عرض كتاب "نقد الليبرالية"

د. محمد آيت تعرابت


:: كتـاب "نقـد الليبرالية"  للكـاتب المغربي الطيب بوعزة عن مركز تنوير ::
الطبعة الأولى (2013) وجاء الكتاب في 175 صفحة، متضمناً ستة فصول.

 

يتساءل الكاتب في بداية كتابه ما الدافع إلى جعل النسق الليبرالي موضوعاً للقراءة النقدية؟ وما هي الفرضيات والمداخل المنهجية التي سنعتمدها في المقاربة والتحليل لتأسيس ذلك النقد؟ ويجيب بالقول "إن الدافع المسوغ لإنجاز هذا البحث هو الحالة التي يتميز بها المذهب الليبرالي عن غيره من المذاهب السياسية في لحظتنا الراهنة؛ حيث لم تعد الليبرالية اليوم تُقَدَّم بوصفها أنموذجاً أو نظاماً سياسياً واقتصادياً من بين أنظمة أخرى، بل يصح القول: إنها تكاد تُقَدَّم بوصفها الأنموذج الوحيد لتسيير الشأن السياسي والمجتمعي، دونما منافس لها أو بديل! ولذا يبدو السؤال عن دلالاتها، وتشغيل الوعي النقدي لبحث قيمها ومبادئها وتطبيقاتها المجتمعية؛ ضرورة ماسة نابعة من طبيعة لحظتنا الآخذة في فرض هذا النموذج على مختلف أقطار العالم".

وعلى مستوى المنهجية اشتغل الكاتب بمنظورين اثنين، الأول قام على الرؤية النقدية سماه النقد المثالي، معتمداً فيه على المقاربة الفلسفية التي تتناول الأسس المفاهيمية والمعرفية الليبرالية، بقصد الكشف عن زيف المزاعم الإطلاقية لليبرالية، والثاني ارتكز على المقاربة التاريخية والسوسيولوجية للنسق الليبرالي من حيث هو نظام مجتمعي. وقد أكَّدَ الكاتب أن نقده لليبرالية ليس نقداً للحرية ولا دعوة إلى الاستبداد وترجيحه على التحرر، قائلاً: "بل إن موقفنا المبدئي هو مع كل دعوة إلى التحرر المسؤول؛ فحرية الكائن الإنساني هي خصيصة ميّزه بها الله عزل وجل، وجعله بها حقيقاً بمهمة الاستخلاف في الأرض. تلك المهمة/ الأمانة التي تستلزم الحرية وتستوجب المسؤولية الأخلاقية".

وفي الفصل الأول بحث الطيب بوعزة في دلالة المفهوم، قائلاً: إن مفهوم الليبرالية يتبدى سواء في طرحه الفلسفي أو السياسي أو الاقتصادي مفهوماً زئبقياً ينفلت من التحديد والتعريف؛ مفهوم مخاتل غارق في الالتباس. لذلك يرى أن رسم أي دلالة كلية جامعة هو مجرد اختزال ينبغي أن يُحترس من أن يصبح الشجرة التي تخفي الغابة، فنسقط في مأزق الأحادية ونغفل تعدد الرؤى واختلافها حتى تجاه المفاهيم المشتركة التي تشكل أساس المذهب.

أما الفصل الثاني فقد خصصه لبحث مهم وهو النظرية السياسية الليبرالية، وقد خلص في هذا الفصل إلى أن النظرية السياسية لليبرالية تقوم من حيث مرتكزها الفلسفي على ثلاثة محددات وهي:

- الفصل بين السياسي والأخلاقي؛ حيث تَنزعُ نحو التنظير للعلاقة السياسية على نحو لا يضع في الاعتبار القيمة الأخلاقية، ويرتفع هذا الفصل من الناحية الابستمولوجية إلى مستوى الزعم بكونه شرط تأسيس علمية المعرفة السياسية، ويتضح من هذا الموقف الفلسفي أن الثقافة الحداثية الليبرالية يسكنها تصور ساذج للموقف العلمي؛ حيث تقصُره على الموقف المنتهج للرؤية المادية التي تنظر نظرة وصفية تستبعد سؤال القيمة وسؤال الغائية على حد سواء.

- الرؤية الذرية للوجود الاجتماعي؛ وهي رؤية موجَّهة لا تنحصر في منظور منهجي إجرائي فقط، بل تتعداه إلى بلورة فكرة فلسفية عامة تنهض عليها الرؤية الليبرالية للمجتمع، فتصوره حصيلة تراكم أفراد، لتجعل من الفرد القيمة الأساسية والمركزية في الوجود المجتمعي، ومن ثم تلغي من حسابها قيمة الجماعة وما يرتبط بها من مصلحة عامة.

- أما المحدد الثالث فهو النزوع نحو تحرير الفرد. يقول الكاتب هنا: "غير أننا نبهنا إلى الخطأ الذي يسقُط فيه كثير من الدعاة المسوقين للنظرية السياسية الليبرالية، وهو أنهم يعتقدونها تحريراً للفرد هكذا بإطلاق، ولا ينتبهون إلى أن الفرد المقصود عندها المعتبر في تنظيرها، ليس الفرد الإنساني عامة بل الفرد الملك بمدلوله الاقتصادي".

ثم انتقل الكاتب إلى الفصل الثالث بحث فيه النظرية الاقتصادية الليبرالية، وأكد فيه على نقده للرؤية الاقتصادية لليبرالية ليس فقط نقداً لإجراءاتها المنهجية في تحليل الثروة وإخلالها البين في نظرتها للتوزيع. واعتبر أنه في الأساس الفلسفي للنظرية الاقتصادية الليبرالية يكمن الخطر، ليس فقط على المعاش الاقتصادي للبشرية، بل في إقرار ثقافة فاسدة مؤسسة لطريقة تنظيم المعاش ذاته، ثقافة لا تختزل الحاجات الإنسانية فقط في ما هو مادي، بل تختزل الإنسان ذاته جاعلة منه مجرد حيوان اقتصادي! حتى تحوَّل الكائن البشري عندها إلى مجرد آلة حاسبة لا تشعر بشيء سوى جيبها وحافظة نقودها!

في الفصل الرابع، قدم تحليلاً مفصلاً بدءاً من تحليل سياق نشأتها، وإلى بحث اتجاهاتها النظرية التي تبلورت مع المدارس الثلاثة: المدرسة النمساوية مع "كرل منجر" و"بون بافريك"، ومدرسة لوزان مع "فالراس" و"باريتو" ومدرسة كمبريدج مع "ستانلي جيفنس" و"ألفريد مارشال".

ونظراً لمحورية مفهوم السوق داخل النسق النيوليبرالي، كان لا من بد أن يعطيه اعتباراً استثنائياً، فخصص له ما يكفي لبيان وضعه في الرؤية النيوليبرالية. وفي ختام هذا الفصل حمل المسلمين المسؤولية قائلاً: "وبما أننا أمة الرسالة السماوية القرآني؛ رسالة الرحمة للعالمين ونفي الإكراه والاستبعاد، فإننا نتحمل مسؤولية الشأن الثقافي العالمي؛ مسؤولية مواجهة ومدافعة هذه الهيمنة الغربية، بتقديم البديل، أي المفهوم القرآن عن الإنسان والحياة. إنسان يتعاطى مع واقع الحياة وعالم الأشياء، لكن بشعور كريم ناظراً إلى الأشياء باعتبارها مُسَخَّرة له، فلا يليق به من ثم أن يُسَخِّر نفسه لها وهو الإنسان الكريم عند ربه، فينشغل بها انشغال العبادة حتى يسف ويسقط إلى إدراك استذلال ذاته في سبيل امتلاكها.

أما الفصل الخامس، تناول الكاتب الليبرالية والحرية والسؤال الأخلاقي، ويرى الكاتب هنا أن توهُّمَ علاقة تلازمية بين الليبرالية والحرية، والحرص على المرادفة بينهما من قبل التيار الليبرالي هو وضع خاطئ يقوم على تحريف وتزييف ليس لمثالية المفهوم فقط، بل أيضاً للسياق التاريخي لليبرالية ذاتها. يقول الكاتب: "إن المعنى الأنواري لحرية الكائن الإنساني قد تم تحريفه من قبل الليبرالية، ليختزل في تحرير الكائن المالك تحديداً، وإطلاق فعله دونما حاجز قيمي أو مصلحي عام، ومن ثم جاز لنا القول إن الفلسفة الليبرالية ابتذلت مفهوم الحرية واختزلتها إلى مجرّد دال على حرية القوة الاقتصادية لا غير.

أما من حيث علاقة الليبرالية بالأخلاق أكد الكاتب على فقر المعنى الأخلاقي لهذه الفلسفة، بل اعتبر أن الأخلاق الليبرالية هي الأحق بأن تُنعت بالأبيقورية –ليس بمدلولها الأصيل عند أبيقور، بمدلولها الشائع كطلب الالتذاذ الحسي والنزوع الفرداني-؛ لأنها تنظر إلى الكائن الإنساني كجسد، وتستجيب له بوصفه كينونة جسدية ذات غرائز تطلب الالتذاذ والإشباع. هذا دون أن تضع في الاعتبار الأبعاد المعنوية في كينونة الإنسان، وهي الأبعاد التي أبصرتها الحكمة الدينية والفلسفية منذ أقدم تجلياتها الفكرية.

وفي نهاية تفكيكه علاقة الليبرالية بالأخلاقية والحرية، قال الكاتب "نترك سؤالين لعلهما يحركان الوعي الليبرالي وهما: هل يبقى ثمة قيمة أخلاقية عندما توزن بالكيلو وتعاير بالدولار؟! وهل تبقى ثمة حرية للكائن الإنساني بعد أن اختزلتموها في حرية الفرد المالك؟!

وفي الفصل السادس ألقى الكاتب الطيب بوعرة نظرة على الخطاب الليبرالي العربي بدءاً من لحظة دخول المفاهيم الليبرالية أوائل عصر النهضة العربية، ثم انتقالها إلى الاستواء في شكل نسق مع لطفي السيد، وانتهاء بتحليل مفاهيم الخطاب النيوليبرالي العربي المعاصر ونقائضه.

وفي الخاتمة أكد على أن حلول واقعنا المجتمعي لا تكون باستنساخ نماذج جاهزة واستيرادها، إنما لا بد من استصحاب مدخل منهجي يشمل الوعي بطبيعة المجتمعات وخصوصياتها، فالحضارات بطبيعتها أنساق منظمة، ولذا ليس من السهولة إحداث تغيير فيها، فكل حراك نهضوي لا بد له من تأصيل كي يتجذر.

 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها