتعرجة التي دفنت بسرعة الحيوانات والنباتات الميتة.

اكتشف صيادو الديناصورات هذه البقايا الأحفورية الغنية في أواخر القرن التاسع عشر، وفي عام 1902، عثر بارنوم براون، وهو صياد ديناصور لامع كان يعمل في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك، على أول تيرانوصوروس ريكس هنا، مما تسبب في ضجة عالمية. قدر أحد علماء الحفريات أنه في فترة العصر الطباشيري، كان هيل كريك مليئاً بتيرانوصوروس ريكس لدرجة أنها كانت مثل الضباع في منتزه سيرينجيتي، كما كان أيضاً موطناً لترايسيراتوبس وطيور البط.

 



قَدَّر المُشرفُ على أطروحة ديبالما أنَّ الموقع سيبقي المتخصصين مشغولين لمدة نصف قرن، وقال: "لقد حصل روبرت على أشياء كثيرة لم يسمع بها، وسوف تجد طريقها إلى الكتب المدرسية".
 

امتد تكوين هيل كريك لحقبتي العصر الطباشيري وفترة العصر الحجري القديم، وكان علماء الأحافير قد عرفوا منذ نصف قرن على الأقل أن الانقراض قد حدث بعد ذلك؛ لأن الديناصورات تم العثور عليها تحت طبقة الطباشيري - الباليوجين، وليس فوقها، وهذا صحيح ليس فقط في هيل كريك ولكن في جميع أنحاء العالم. لقد اعتقد العلماء لسنوات عديدة أن انقراض الديناصورات لم يكن لغزاً كبيراً، فعلى مدى ملايين السنين، تسببت البراكين وتغير المناخ وأحداث أخرى في موت العديد من أشكال الحياة تدريجياً، ولكن في أواخر تسعينات القرن الماضي، اكتشف عالم جيولوجيا شاب يدعى والتر ألفاريز ووالده لويس الفاريز، عالم الفيزياء النووية، أنَّ طبقة الطباشيري - الباليوجين كانت مغطاة بكميات عالية بشكل غير عادي من الإيريديوم المعدني النادر، الذي افترضا أنه من البقايا الترابية من ارتطام الكويكب.

 وفي مقال نشر في مجلة Science، نُشر عام 1980، اقترحَا أن هذا الارتطام كان كبيراً لدرجة أنه تسبب في الانقراض الجماعي، وأن طبقة الطباشيري - الباليوجين كانت الحطام الناتج عن هذا الحدث. رفض معظم علماء الحفريات الفكرة القائلة بأنَّ لقاءً عشوائياً ومفاجئاً مع مخلفات فضائية قد أحدث تغييراً جذرياً في تطور الحياة على الأرض. ولكن مع مرور السنين ثبتت الأدلة، إلى أن تم الإعلان في ورقة عام 1991، عن الدليل الدامغ: اكتشاف فوهة صدمية مدفونة تحت آلاف الأقدام من الرواسب في شبه جزيرة يوكاتان، في العصر الصحيح تماماً، ومن الحجم والجيوكيمياء الصحيحة، تسببت في كارثة في جميع أنحاء العالم، وتم تسمية الحفرة والكويكب باسم تشيكشولوب، تَيمُّناً ببلدة صغيرة للمايا بالقرب من المركز.

كان أحد مؤلفي ورقة عام 1991، ديفيد كرينج، مرعوباً جدّاً لما تعلمه عن الطبيعة المدمرة للارتطام لدرجة أنه أصبح صوتاً رائداً في الدعوة إلى نظام لتحديد الكويكبات المهددة وتحييدها، حيث قال لي: "ليس هناك شك في هذا البيان: سوف يضرب الأرض كويكب بحجم تشيكشولوب مرة أخرى، ما لم نغير مساره، إذ حتى صخرة طولها 300 متر سوف تقضي على الزراعة العالمية".

وفي عام 2010، أعلن واحد وأربعون باحثاً في العديد من التخصصات العلمية، في مقال بارز بمجلة Science، أنه ينبغي اعتبار أن القضية قد سُويت: تسبب ارتطام كويكب ضخم في حدوث الانقراض، لكن معارضي الفكرة لا يزالون متحمسين، حيث تتجلى الفرضية الرئيسة المتنافسة في أن الانفجارات البركانية الضخمة "ديكان"، فيما سيصبح الهند، قذفت ما يكفي من الكبريت وثاني أكسيد الكربون في الجو لتتسبب في تحول مناخي. لقد كانت الانفجارات، التي بدأت قبل الارتطام واستمرت بعد ذلك، من بين الأكبر في تاريخ الكرة الأرضية، حيث استمرت مئات الآلاف من السنين، ودفنت نصف مليون ميل مربع من سطح الأرض على عمق ميل في الحمم البركانية. جادل المؤيدون أن الفجوة البالغ طولها ثلاثة أمتار تحت طبقة الطباشيري - الباليوجين كانت دليلاً على أن الانقراض الجماعي كان على قدم وساق بحلول وقت اصطدام الكويكب.

في عام 2004، بدأ ديبالما، الذي كان في ذلك الوقت طالباً في علم الحفريات عمره 22 عاماً، في حفر موقع صغير في تكوين هيل كريك، وكان الموقع عبارة عن بركة، وكانت الرواسب مكونة من طبقات رقيقة جداً من الرواسب. فالعادة، قد تمثل طبقة جيولوجية واحدة آلاف أو ملايين السنين، غير أن ديبالما كان قادراً على إظهار أن كل طبقة في الرواسب قد وُضعت في عاصفة ممطرة كبيرة واحدة، قال لي: "يمكننا أن نرى متى كانت هناك براعم على الأشجار، ورؤية متى كانت أشجار السرو تسقط إبرها في الخريف، وكان بإمكاننا تجربة ذلك في الوقت الفعلي". لقد كان النَّظرُ في الطبقات أشبه بالتقليب في صفحات كتاب للتاريخ القديم يسجل عقوداً من البيئة في صفحاته الطينية". حث مستشار ديبالما، الراحل لاري مارتين، على إيجاد موقع مشابه، فيه طبقات أقرب إلى حدود الطباشيري - الباليوجين.

واليوم، لا يزال ديبالما، الذي يبلغ من العمر الآن 37 عاماً، يعمل من أجل الحصول على شهادة الدكتوراه، ويشغل المنصب غير المدفوع لأمين متحف علم الحفريات الفقارية في متحف بالم بيتش للتاريخ الطبيعي، وهو متحفٌ ناشئ يكافح بدون مكان عرض. في عام 2012، وبينما كان يبحث عن بركة رواسب جديدة، سمع أن جامعاً خاصاً قد عثر على موقع غير عادي في مزرعة ماشية بالقرب من بومان بولاية نورث داكوتا. (معظم أراضي هيل كريك مملوكة ملكية خاصة، ويقوم مربو الماشية ببيع حقوق الحفر لمن يدفع مالاً محترماً، من علماء الحفريات وجامعي الحفريات التجاريين على حد سواء). شعر الجامع بأن الموقع، الذي كان عبارة عن طبقة عميقة من ثلاثة أقدام مكشوفة على السطح، مضيعة للوقت، حيث كان مكتظاً بالحفريات السمكية؛ لكنها كانت حساسة للغاية لدرجة أنها انهارت إلى رقائق صغيرة بمجرد أن تلتقي بالهواء. وكانت الأسماك مغطاة بطبقات من الرمل والطين المتصدع والرمال التي لم تتصلب؛ وكانت ناعمة جدّاً بحيث يمكن حفرها بمجرفة أو تفكيكها يدوياً. في تموز (يوليو) عام 2012، عرض الجامع على ديبالما الموقع وأخبره أنه مرحب به فيه.

"لقد شعرت بخيبة أمل كبيرة على الفور"، أخبرني ديبالما، إذ كان يأمل في الحصول على موقع مثل الموقع الذي كان قد حفره في وقت سابق: بركة قديمة ذات طبقات رفيعة تحوي حفريات تمتد على العديد من الفصول والسنوات. بدلاً من ذلك، ترسب كل شيء في فيضان واحد. بينما كانت الفرصُ تَنهالُ على ديبالما أثناء بحثه. لقد قام الفيضان بدفن كُلِّ شيء على الفور، لذلك تم حفظ العينات بشكل رائع، كما وجد العديد من الأسماك الكاملة، والتي هي نادرة في تكوين هيل كريك، وظن أنه يمكن إزالتها سليمة إذا عمل بعناية فائقة. وافق على أن يدفع لمربي الماشية مبلغاً معيناً لكل موسم عمل فيه هناك. (تفاصيل الترتيب، كما هي الممارسة المعتادة في علم الحفريات، تظل سراً يخضعُ لحراسةٍ مشددة، والموقع الآن قيد الإيجار الحصري طويل الأجل).

في يوليوز التالي، عاد ديبالما للقيام بالتنقيب الأولي للموقع، وأخبرني قائلاً: "على الفور تقريباً، رأيت أنه كان غير عادي". بدأ يجرف طبقات التربة فوق المكان الذي وجد فيه السمك. عادة ما يكون هذا "العبء" عبارة عن مادة تم إيداعها بعد فترة طويلة من عيش العينة؛ ثمة القليل مما يهم عالم حفريات، وعادة ما يتم تجاهله، ولكن بمجرد أن بدأ ديبالما في التنقيب، لاحظ بقعاً رمادية - بيضاء اللون في الطبقات التي بدت وكأنها حبيبات من الرمال، والتي ثبت، تحت عدسة اليد، إنها كريات صغيرة وقطرات ممدودة. "يا إلهي، أعتقد أن هذه تبدو ميكروتكتيت!" الميكروتكتيت عبارة عن النقط الزجاجية التي تتشكل عندما تنفجر الصخور المنصهرة في الهواء بسبب ارتطام كويكب وتسقط مرة أخرى على الأرض على شكل رذاذ قوي. لقد بدى أن الموقع يحتوي على الملايين من الميكوروتكتيت.

عندما قام ديبالما بحفر الطبقات العليا بعناية، بدأ الكشفُ عن مجموعة غير عادية من الحفريات، حساسة للغاية ولكن محفوظة بشكل رائع، ويتذكر قائلاً: "هناك مواد نباتية رائعة، كلها متشابكة ومترابطة، كما وُجد حطام من الخشب، والسمك مضغوط على حزم جذور شجرة السرو، وجذوع الأشجار الملطخة بالعنبر". في نهاية المطاف، تُسحق معظم الأحافير تحت ضغط الحجر الذي يغمره، ولكن هنا كان كل شيء ثلاثي الأبعاد، بما في ذلك الأسماك، بعد أن تم تغطيتها بالرواسب مرة واحدة، التي كانت بمثابة داعم. استمر قائلاً: "ترى الجلد والزعانف الظهرية تلتصق حرفياً بالرواسب، وهي أنواع جديدة على العلم". وبينما أخذ يحفر، فإن أهمية ما عثر عليه باتت تتضح له شيئاً فشيئاً، فإذا كان الموقع هو ما كان يأمل فيه، فقد حقق أهَمَّ اكتشاف حفري في القرن الجديد.

 



خلال قرن ونصف من البحث الدَّؤوب، لم يتم العثور على أية بقايا ديناصور تقريباً في طبقة الثلاثة أمتار، أو حوالي تسعة أقدام، تحت الحدود الطباشيري - الباليوجين، وهو عمق يمثل عدة آلاف من السنين.

 

نَشأَ ديبالما في بوكا راتون بولايةِ فلوريدا، وكانَ طِفلاً مفتوناً بالعظام والقصص التي احتوتها. يمارس والده، روبرت الأب، جراحة اللبية في ديلراي بيتش القريبة، وكان عمه الأكبر أنتوني، الذي توفي عام 2005، جراح عظام مشهوراً وقام بكتابة العديد من الكتب المدرسية القياسية حول هذا الموضوع. (ابن أنتوني، ابن عم روبرت، هو المخرج السينمائي برايان ديبالما).

أخبرني ديبالما قَائلاً: "بين سِنِّ الثَّالثةِ والرَّابِعةِ، كونت رابطة بصرية بين رشاقة العظام الفردية وكيفية اتفاق بعضها البعض كنظام. لقدْ صَدمني ذَلك حقاً، فانجذبتُ إلى كُلِّ شيء فيه عظام على مائدة العشاء". لقد دُفنت حيواناته الأليفة في مكان ما ووضعوا علامات الدَّفن في مكانٍ آخرَ، حتى لا يحفر الجثث؛ لكنه وجدهم على أي حال، كما قام بتجميد السحليات الميتة في قوالب مكعبات الثلج، التي كانت والدته تكتشفها عندما تستقبل صديقاتها لاحتساء الشاي، وقال: "لم أمارس قط الرياضة، لقد حاولوا إجباري على القيام بذلك للانسجام مع الأطفال الآخرين، لكنني كنتُ أحفر في ملعب البيسبول أبحث عن العظام".

أحاطه عمه أنطونيو ديبالما، الذي عاش في بومبانو بيتش، برعايته، إذ قال ديبالما: "كنت متعوداً على زيارته في عطلات نهاية الأسبوع؛ لأريه آخر اكتشافاتي"، عندما كان في الرابعة من عمره، أعطاه شخص في متحف في تكساس شظية من عظم ديناصور، أخذها إلى عمه الأكبر، وأضاف قائلاً: "لقد علمني أنَّ كُلَّ تلك المقابض الصغيرة والبقع الوعرة والنتوءات على العظم لها أسماء، وأنَّ العظم كان له أيضاً اسم. فأصبحت مفتوناً". وفي سن السادسة أو السابعة، في الطريق إلى وسط فلوريدا مع أسرته، بدأ في العثور على عظام متحجرة من الثدييات التي تعود إلى العصر الجليدي، ووجد أول ديناصور له عندما كان في سن التاسعة من عمره في كولورادو.

في مرحلة الثانوية، وخلال فصل الصيف وعطلات نهاية الأسبوع، قام ديبالما بجمع الأحافير وصنع نماذج من الديناصورات ورفع الهياكل العظمية لصالح متحف غريفز للآثار والتاريخ الطبيعي في شاطئ دانيا، كما أقرض المتحف مجموعته الأحفورية التي جمعها في طفولته للعرض، ولكن في عام 2004 أفلس المتحف وتم نقل العديد من العينات إلى كلية مجتمع. لم يكن لديبالما أي أوراق لإثبات ملكيته، فرفضت المحكمة إرجاع أحافيره، التي بلغ عددها المئات؛ إذ تم حبسها في الغالب في مستودعات التخزين، غير متاحة للملأ وللتمتع بها.

كان مُنزعجاً لما أسماه "سوء الإدارة المهدر" الذي لحق مجموعته، تبنى ديبالما بعض ممارسات التجميع غير العادية. عادة، يتنازل علماء الحفريات عن رعاية وصيانة عيناتهم للمؤسسات التي تمتلكها، غير أن ديبالما يصر على شروط تعاقدية تخول له الإشراف على إدارة عيناته، كما أنه لا يحفر أبداً على أرض عمومية بسبب ما يعتبره روتيناً حكومياً مفرطاً، ولكن دون دعم فدرالي لعمله، يجب عليه تحمل جميع التكاليف تقريباً. تبلغ مصاريفه غير المباشرة لموقع هيل كريك عشرات الآلاف من الدولارات، ويساعد في تحمل النفقات عن طريق تركيب الحفريات، وإجراء عمليات إعادة البناء، وسبك وبيع النسخ المتماثلة للمتاحف، وهواة جمع التحف، وغيرهم من العملاء. وفي بعض الأحيان، يمد والداه يد العون، إذ قال: "لو انحصر الأمر على الحصول على المزيد من غراء PaleoBond"، وهو غراء سائلٌ باهظ الثمن يستخدم في تجميع الحفريات بعضها ببعض "أو تغيير فلتر تكييف الهواء، فإني أحصل على غراء PaleoBond". إنَّه أعزب، ويتشارك شقة مكونة من ثلاث غرف نوم مع قوالب من ديناصورات مختلفة، بما في ذلك واحدة من النانوتيرانوص، وأضاف قائلاً: "من الصَّعب الاستمتاع بالحياة خارج عملي".

إن تحكم ديبالما بمجموعته البحثية مثير للجدل، فالحفريات نشاط تجاري كبير، وجامعو الأثرياء يدفعون مئات الآلاف من الدولارات، وحتى الملايين، لقاء عينة نادرة. (في عام 1997، تم بيع T. rex الملقب بـ Sue في مزاد لشركة Sotheby، لمتحف فيلد للتاريخ الطبيعي في شيكاغو، بأكثر من 8.3 مليون دولار)، كما أن السوق الأمريكية مليئة بالحفريات التي تم تهريبها بشكل غير قانوني من الصين ومنغوليا. ولكن في الولايات المتحدة يكون جمع الممتلكات الخاصة أمراً قانونياً، وكذلك شراء الحفريات وبيعها وتصديرها. ينظرُ العديدُ من العلماء إلى هذه التجارة باعتبارها تهديداً لعلم الحفريات ويقولون إن الحفريات مهمة وتنتمي إلى المتاحف، فحسب ما أخبرني به أحد القيمين البارزين "لا يُسمح لي بالحصول على مجموعة خاصة من أي شيء أدرسه". يصر ديبالما على أنه يحافظ على "أفضل ما في العالمين" بالنسبة إلى حفرياته، حيث قام بإيداع أجزاء من مجموعته في العديد من المؤسسات غير الربحية، بما في ذلك جامعة كنساس، ومتحف بالم بيتش للتاريخ الطبيعي، وجامعة فلوريدا أتلانتيك؛ توجد بعض العينات مؤقتاً في العديد من المعامل التحليلية التي تجري اختبارات عليها – وكلها تحت إشرافه.

في عام 2013، صنع ديبالما الحدث لفترة وجيزة بورقة نشرها في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences وقبل أربع سنوات، في هيل كريك، وجد هو ومساعد ميداني، اسمه روبرت فيني، نمواً غريباً لعظم أحفوري تحول إلى فقرتين منصهرتين من ذيل الهدروصور، وهو ديناصور ذو منقار بط من العصر الطباشيري. وظن ديبالما أن العظم قد نمى حول جسم غريب ومغطى به، فأخذه إلى مستشفى لورانس ميموريال في كنساس، حيث قام فني تصوير بالأشعة المقطعية بفحصه مجاناً في منتصف الليل، عندما كانت الآلة في وضع الخمول. داخل العقيد كانت أسنان التيرانوصور مكسورة، إذ تعرض للعض من قبل تيرانوصور وهرب.

لقد ساعد الاكتشاف في دحض فرضية قديمة، طرحها عالم الحفريات الشهير جاك هورنر، مفادها أنَّ تي ريكس كان مجرد نابش فضلات، إذ جادل هورنر بأن تي ريكس كان بطيئاً للغاية ومتثاقلاً، وذراعاه نحيفتان جداً، وبصره ضعيف للغاية، بحيث لا يفترس مخلوقات أخرى. عندما علمت وسائل الإعلام الوطنية باكتشاف "ديبالما"، رفض هورنر ذلك باعتباره "تكهنات" و"نقطة إحصائية واحدة". واقترح سيناريو بديلاً: ربما عض التي ريكس عن طريق الخطأ ذيل ديناصور نائم معتقداً أنه كان ميتاً، ثم "تراجع" عندما أدرك خطأه. "لقد اعتقدت أن ذلك كان غير مناف للعقل"، أخبرني ديبالما. في ذلك الوقت، قال لصحيفة لوس أنجلوس تايمز، "إن نابش فضلات لا يصادف مصدراً للطعام ويدرك فجأة أنه على قيد الحياة". وفي نهاية المطاف أقر هورنر بأن تي ريكس ربما يكون قد اصطاد فريسة حية. ولكن، عندما سألت هورنر عن ديبالما مؤخراً، قال في البداية إنه لم يتذكره: "في المجتمع، لا نتعرف على الطلاب جيدًا".

ومن دون الحصول على درجة الدكتوراه، سيبقى ديبالما غير معروف في معظم الأحيان، في انتظار ختم الموافقة الذي يؤذن ببداية حياة مهنية جادة. فمن بين العديد من علماء الحفريات الذين تحدثت معهم لم يسمع به أحد. وقال آخر، طلب عدم ذكر اسمه، إن "العثور على هذا النوع من الحفريات أمرٌ رائعٌ، لكنه ليس من شأنه أن يغير الحياة. يعتقد البعض في بعض الأحيان أنني غبيٌّ لأنني كثيراً ما أقول إنني لا أحصل على الإجابات - لم نكن هناك عندما تشكلت الأحفورة، هُناكَ أشخاصٌ آخرونَ يقولونَ إنَّهم يعرفون، وهو أحد هؤلاء الأشخاص، أعتقد أنه يفرط في التفسير".

بعد أن تلقيت البريد الإلكتروني من ديبالما، قمتُ باتخاذ الترتيبات اللاَّزمة لزيارة موقع هيل كريك، وبعد ثلاثة أسابيع كنتُ في بومان. وصل ديبالما إلى فندقي راكباً سيارة تويوتا 4Runner، وكان الراديو يبث أغنية"Raiders of the Lost Ark" . كان يرتدي قميصاً قطنياً خشناً، وسروال كارغو، وقبعة رعاة البقر مخملية مع حافة مطوية على اليسار، ووجهه مدبوغ منذ أيام طويلة تحت أشعة الشمس وذو لحية عمرها خمسة أيام.

ركبتُ وسافرنا لمدة ساعة أو نحو ذلك، وعبرنا بوابة مزرعة لنسير عبر متاهة من الطرق المليئة بالعظام التي تلاشت في النهاية في حوض معشوشب. لقد كان تشكل الأراضي الوعرة المنتشرة في هيل كريك منظراً طبيعياً، فهي عبارة عن منطقة زراعية نائية، كما تمتد المروج وحقول عباد الشمس إلى الأفق، وتهيمن عليها السماء الزرقاء العظيمة للغرب الأمريكي. تربط الطرق بين المدن الصغيرة -محطة الشاحنات والكنيسة والموتيلات والمنازل والمقطورات– وتمتد بينها مساحات شاسعة معزولة هُنا وهناك في الريف، تنتصب مزارع مهجورة على الأرض. على مدى ملايين السنين، تآكلت طبقة هيل كريك بشدة، ولم يتبق منها سوى بقايا من البراري مثل العديد من الأسنان الفاسدة، وهذه الشواهد والقمم الصخرية المجردة من الحياة ملونة باللون البيجي والشيكولاتي والأصفر والمارون والرمادي والأبيض، أما الحفريات التي كانت رخوة بفعل الرياح والمطر، فتنزلق على الجانبين.

عندما وصلنا، تجلى موقع ديبالما أمامنا: سلال مقفرة من الأرض الرمادية والمتشققة، بحجم ملعبين لكرة القدم. بدا الأمر وكأن قطعة من القمر قد سقطت هناك. تم قطع أحد الجانبين من الرواسب بفعل ممر رملي، أو مجرى مائي جاف؛ أما الجانب الآخر ففي نهايته جرف منخفض. كانت الحفرة عبارة عن فتحة مستطيلة الشكل بعمق ثلاثة أقدام وطولها ستون قدماً وبعرض 40 قدماً. أما على الجانب الأقصى من الحفرة، فتوجد فيه قطع خشبية، وكذا أدوات الحفر المختلفة وبعض الأنابيب المعدنية لأخذ عينات أساسية. وبينما كنا نتجول في الموقع، لاحظتُ على حزام ديبالما سكيناً طويلاً منْ بقايا الحرب العالميَّةِ الثَّانِيَّةِ الَّذي أهداه له عمه عندما كانَ في الثَّانيَّة عشر من عمره.

يتذكر اللحظة التي قام فيها بالاكتشاف. لقد كانت الحفرية الأولى التي أزالها، في وقت مبكر من فصل الصيف، عبارة عن سمكة مجداف من المياه العذبة بطول خمسة أقدام، وهي سمكة ما تزالُ تعيش اليوم. لديها أنف عظمي طويل، تستعمله في المياه العكرة بحثًا عن الطعام. عندما أخرج ديبالما الحفرية، وجد سناً يعود للموصاصور، وهو من الزواحف البحرية العملاقة آكلة اللحوم، وتساءل كيف يمكن أن ينتهي المطاف بأسماك المياه العذبة والزواحف البحرية في نفس المكان، على ضفة نهر على بعد عدة أميال على الأقل من أقرب بحر. (في ذلك الوقت، تم العثور على رقعة ضحلة من المياه، تسمى الطريق الغربي الداخلي، تمتد من خليج المكسيك الرئيسي عبر جزء من أمريكا الشمالية). وفي اليوم التالي، وجد ذيلاً بعرض قدمين من سمكة بحرية أخرى. بدا الأمر كما لو أنه تم تمزيقه بعنف من جسم السمكة، قال ديبالما: "إذا ماتت السمكة لأي مدة من الزمن، فسوف تتحلل ذيولها وتنهار". بيد أن هذا الذيل كان سليماً تماماً، لذلك عرفت أنه جرى نقله وقت الموت". ومثل سن الموصاصور، فقد انتهى به المطاف بطريقة أو بأخرى على بعد أميال من البحر موطنه الأصلي، قال ديبالما: "عندما وجدته، قلت في نفسي، مستحيل، لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً"؛ إذ ألمحت الاكتشافات إلى نتيجة غير عادية لم يكن مستعداً تماماً لقبولها، وتابع قائلاً: "كنت على قناعة بنسبة تسعين في المائة في تلك اللحظة".

وفي اليوم التالي، لاحظ ديبالما اضطراباً صغيراً محفوظاً في الرواسب، إذ بقطر يبلغ حوالي ثلاث بوصات، يبدو أنه ثمة حفرة أحدثها جسم سقط من السماء وغرق في الوحل. لقد تم العثور على تكوينات مماثلة، ناجمة عن صخور البرد تضرب سطحاً موحلاً، من قبل في السجل الأحفوري. وبينما كشط ديبالما الطبقات لصنع مقطع عرضي من الحفرة، وجد الشيء نفسه -ليس حجر البرد بل كرة بيضاء صغيرة- في أسفل الحفرة، كانت تكتيت، قطرها حوالي ثلاثة ملليمترات، وهي الشظايا الناجمة عن ارتطام كويكب قديم. وبينما واصل أعمال الحفر، وجد حفرة أخرى بها تكيت في الأسفل، وأخرى، وهكذا دواليك. يتحول الزجاج إلى طين على مدى ملايين السنين، هذه التكتيت غدت الآن طينية، لكن بعضها كان لا يزال لديه نوى زجاجية. لربما كانت الميكروتكتيت التي عثر عليها سابقًا قد حملتها المياه هناك، لكن هذه ظلت عالقةً في مكان سقوطها -في اليوم الذي لابد أنه كان يوم وقوع الكارثة- حسبما ما يعتقد ديبالما.

قال ديبالما: "عندما رأيت ذلك، علمت أن هذا لم يكن مجرد رواسب فيضان، ولم نكن بالقرب من الحدود الطباشيري-الباليوجين -بل هذا الموقع بأكمله هو حدود الطباشيري- الباليوجين!"، من خلال مسح الطبقات ورسم خرائط لها، افترض ديبالما أن موجة المياه الداخلية الضخمة غمرت وادي النهر وملأت المنطقة المنخفضة حيث كنا واقفين، ربما نتيجة لكارثة تسونامي، التي اجتاحت الخليج الأولي وحتى الممر الغربي الداخلي. وعندما تباطأت سرعة الماء وأصبح راكداً، أودع كل ما كان عالقًا فيه، بدأ بأثقل المواد، إلى كل ما كان يطفو على السطح، وكلُّ ذلك سرعان ما تم دفنه وحفظه في الوحل: من الكائنات الميتة والمحتضرة، سواء البحرية أو التي تعيش في المياه العذبة؛ النباتات والبذور وجذوع الأشجار والأقماع وإبر الصنوبر والزهور وحبوب اللقاح، الأصداف والعظام والأسنان والبيض، خشب التكتيت والمعادن والألماس الصغير والغبار المشبع بالإيريديوم والرماد والفحم وخشب العنبر. عندما استقرت الرواسب، انهمرت قطرات من الزجاج في الوحل، بدأ بأكبر الأجزاء، ثم أدقها، إلى أن تغربلت الحبوب مثل الثلج.

قَالَ ديبالما: "أمامنا انقراض العصر الطباشيري الثلاثي بأكمله محفوظ في هذه الرواسب، وبفضله يُمكننا أن نرسم ما حدث في اليوم الذي انتهى فيه العصر الطباشيري". لم يتم العثور على أي موقع للحفريات مثله في أي وقت مضى، وإذا أثبتت صحة فرضية ديبالما، فإن القيمة العلمية للموقع ستكون هائلةً. عندما زار والتر ألفاريز الحفرة في الصيف الماضي انصدم، وكتب لي قائلاً: "إنَّهُ موقعٌ رائعٌ حقاً"، مُضيفاً: "إنه بالتأكيد أحد أفضل المواقع التي تم العثور عليها الكفيلة بإخبارنا بما حدث في يوم الارتطام".

عندما انتهى ديبالما من إطلاعي على الحفر، قدمني إلى مساعد ميداني، يدعى رودي باسكوشي، وهو مدير متحف بالم بيتش. كان باسوتشي، وهو رجل قوي العضلات في الخمسينيات من عمره، مصاباً بحروق شمسية وذو لحية غير محلوقة، ويرتدي قميصاً بلا أكمام، وينتعل حذاء من جلد الأفاعي وقبعة Tilley مغبرة. جمع الرجلان أدواتهما ونزلا على أرضية الحفرة وبدآ في البحث في جدران الرواسب البالغ ارتفاعها ثلاثة أقدام.

من أجل للحفر القاسي، يحب ديبالما استخدام حربته وفأساً من نوع Marsh المحمول باليد، والذي اشتهر بها عالم الأحافير من جامعة ييل في القرن التاسع عشر أوثنييل مارش، الذي كان رائداً في صيد الديناصورات في الغرب الأمريكي واكتشف ثمانين نوعاً جديداً. قام باختياره ديفيد بيرنهام، المشرف على أطروحته في كانساس، عندما أكمل درجة الماجستير. أما من أجل الحفر الرقيق، فيستخدم ديبالما سكاكين وفرشاة X-Acto -وهي الأدوات التقليدية لعالم الحفريات- وكذلك أدوات طب الأسنان التي قدمها له والده.

تتكون الرواسب من عشرات الطبقات الرقيقة من الطين والرمل. في الأسفل، انقسمت إلى مجموعة أكثر اضطراباً من الرمال والحصى، والذي احتوى على أحافير الأسماك الأثقل والعظام التكتيت الكبيرة. وتحت تلك الطبقة، كان هناك سطحٌ صلبٌ من الحجر الرملي، وهو حجر الأساس الطباشيري الأصلي للموقع، والذي تم تمشيط جزء كبير منه بسلاسة جراء الفيضان.

إن علم الحفريات عمل شاقٌ، والتقدم فيه يقاس عادة بالمليمترات. وبينما كنت أشاهد، استلقى ديبالما وباسكوتشي على بطنيهما تحت أشعة الشمس الحارقة، وعيناهما على بعد بوصة من جدار التراب. دس ديبالما سكين X-Acto في الصفائح الرقيقة من الرواسب وأزال رقاقة بحجم فلس في كل مرة؛ ثم يقوم بفحصها عن كثب، وإذا لم ير شيئاً، يرميها بعيداً. عندما تتراكم الرقائق، يجمعها في أكوام صغيرة باستعمال فرشاة. وعندما تتراكمت تلك الأكوام، يجرفها باسوتشي إلى أكوام أكبر بمكنسة ثم يلقي بها في كومة في الطرف البعيد من الحفرة.

في بعض الأحيان، يصادف ديبالما حفريات نباتية صغيرة، بتلات زهور وأوراق الشجر والبذور وإبر الصنوبر وأجزاء من اللحاء. العديد من هذه كانت مجرد انطباعات في الوحل، تتقشر وتتكسر بمجرد تعرضها للهواء. يقوم برشها بسرعة بغراء PaleoBond، الذي يتغلل في الحفريات ويلحمها مع بعض، أو باستخدام تقنية أخرى، يقوم بخلط مجموعة من الجص ويسكبها على العينة قبل أن تتفكك. وهذا من شأنه أن يحفظ، في الجص، صورة عكسية من الحفرية. إذ كان عمر الأصل قصيراً للغاية ليتم حفظه.

عندما يصبح البعوض سيئاً، يُخرج ديبالما أنبوباً برياً ويُعبأه بتبغ Royal Cherry Cavendish، ويقوم بوضع ولاعة عليه وينفخ بقوة، مغطياً نفسه دخان حلو الرائحة، ثم يعود إلى العمل، قال: "أنا مثل محبي التسوق في متجر للأحذية، أريد كل شيء!".

أظهر لي انطباع جسم دائري بعرض بوصتين تقريباً، وقال: "هذه إما زهرة أو شوكيات الجلد"، في إشارة إلى مجموعة من أشكال الحياة البحرية التي تشمل قنافذ البحر ونجم البحر. "سأحدد ماهيتها في المختبر". قام بسرعة بتثبيتها في غراء PaleoBond والجص، وبعد ذلك وجد ورقة مثالية، وبالقرب منها بذرة من كوز الصنوبر. "إنها نشارة من العصر الطباشيري"، قال على نحو جازم، حيث كان بحوزته بالفعل العديد من الأمثلة المماثلة، إذ وجد ثلاث حفر صغيرة أخرى بها تكتيت، والتي قسمها والتقط لها صوراً. بعدها، أظهرت شفرة X-Acto عظماً صغيراً جدًا بني اللون، وهي عبارةٌ عن فك يبلغ طوله أقل من ربع بوصة. حمله بين أصابعه وتمعن فيه باستعمال عدسة.

وقال: "إنه حيوان ثديي، وقد كان ميتاً بالفعل عندما تم دفنه". بعد أسابيع في المختبر، حدد بأن الفك على الأرجح ينتمي إلى حيوان ثديي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقرود.

 



بضربةٍ واحدةٍ، رُبَّمَا سد ديبالما الفجوة في السِّجل الأحفوري.

 

بَعدَ نِصْفِ سَاعةٍ، اكتشفَ ديبالما ريشةً كبيرةً، وقالَ: "كُلُّ يَومٍ هُنَا هو بمثابة عيد الميلاد"، وبحركات دقيقة قام بكشف الريشة، لقد كانت انطباعاً هشاً في طبقة الطين، ربما يصل طولها إلى 13 بوصة، وأردف قائلاً: "هذه هي ريشتي التاسعة، والريش الأحفوري الأول الذي تم العثور عليه في هيل كريك. أنا مقتنع بأن هذه ريش ديناصور. لا أعرف بالتأكيد، ولكن هذه ريش بدائي، ومعظمه يبلغ طوله قدماً. لا وجود لطيور بهذا الحجم في هيل كريك لديها هذا الريش البدائي. من الغرابة أن نقترح بأنه ديناصور معروف، على الأرجح ذوات الأقدام، وربما طير جارح." استمر في الحفر. "ربما سنجد الطير الجارح الذي سقط منه هذا الريش، لكنني أشكُّ في ذلك؛ إذ يمكن أن يطير هذا الريش من مكان بعيد".

استخرج سكين X-Acto الخاص به حافة زعنفة متحجرة، فظهرت سمكة مجداف أخرى، وثبت لاحقاً أن طولها يبلغ حوالي ستة أقدام، بحث ديبالما في الرواسب المحيطة به، لقياس موقعها وأفضل طريقة لاستخراجها. وبما أن جزءاً كبيراً منها كان مكشوفاً، فبوسعنا أن نرى بوضوح أن خطم السمك البالغ طوله قدمين قد كسر عندما تم ضغطه -ربما بسبب موجة الفيضان- على أغصان شجرة أراوكاريا المغمورة، كما أشار إلى أن كلَّ سمكة وجدها في الموقع قد ماتت وفمها مفتوح، مما قد يشير إلى أن الأسماك كانت تلهث أثناء اختناقها في المياه المليئة بالرواسب.

"معظمها مات في وضع عمودي في الرواسب، ولم ينقلب جانباً، ولم يتم نبشها؛ لأن كُلَّ ما كان بإمكانه حفرها بعد ذلك ربما كان قد اختفى". قام بإزالة ما كان عالقاً حول سمكة المجداف، وكشف عظم زعنفة، ثم رقعة بحجم عملة نصف دولار من الجلد المتحجر مع حراشف مرئية تماماً، وقام بمعالجتها من خلال إشباعها بمزيج خاص من مادة صلبة. وبسبب الهشاشة الشديدة للأحافير، قام بإعادتها إلى معمله، في فلوريدا، مغلفة بالكامل بالرواسب، أو بـ"الماتريكس". وفي المختبر، يقوم بتحرير كل حفرية تحت عدسة مكبرة، في ظروف يتم التحكم فيها بدقة، بعيداً عن الآثار الضَّارة للشمس والرياح والجفاف.

وبينما اشتغل ديبالما حول سمكة المجداف، ظهرت أكثر من فرع شجرة أوروكاريا للنور، بما في ذلك إبرها القصيرة الشائكة، وقال: "كانت هذه الشجرة حية عندما دُفنت". ثم لاحظ بقعة ذهبية من العنبر عالقةً على الفرع. والعنبر هو صمغ لحائي محفوظ وغالباً ما يحتوي على آثار لكل ما كان في الهواء في ذلك الوقت، محتجزة كيمياء الغلاف الجوي وحتى الحشرات والزواحف الصغيرة في بعض الأحيان، تابع قائلاً: "هذا هو صائد الذباب في العصر الطباشيري، ولا يسعني الانتظار حتى نعيده إلى المعمل".

بعد مرور ساعةٍ، كانَ قد نقش جميع ما حول السمكة، تاركاً إياها مغطاةً بالماتريكس، تدعمها قاعدة من الصخور طولها أربعة بوصات، وقال: "أنا متأكد من أنَّ هذا نوعٌ جديدٌ في العلوم"، مضيفاً أنَّه نظراً لأن الأنسجة الرخوة كانت متحجرة أيضاً، فحتى محتويات المعدة لدى الحيوان ربما ما تزالُ موجودة.

وَقَفَ مُنتصباً وَقَالَ: "حان وقت وضع الجص"؛ قام بخلع قميصه وبدأ في خلط دلو فيه خمس غالونات من الجص، بينما مزق باسكوتشي شرائط من الخيش. أخذ ديبالما قطعةً خشبية ونزع قطعاً بطول قدمين اثنين ووضعها مثل الجبائر على جانبي الأحفوري المغطى بالرواسب، واحداً تلو الآخر، غمس شرائط الخيش في الجص ولفها في الجزء العلوي وجانب العينة، وأضاف مقابض الحبل والجص فيها. وبعد ساعة، عندما تم علاج الجص، حفر في القاعدة الصخرية أسفل الحفرية وقلب العينة، تاركاً الجانب السفلي مكشوفاً. عند عودته إلى المعمل، بحث في السطح للاطلاع على الحفرية، حيثُ يعمل الغطاء الجصي بمثابة سرير أدناه، وباستخدام مقابض الحبل، يقوم ديبالما وباسكوتشي بسحب العينة، التي تزن ربما مائتي باوند، إلى الشاحنة وتحميلها في الخلف، وفي وقت لاحق يخزنها ديبالما خلف مزرعة أحد أصدقائه، حيث تم وضع جميع حفرياته المغطاة من الموسم في صفوف مغطاة بالأقشمة.

استأنف ديبالما الحفر. أثارت عواصف الرياح غيوماً من الغبار وسقوط المطر. عندما هدأ الطقس وامتدت شمس الظهيرة عبر المرج، كان ديبالما تائهاً في يوم آخر، وفي عصر آخر، وقال: "توجد قطعة من الخشب عليها آثار خنفساء اللحاء". لا تُظهر أحافير النبات التي تعود للعديد من ملايين السنين الأولى من الارتطام أي علامات على حدوث هذا الضرر؛ إذ اختفت معظم الحشرات، وتكهن ديبالما أنه من المحتمل أن الكويكب قد ارتطم في فصل الخريف، حيث توصل إلى هذا الاستنتاج من خلال مقارنة أسماك المجداف وأسماك الحفش التي وجدها بمعدلات نمو الأنواع المعروفة ومواسم الفقس؛ كما وجد أيضاً بذور الصنوبريات والتين وبعض الأزهار، وقال: "عندما نحلل حبوب اللقاح والجسيمات المشطورة، فإن ذلك سيضيق نطاف البحث".

 



عينةٌ أسَاسيَّةٌ من موقع ديبالما، قد يحمل الموقع نسخة جيولوجية دقيقة لارتطام الكويكب، الذي كاد أن يقضي على الحياة على الكوكب.

 



قال عالم الحفريات، جان سميت: "إن هذا يحل مسألة ما إذا كانت الديناصورات قد انقرضت عند هذا المستوى بالضبط أم أنها انخفضت من قبل، كمل أنها المرة الأولى التي نرى فيها ضحايا مباشرة".

 

في الأسبوع الذي تلا ذلك، ظهرت ثروات طازجة: المزيد من الريش والأوراق والبذور والعنبر، إلى جانب العديد من الأسماك الأخرى، بطول يتراوح بين ثلاثة إلى خمسة أقدام، وعشر حفر أخرى بها أحجار التكتيت. لقد زرت العديد من مواقع الحفريات، لكنني لم أر قط هذا الكمَّ من العينات التي تم العثور عليها بهذه السرعة. إن معظم الحفريات مملة، إذ يمكن أن تمر أيام أو حتى أسابيع دون العثور على أي شيء، لكن بدى وأن ديبالما كان يتوصل لاكتشاف جدير بالملاحظة تقريباً كل نصف ساعة.

عندما زار ديبالما الموقع لأول مرة، لاحظ عظم ورك على السطح، يعود للديناصورات من عائلة سيراتوبسيان، والتي يعد الترايسيراتوبس العضو الأكثر شهرة فيها، حاول جامع تجاري إزالته قبل سنوات؛ كما تعرض للإهمال في مكانه وكان يتداعى جراء سنوات من التعرض. في البداية رفضه ديبالما معتبراً إياه "نفايات"، وانتقد عدم مسؤولية الجامع، وفي وقت لاحق، تساءل كيف وصل العظم الذي كان ثقيلاً إلى هناك، على مقربة من أعلى نقطة وصلها الفيضان، وقال إنه لابد وأنه كان يطفو، وليفعل ذلك لابد وأنه غُطي في أنسجة مجففة، مما يشير إلى أنَّ هناك نوعاً واحداً على الأقل من الديناصورات كان على قيد الحياة وقت الارتطام، كما وجد فيما بعد قطعة من الجلد الأحفوري بحجم حقيبة سفر تعود للسيراتوبسيان متصلة بعظم الورك.

في وقت من الأوقات انطلق ديبالما لتصوير طبقات الرواسب التي تم قطعها وكشفها بالممر الرملي، وقام بكشط قسم عمودي بسلاسة ومزجه بالماء عن طريق زجاجة رذاذ لإخراج اللون. كانت الطبقة السفلية مشوشة؛ إذ مزقت أول موجة من الماء طبقات من الوحل والحصى والصخور وقذفتها بقطع من الخشب المحروق (المحترق).

بعدها وجد ديبالما مخططاً باهت اللَّونِ على شكل إبريق في جدار المرتفع الرملي، فقام بفحصه عن كثب. ابْتُدِئ كنفق في الجزء العلوي من طبقة الطباشيري الباليوجين، ثم هبط، ثم اتسع في تجويف مستدير، مملوء بتربة ذات لون مختلف، توقفت عند الحجر الرملي الصلب لطبقة الأساس السفلية الراكدة، بدا الأمرُ كما لو أن حيواناً صغيراً قد حفر في الطين لإنشاء مخبأ. "هل هذا جُحر؟"، تساءلت.

كشط ديبالما المنطقة على نحو سلس باستعمال حربته، ثم رشها، وقال: "أنت محقٌّ في ذلك. وهذا ليس جُحر ديناصور صغير، إنه جُحر الثدييات. (الجحور لها أشكال مميزة، اعتماداً على الأنواع التي تسكنها). ألقى نظرة عليها، وعيناه على بعد بوصات من الصخر، وقام باستكشافها بطرف الحربة، ثم قال: "يا إلهي، أعتقد أنه لا يزال هناك!".

خطط لإزالة الجحر بالكامل في كتلة، وفحصه عن طريق ماسح الصور المقطعية في المنزل، لمعرفة ما يحتوي عليه، وقال: "إنَّ العثورَ على جُحر ثدي من العصر الطباشيري أمرٌ نادر الحصول للغاية، ولكن هذا مستحيل، فقد تم حفره عبر الحدود الطباشيري-الباليوجين". وأضاف: إنَّ الثدييات ربما قد نجت من الارتطام والفيضان، ودخلت في الوحل هرباً من الظلام المتجمد، ثم نفقت، وقال: "ربما ولد في العصر الطباشيري وتوفي في العصر الحجري القديم". "وللتفكير- بعد ستة وستين مليون عام، هاهو قرد نتن يقوم بالبحث عنه، ويحاول اكتشاف ما حدث". وأضاف: "إذا كان هذا نوعاً جديداً، فسنسميه تيمنا بك".

عندما غادرت هيل كريك، ألح علي ديبالما ضرورة التحلي بالسرية: إذ كان علي ألا أخبر أحداً، ولا حتى الأصدقاء المقربين عما وجده، فتاريخ الحفريات مليءٌ بقصص الرشوة، والطعن، والازدواجية في التعامل. في القرن التاسع عشر، شارك أوثنيل مارش وإدوارد درينكر كوب، وهما عالمان بارزان في علم الحفريات، في مسابقة مريرة لجمع حفريات الديناصورات في الغرب الأمريكي، حيث قاما بمداهمة محاجر بعضهما البعض، ورشوة طواقم بعضهما البعض، وتشويه سمعة بعضهما البعض في المطبوعات وفي الاجتماعات العلمية. وفي عام 1890، بدأت صحيفة New York Herald سلسلة من المقالات المثيرة حول الجدل بعنوان: "العلماء يشنون حرباً مريرةً"، ومنذ ذلك الحين أصبحت المنافسة معروفة باسم حروب العظام. إنَّ أيامَ التحايل والمكائد في علم الحفريات لم تنقض، وديبالما يشعر بقلق عميق من مصادرة متحف كبير للموقع.

لقد علم ديبالما أنَّ الفشل في هذا الموقع من المحتمل أن ينهي مسيرته المهنية، وأن وضعه في هذا المجال لم يكن مؤكداً لدرجة أنه بحاجة لتحصين هذا الاكتشاف ضد النقد المحتمل. لقد سبق له أن تعرض لحكم قاسي عندما نشر في عام 2015، بحثًا عن نوع جديد من الديناصورات يُسمَّى داكوتارابتور، وأدخل عن طريق الخطأ عظم سلحفاة أحفورياً في إعادة البناء، وعلى الرَّغم من أنَّ إعادة بناء هيكلٍ عظمي من آلاف شظايا العظام التي اختلطت بشظايا الأنواع الأخرى ليس بالأمر السَّهلِ، إلا أن ديبالما شعر بالإذلال من جراء الهجمات، قال لي: "لا أريد أبدًا خوض ذلك من جديد".

لمدة خمس سنوات واصل ديبالما الحفريات في الموقع، وشارك في صمت النتائج التي توصل إليها مع ستة من العلماء البارزين في مجال دراسات الطباشيري-الباليوجين، بما في ذلك والتر ألفاريز، وطلب مساعدتهم. خلال أشهر الشتاء، عندما لا يكون في الميدان، يقوم ديبالما بإعداد وتحليل عيناته، بعضها في وقت واحد، في مختبر زميل له بجامعة فلوريدا أتلانتيك في بوكا راتون. كان المختبر عبارة عن غرفة خالية من النوافذ في مبنى الجيولوجيا، محاطة بخزانات أحواض السمك والرفوف المليئة بالكتب والمجلات العلمية، وأجزاء من الشعاب المرجانية وأسنان الماستودون، وأصداف البحر ومجموعة من طلقات رشاشة من عيار 50، يرجع تاريخها إلى الحرب العالمية الثَّانية، والتي استخرجها صاحب المختبر من قاع المحيط الأطلسي. قام ديبالما بتشكيل مساحة لنفسه في زاوية، كبيرة جداً بما يكفي له للعمل على أحفورة مغلفة أو اثنتين في وقت واحد.

عِندَمَا زُرْتُ المُختبرَ لِأوَّلِ مَرَّةٍ في إبريل/ نيسان 2014، كانتْ هُناكَ كتلةٌ من الحجر طولها ثلاثة أقدام وعرضها ثمانية عشر بوصة على طاولة تحت أضواء ساطعة وعدسة مكبرة كبيرة، وقال ديبالما إن المجموعة تحتوي على سمك الحفش وسمك مجداف، إلى جانب العشرات من الحفريات الأصغر، وحفرة صغيرة مثالية بها تكتيت. تتألف الأجزاء السفلية من الكتلة من الحطام، وشظايا من العظم، والتكتيت الفضفاض الذي تمت إزاحته والعالق في الاضطرابات. تخبرنا الكتلة قصة الارتطام في صورة مصغرة، حيث قال ديبالما: "لقد كان يوماً سيئاً للغاية، انظر إلى هاتين السمكتين"، وأراني المكان الذي تم فيه ضغط إجبار سمك الحفش -الصفائح العظمية الحادة الموجودة على ظهرها- على دخول جسم سمكة المجداف، حيث غُرزت السمكة في جسم الأخرى. لقد كان فم السمكة المجففة مفتوحاً على مصراعيْهِ، وكانت منقبات الخياشيم الخاصة بها تخترقها ميكروتيتيت - تمتصه السمكة أثناء محاولتها التنفس. تابع ديبالما: "من المحتمل أن تكون هذه السمكة حية لبعض الوقت بعد أن تم صيدها في الموجة، وهي فترة كافية لتلهث جرعات من المياه في محاولة فاشلة للبقاء على قيد الحياة".

وشيئاً فشيئاً، بدأ ديبالما بتجميع صورة محتملة للكارثة، فبحلول الوقت الذي كان فيه الموقع مغموراً بالمياه، كانتْ الغابة المحيطة تحترق بالفعل، نظراً لوفرة الفحم والخشب المتفحم والعنبر الذي وجده في الموقع، حيث وصل الماء ليس كموجة متشابكة، ولكن كصعود قوي مضطرب، مليء بالأسماك والنباتات المشوهة والأنقاض الحيوانية، التي افترض ديبالما أن الماء ألقاها بعد أن تباطأ وتراجع.

في المختبر، أراني ديبالما مقاطع عرضية مكبرة من الرواسب، وكانت معظم طبقاتها أفقية، لكن بعضها شكل حلقات أو أنماط شبيهة باللهب تسمى بنيات اللهب المبتورة، والتي نتجت عن مزيج من الوزن الزائد من فوق والموجات الصغيرة في المياه المتسربة، كما وجد ديبالما خمس مجموعات من هذه الأنماط، والتفت إلى الكتلة على طاولته وأمسك عدسة مكبرة تجاه التكتيت. وبالتوازي مع ذلك، كانت خطوط التدفق مرئية على سطحها – وهي خطوط شليرين، شكَلها نوعان من الزجاج المنصهر يحومان معاً بينما تنطلق القطرات عبر الغلاف الجوي. من خلال النظر عبر العدسة، فحص ديبالما عن قرب الكتلة مستخدماً مسباراً طبياً، وسرعان ما اكتشف قطعة من صدفة لؤلؤية وردية اللون، التصقت بسمك الحفش، ثم قال: "إنها أمونيت"، والأمونيت رخويات بحرية تشبه إلى حد ما البحار في الوقت الحاضر، على الرغم من أنها كانت أكثر ارتباطاً بالحبار والأخطبوط. عندما استخرج ديبالما المزيد من الصدفة، رأيتُ لونها النابض بالحياة يتلاشى، وقال: "هذا أموني حي، مزقته أمواج تسونامي، فهم لا يسافرون جيدًا". إنه من جنس سفينوديسكوس على ما أعتقد". لقد كانت الصدفة التي لم يتم توثيقها من قبل في تكوين هيل كريك، ضحية بحرية أخرى تم قذفها للداخل.

نهض من مكانه، وقال "الآن سأريك شيئاً مميزاً"، وفتح صندوقاً خشبياً وأزالَ جسماً مغطى بورق الألمنيوم، ثم قام بإزالة الغلاف عن ريشة أحفورية بحجم 16 بوصة، وأمسكها في راحة يده مثل قطعة من زجاج لاليك، وقال: "عندما وجدت أولَ ريشة، انتابني الشك لمدة 20 ثانية". لقد درس ديبالما على يد لاري مارتن، وهو خبير عالمي في أسلاف الطيور الطباشيرية، وقد "تعامل مع الكثير من الريش الأحفوري. وعندما عثرت على هذا الشيء اللعين، فهمت على الفور أهميته. والآن ألق نظرة على هذا".

من طاولة المختبر، أمسك بذراع أحفوري يعود لداكوتارابتور، وهو نوع الديناصورات التي اكتشفها في هيل كريك، وأشار إلى سلسلة من النتوءات المنتظمة على العظم. "هذه على الأرجح عجرات قلمية"، وهذا الديناصور كان له ريش على ذراعيه، شاهد الآن، باستخدام مسطرة دقيقة، قام بقياس قطر عجرات قلمية، ثم قطر الريشة الأحفورية؛ وكلاهما 3.5 ملليمتر، ثم قال: "إنها متطابقة، وهذا يعنى أن ريشة من هذا الحجم سوف ترتبط بأطراف من هذا الحجم".

لقد كان هناك المزيد، بما في ذلك قطعة من جذع شجرة محترق جزئياً بها عنبر ملتصق بها. أطلعني على صورة للعنبر مرئية من خلال مجهر، وبداخله جسمان مرتطمان -وهو اكتشاف تاريخي آخر- لأن العنبر يحافظ على تركيبتها الكيميائية. (جميع التكتيتات الأخرى التي تم العثور عليها من الارتطام، والمعرضة للعناصر لملايين السنين، تغيرت كيميائياً). كما عثر على العديد من الأمثلة الجميلة للونسداليت، وهو شكلٌ سداسي من الماس يرتبط بارتطامات النيازك؛ يتشكل عندما يتم ضغط الكربون في الكويكب بعنف إلى درجة أنه يتبلور إلى تريليونات من الحبوب المجهرية، التي تنفجر في الهواء وتسقط.

وأخيراً، أطلعني على صورة لعظم الفك الأحفوري، وهي تنتمي إلى الحيوان الثدي التي وجده في الجُحر، وقال: "هذا هو فك )دوغي(". كان العظم كبيراً بالنسبة لثدييات العصر الطباشيري -طوله ثلاث بوصات– ومكتملٌ تقريباً، وبه سن. وبعد زيارتي لهيل كريك، قام ديبالما بإزالة جُحر الحيوان سليما، وما يزال مغطى في كتلة الرواسب، وبمساعدة بعض النساء اللائي يعملن كصرافين في مركز ترافل في بومان، قام بتحميله لمؤخرة شاحنته. يعتقد أن الفك يعود لحيوان جرابي يشبه ابن عرس. وباستخدام السن، يمكنه إجراء دراسة نظيرية مستقرة لمعرفة ما يأكله الحيوان "ما كانت قائمة الطعام بعد الكارثة"، على حد قوله. أما ما تبقى من الثدي في الجحر، فسيتم البحث فيه لاحقاً.

 



يَقُولُ ديبالما: إنَّهُ اكتشفَ أكْثرَ مِنْ عشرةِ أنواعٍ جديدة من الحيوانات والنباتات، وحدد الأسنان والعظام المكسورة، بما في ذلك بقايا الفقس، لكل مجموعة ديناصور تقريبًا معروفة من تكونين هيل كريك.

 

أورد ديبالما بعض الاكتشافات الأخرى التي قام بها في الموقع مثل: العديد من أعشاش النمل التي غمرتها المياه، بداخلها نمل غارق وبعض الغرف معبأة بالمايكروتكتيت؛ جُحر دبور محتمل؛ جحر ثديي آخر، به أنفاق وممرات متعددة؛ أسنان سمك القرش؛ عظم الفخذ من السلاحف البحرية الكبيرة، وما لا يقل عن ثلاثة أنواع جديدة من الأسماك؛ ورقة الجنكة العملاقة ونبات قريب من الموز؛ وأكثر من عشرة أنواع جديدة من الحيوانات والنباتات؛ والعديد من أنواع الجحور الأخرى.

في أسفل الرواسب، داخل مزيج من الحصى الثقيل والتكتيت، حدد ديبالما الأسنان والعظام المكسورة، بما في ذلك بقايا الفقس، لكل مجموعة ديناصور تقريباً معروفة من هيل كريك، وكذلك بقايا التيروصور، التي لم يتم العثور عليها سابقاً إلا في طبقات أدنى بكثير من الحدود الطباشيري - الباليوجين، كما وجد بيضة سليمة غير مفقسة تحتوي على جنين، وهي حفرية ذات قيمة بحثية هائلة، هذه البيضة والبقايا الأخرى تُشيرُ أن الديناصورات والزواحف الكبرى لم تكن على وشك الانقراض في ذلك اليوم المشؤوم بضربة واحدة، ربما حل ديبالما مشكلة الثلاثة أمتار وسد الفجوة في السجل الأحفوري.

بحلول نهاية الموسم الميداني لعام 2013، كان ديبالما مقتنعًا بأن الموقع قد نتج بسبب فيضان ناجم عن اصطدام، غير أنه افتقر إلى أدلة قاطعة على أنه انقراض العصر الطباشيري - الباليوجين، إذ كان من الممكن أن يكون ذلك ناتجاً عن ضربة كويكب عملاق آخر حدث في نفس الوقت تقريباً، أخبرني قائلاً: "إن الاكتشافات غير العادية تتطلب أدلةً غير عادية". وإذا تشاركت التكتيت الخاصة به الكيمياء الجيولوجية نفسها الموجودة في تكتيت كويكب تشيكسولوب، فستكون لديه حجج قوية، إن رواسب التكتيت في تشيكسولوب نادرة، وأفضل مصدر، اكتشف في عام 1990، هو نتوء صغير في هايتي، على منحدر فوق أحد الطرق. في أواخر يناير 2014، ذهب ديبالما إلى هناك لجمع التكتيت وأرسله إلى مختبر مستقل في كندا، إلى جانب التكتيت من موقعه الخاص؛ تم تحليل العينات في نفس الوقت، باستخدام نفس المعدات، وأظهرت النتائج وجود تطابق جيوكيميائي شبه مثالي.

في السنوات القليلة الأولى على اكتشافات ديبالما، لم يعرف عنها سوى عدد قليل من العلماء، أحدهم كان ديفيد بورنهام، المشرف على أطروحة ديبالما في كانساس، والذي يقدر أن موقع ديبالما سيبقي المتخصصين مشغولين لقرابة نصف قرن على الأقل، قال لي بورنهام: "لدى روبرت أشياء كثيرة لم يُسمع عنها. عنبر بداخله تكتيت- يا للهول! وريش الديناصورات جيدة، لكن الجُحر يصيبك بالذهول". في علم الحفريات، يشير المصطلح Lagerstätte (المرسب الأحفوري) إلى نوعٍ نادرٍ من المواقع الأحفورية به مجموعةٌ كبيرةٌ ومتنوعةٌ من العينات التي تم الحفاظ عليها بشكل مثالي، وهو نوع من النظم الإيكولوجية المتحجرة، وأضاف بورنهام: "سيكون موقعاً مشهوراً، وسيكون في الكتب المدرسية، إنه Lagerstätte من انقراض العصر الطباشيري - الباليوجين".

ساعدَ جان سميت، عالم حفريات في جامعة فريجي، بأمستردام، وخبير عالمي حول تأثير الارتطام الذي حصل في العصر الطباشيري - الباليوجين، ديبالما على تحليل نتائجه، ومثله مثل بورنهام ووالتر الفاريز، فقد شارك في تأليف بحثٍ علمي نشره ديبالما حول الموقع، قال سميت: "هذا بالفعل اكتشاف رئيس، إذْ إنَّهُ يحل مسألة ما إذا كانت الديناصورات قد انقرضت عند هذا المستوى بالضبط أم أنها انقرضت قبل. وهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها ضحايا مباشرة". سألته إذا كانت النتائج ستكون مثيرة للجدل، فأجاب قائلاً: "عندما رأيت بياناته حول سمكة المجداف وسمك الحفش والأموني، أعتقد أنه على حق، وأنا متأكد من أنه يحتوي على قدر من الذهب".

في سبتمبر من عام 2016، ألقى ديبالما محاضرة موجزة حول الاكتشاف في الاجتماع السنوي للجمعية الجيولوجية الأمريكية، في كولورادو، حيث ذكر فقط أنه وجد رواسباً من فيضان حدث في العصر الطباشيري-الباليوجين أسفر عن قطرات زجاجية ومعادن وأحافير، وقام بتسمية الموقع (تانيس)، تيمناً بالمدينة القديمة في مصر، والتي تم عرضها في فيلم " Raiders of the Lost Ark" عام 1981 كالمكان الذي يقع فيه تابوت العهد. في موقع (تانيس) الحقيقي، وجد علماء الآثار نقشاً بثلاثة أنظمة كتابة، كان حاسماً في ترجمة المصرية القديمة مثل جحر الرشيد. يأمل دي بالما أن يساعد موقع تانيس في فك شيفرة ما حدث في اليوم الأول بعد الارتطام.

وعلى الرغم من قصرها، خلقت المحاضرة ضجة. يتذكر كيرك كوكران، الأستاذ في كلية علوم البحار والغلاف الجوي بجامعة ستوني بروك في نيويورك، أنه عندما قدم ديبالما ما توصل إليه من نتائج، أصيب الجمهور بالذهول، كما كان بعض العلماء متحفظين، وأخبرني كيرك جونسون مدير المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في سميثسونيان، أنه يعرف منطقة هيل كريك كما يعرف راحة يده، حيث عمل هناك منذ عام 1981. وأخبرني: "أنوار التحذير كانت تومض باللون الأحمر الزاهر، فقد كنت مشككًا للغاية بعد الحديث الذي على يقين أنه كان ملفقًا". كما أضاف جونسون، الذي يقوم بمسح لطبقة الطباشيري-الباليوجين في هيل كريك، أن بحثه أفاد بأن موقع تانيس كان على الأقل خمسة وأربعين قدماً تحت الحدود الطباشيري-الباليوجين وربما أقدم من مائة ألف عام. قال جونسون: "لو تبث ما قيل عنه، فهذا اكتشاف رائع". لكنه قال إنه "لا يشعر بالارتياح" حتى يتمكن من رؤية ورقة ديبالما.

أخبرني أحد علماء الحفريات البارزين في الساحل الغربي، وهو خبير في انقراض العصر الطباشيري-الباليوجين قائلاً: "أنا متشكك في النتائج، إذ تم تقديمها في الاجتماعات بطرق مختلفة مع العديد من الادعاءات غير العادية المرتبطة بها. من الممكن أنه عثر على شيء مذهل، غير أنه مشهور بخلق ضجة من لاشيء". فعلى سبيل المثال، ذكر ورقة ديبالما حول ديناصور الداكوتارابتور، والتي وصفها بأنها "عظام جمعها من منطقة واحدة، بعضها جزء من ديناصور، وبعضها جزء من سلحفاة، ووضعها معاً كهيكل عظمي لحيوان واحد". كما اعترض على ما شعر أنه سرية مفرطة تحيط بموقع تانيس، ما يجعل من الصعب على العلماء الخارجيين تقييم ادعاءات ديبالما.

جونسون، أيضاً، يجد انعدام الشفافية، والجوانب الدراماتيكية لشخصية ديبالما، مقلقة، حيث قال: "هناك عنصر من الاستعراض في أسلوب عرضه لا يتطابق مع مصداقيته". أخبرني علماء حفريات آخرون أنهم حذرون من إبداء موقفهم جهراً حول الانتقادات الموجهة لديبالما وزملائه، حيث أعرب جميعهم عن رغبتهم في رؤية الورقة النهائية، التي ستُنشر الأسبوع المقبل، Proceedings of the National Academy of Sciences، حتى يتمكنوا من تقييم البيانات بأنفسهم.

وبعد محاضرة الجمعية الجيولوجية الأمريكية، أدرك ديبالما أن نظريته حول ما حدث في تانيس تعتريها مشكلة أساسية، إذ إنَّ التسونامي الذي حدث في العصر الطباشيري-الباليوجين، حتى لو كان يتحرك بسرعة تزيد عن مائة ميل في الساعة، فقد كان ليستغرق عدة ساعات ليقطع ألفي ميل إلى الموقع، غير أن هطول الأمطار المحملة بالقطرات الزجاجية كان ليضرب المنطقة ويتوقف في غضون ساعة بعد الارتطام، إلا أن التكتيت سقط في فيضان نشط، لقد كان التوقيت كله خاطئ.

لَمْ يَكُنْ هذا السُّؤال يخص الحفريات، بل كان مشكلة الجيوفيزياء وعلم الترسبات. كان سميت أخصائياً في الرسوبيات، وكان مارك ريتشاردز -الذي يعملُ حالياً في جامعة واشنطن- عالماً فيزياءً جيولوجياً، على مائدة العشاء في إحدى الأمسيات في ناجبور بالهند، حيث كانا يحضران لمؤتمر، تحدث سميت وريتشاردز حول المشكلة، واطلعا على بعض الأوراق، ثم قاما بعد ذلك بإجراء بعض الحسابات التقريبية، فاتضح لهما على الفور أن تسونامي الطباشيري-الباليوجين كان قد وصل متأخراً جدّاً لالتقاط قطرات التكتيت المتساقطة؛ كما كان من الممكن أيضاً أن تتضاءل قوة الموجة بسبب رحلتها الطويلة لتشكل الارتفاع في مستوى المياه البالغ 35 قدماً في موقع (تانيس). واقترح أحدهما أن الموجة ربما كانت ناتجة عن ظاهرة غريبة تعرف بلفظ تذبذب منسوب المياه. فعند حدوث الزلازل الكبيرة، يجعل اهتزاز الأرض في بعض الأحيان المياه في البرك وحمامات السباحة وأحواض الاستحمام تتحرك ذهاباً وإياباً. تذكر ريتشاردز أن زلزال اليابان عام 2011 أنتج أمواجاً غزيرة غريبة طولها خمسة أقدام في مضيق نرويجي هادئ تماماً بعد ثلاثين دقيقة من وقوع الزلزال، في مكان بعيد المنال عن التسونامي.

كان ريتشاردز قد قدّر من قبل أن الزلزال الذي ضرب جميع أنحاء العالم الناجم عن الاصطدام في العصر الطباشيري-الباليوجين، كان يمكن أن يكون أقوى ألف مرة من الزلزال الأكبر الذي شهده تاريخ البشرية، فباستخدام هذا المقياس، قام بحساب أن الموجات الزلزالية القوية كانت ستصل إلى تانيس بعد ست دقائق وعشر دقائق وثلاثة عشر دقيقة من الاصطدام. (تنتقل أنواع مختلفة من الموجات الزلزالية بسرعات مختلفة). كما كان من المفترض أن يكون الاهتزاز العنيف كافياً لإحداث مد بحري، وكانت النقط الأولى من الزجاج ستبدأ في السقوط بعد ثوان أو دقائق، وكانت ستستمر في السقوط بينما تتدحرج موجات المد البحري ذهاباً وإياباً، مودعة طبقة فوق طبقة من الرواسب وفي كُلِّ مرة تُبقي التكتتت في مكانه.

 باختصار، لم يستمر موقع تانيس خلال اليوم الأول من الاصطدام: فقد سجل على الأرجح الساعة الأولى أو نحو ذلك هذه الحقيقة، إذا ثبتت صحتها، تجعل الموقع أكثرَ روعةً مما كان يعتقد سابقًا. يكاد يخرج عن نطاق التصديق أن النص الجيولوجي الدقيق لأهم ستين دقيقة من تاريخ الأرض يمكن أن يظل موجوداً بعد ملايين السنين - نوع من فيديو عالي السرعة وعالي الدقة للحدث مسجل في طبقات رفيعة من الحجر. قال ديبالما: "إن الأمر أشبه بالعثور على الكأس المقدسة بين أصابع جيمي هوفا، جالس على قمة السفينة المفقودة". لو كان تانيس أقرب أو أبعد من نقطة الاصطدام، لما حدث هذه التزامن الوقتي الجميل. أخبرني ريتشاردز: "لا يوجد شيء في العالم تمت رؤيته من قبل مثل هذا".

في أحد الأيام قبل ستة وستين مليون عام، وصلتْ الحياةُ على الأرض تقريباً إلى نهاية مدمرة، وكان العالم الذي ظهر بعد الارتطام مكاناً أبسط بكثير. عندما انقشعت أشعة الشمس في النهاية عبر الضباب، ألقت بنورها على منظر جهنمي؛ إذ كانت المحيطات فارغة والأرض مغطاة برماد منجرف، والغابات جذوعها متفحمة، كما تسبب البرد في إفساح المجال للحرارة الشديدة مع بداية الاحتباس الحراري. كانت الحياة تتكون في معظمها من حصائر من الطحالب ونتوءات من الفطريات: ولسنوات بعد الاصطدام، لم تكن الأرض مغطاة بأي شيء باستثناء السراخس. أما تحت الأرض المظلم، فكانت تعيش ثدييات غامضة شبيهة بالفئران.

ولكن في النَّهايةِ ظهرت الحياة وازدهرت مرة أخرى، بأشكال جديدة، وما يزال انقراض العصر الطباشيري الباليوجين يستمر في جذب اهتمام العلماء، وذلك راجع في جزء صغير منه إلى أنَّ الأثر الرمادي المنقوش التي تركه على الكوكب بمثابة تذكير وجودي. قال لي سميت وهو يضحك: " لو لم يسقط ذلك النيزك لما كُنَّا الآن نتحدث هنا على الهاتف". وافق ديبالما. خلال مائة مليون عام من وجودها، قبل أن يضرب الكويكب، هرعت الثدييات تحت أقدام الديناصورات، لا حول لهم ولا قوة. وأضاف ديبالما: "لكن عندما اختفت الديناصورات، تحرروا جميعاً". في الحقبة التالية، تعرضت الثدييات إلى كم هائلٍ من التشعب التكيفي، وتطورت إلى مجموعة متنوعةٍ ورائعةٍ من الأشكال، من الخفافيش الصَّغيرة إلى التيتانوتيريات العملاقة، من الخيول إلى الحيتان، من المفترسات المخيفة إلى الثديات ذات أدمغة كبيرة وأيدٍ تمكنها من اللمس، وعقولٍ تُمكنها من الرؤية عبر الزمن.

وقال ديبالما: "يُمكننا اقتفاء أثر أصولنا مرة أخرى إلى هذا الحدث، وأن نتواجد هناك بالفعل في هذا الموقع ورؤيته، والتواصل مع ذلك اليوم، هو شيء خاص. هذا هو اليوم الأخير من العصر الطباشيري، وعندما ترتفع طبقة واحدة -في اليوم التالي- نكون في العصر الباليوسيني، وهو عصر الثدييات، وعصرنا".

 


المصدر(المقال والصور المرفقة): https://www.newyorker.com/magazine/2019/04/08/the-day-the-dinosaurs-died ©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها