جـامع السليمـانية في إسطنبول.. الروعة والشموخ في العمـارة الإسلامية

أحمد أبو زيد

يعتبر جامع السليمانية، أو جامع السلطان سليمان القانوني، الذي بني عام 1557م في إسطنبول، من المساجد الرائعة التي حفلت بها المدن الإسلامية، فهو بحق أجمل بناء إسلامي في تلك المدينة أعظم عواصم الدنيا في يومها، كما يعتبر ذا شهرة عالمية بما ضم تحت جناحيه من مؤسسات اجتماعية وثقافية، وبما حواه من إبداع الفن الإسلامي التركي الذي بلغ عصره الذهبي فـي ذلك الحين.
وتتميز عمارة الجامع عن معظم المنشآت الأخرى، بأنه قد شيد ليس كمبنى منفرد وحيد في فضاء المدينة، وإنما كأساس ومركز لمجموعة معمارية متكاملة، ضمت العديد من المباني والعمائر ذات الوظائف والأغراض المختلفة، التي تحقق النفع العام، وترسخ هذا الحس الاجتماعي في صميم النسيج التخطيطي للمدن الإسلامية.
وهذه المجموعة المعمارية المتكاملة، تتكون إلى جانب المسجد من دار لإطعام الفقراء وبيمارستان ومدرسة للطب وحمام وكتّاب للصبية وأربع مدارس عالية وعدد كبير من الحوانيت التي تشكل سوقاً حول المسجد. كما تضم المجموعة أضرحة للسلطان سليمان وزوجته ومعماري الجامع.

 

***


معمار سنان

ويعدّ جامع السليمانية من أشهر الأعمال المعمارية الإبداعية التي أنجزها المعماري العثماني الشهير "قوجه معمار سنان Koca Mi'mâr Sinân Âgâ 1491- 1588"، في عهد السلطان سليمان القانوني، بل في التاريخ العثماني كله، وهو يمثل أكثر مراحل سنان نضجاً وتطوراً.
ومعمار سنان من أبرز وأشهر البنائين المسلمين في القرن السادس عشر الميلادي، سواء في الدولة العثمانية أو على مستوى العالم الإسلامي، حيث تميّزت أعماله البنائية والمعمارية بالكثرة والقوة والمتانة والضخامة المصحوبة أيضاً بمظاهر من الجمال والرّوعة، ومن ثم فقد أطلق عليه الأتراك لقب «أبو العمارة التركية».
وتمثـل عمارته لهذا الجامع العريق، مرحلة مهمة وصفحة ناصعة في العمارة الإسلامية، وهذه المكانة المرموقة التى اكتسبها ترجع إلىعبقريته المعمارية وجدّة وأصالة وغزارة النتاج التصميمي الذي اضطلع به طوال عمره، والذي امتد قرابة القرن من الزمان. وقد عرف عصره بأنه العصر الذهبي للعمارة العثمانية في القرن العاشر الهجري- السادس عشر الميلادي.

فعلى امتداد سبعة عقود ونيف استطاع هذا المعمار العبقري أن يشيد أعداداً كثيرة من المباني ذات الوظائف والمضامين المختلفة، وأن يبسط نشاطه التصميمي على رقعة جغرافية شاسعة امتدت من تخوم بلاد السّلاف في البلقان وحتى مدينة مكة المكرمة في شبه الجزيرة العربية. وعدّ كثير من نتاجه التصميمي بمنزلة محطات ذات شأن مهم في مسيرة تطوّر الفكر البنائي ليس للعمارة الإسلامية فحسب، وانما لعموم مسار العمارة العالميـة.
وكان سنان رجلاً متعدد الكفاءات ذا عزيمة ماضية وقدرة فريدة على العمل، قلما خلت مدينة في تركيا من مسجد أقامه فيها، وحتى خارج تركيا، وقد أحصى الشاعر الرسام «ساعي مصطفى جلبي» – وهو أحد معاصري سنـان وكاتب سيرته، المنشآت التي صممها بـ(364) مبنى في مختلف أرجاء الإمبراطورية العثمانية.


النشأة والبناء

جاء بناء مسجد السليمانية، الذي يتسع لنحو خمسة آلاف مصلٍّ، تنفيذاً لرغبة السلطان سليمان القانوني، وبدأ العمل في إنشائه سنة (1550م)، واستغرق 7 سنوات، حيث فرغ البناء عام (1557م).
وكان السلطان سليمان يراقب العمل في مسجده عن كثب، واعتاد زيارة موقع العمل باستمرار ليقف على تطورات البناء، ولم يبخل على عمارته بالمال فأنفق عليه في سخاء، حيث تكلف 53 مليون آقجه (عملة فضيّة عثمانية).
وقد اختار السلطان سليـمان القانـوني (1566-1494م)، بنفسه مكان المسجد ومجمع السليمانية، ويقع الجامع على تلة مرتفعة تطل على مضيق البوسفور والقرن الذهبي، وبجوار مبنى قديم بنيت مكانه اليوم جامعة إسطنبول في منطقة بيازت.
ووسط مساحات كبيرة من المروج الخضراء والأشجار الكثيفة، ينتصب هذا المسجد بمآذنه الأربع العالية، تتوسطها قبة ضخمة كادت أن تصل إلى ارتفاع المآذن، بينما تحف بها قباب أصغر فأصغر تعم أرجاء المسجد وجوانبه ومرافقه بشكل متناسق ومنتظم وذي مدلولات جمالية كثيرة.
وشغل مجمع السليمانية مساحة فسيحة تجاوزت (60000) متر مربع وحدّدت الأرض التي وُقع المسجد في منتصفها بـ 144 متراً في العرض و216 متراً في الطول. 
وجرى حفل وضع الحجر الأساس للمبنى في اليوم الثالث عشر من يونيو عام 1550م، بحضور السلطان نفسه وحاشيته، وقبل أن يبدأ (سنان) بعملية البناء أعد الخرائط والتصاميم والأفكار والنماذج، ووضعها بين يدي السلطان نفسه فأعجب بها وأعطى موافقته عليها، وفتح باب خزانته لتنفيذها بلا حساب، مما كان له أعظم الأثر في إطلاق العنان لخيال وخبرة المهندس المعماري الفنان سنان لإنجاز مسجد رائع، طالما افتخر به وقال عنه: «إن هذا المسجد هو أعظم إنجازاتي».

أشهر المعماريين والفنانين 

وقد تم استدعاء مشاهير الحرفيين والمهندسين المعماريين والعمال الفنيين من أطراف المملكة العثمانية للمشاركة في هذا الصرح الكبير، حتى بلغ عددهم عدة آلاف، مما تطلب إنشاء مقر خاص لهم للسكن والتخطيط والآلات، فكان هذا المقر الخاص بالقائمين على العمل يضم قاعات متعددة الأهداف، وغرفاً للطعام، وأخرى لمبيت الغرباء منهم القادمين من خارج إسطنبول، وكان بجوار تلك الغرف الحمامات وسائر الخدمات الأخرى.
وقد جلبت قطع المرمر المستعملة في بنائه من جزيرة مرمرة والجزيرة العربية واليمن، وبه زخارف ملونة كثيرة وكتابات خطية جميلة، حيث عهد سنان إلى أشهر خطاطي عصره وهو «حسن أفندي جلبي» بكتابة خطوط المسجد التي جاءت غاية في الفن والتجويد والإبداع.

العمارة العثمانية

وهذا الجامع العريق يندرج ضمن العمارة العثمانية، وقد أعاد العثمانيون تخطيط وعمارة المسجد إلى سنته القديمة، وهي الصحن المكشوف الذي تحيط به الأروقة مع الاحتفاظ بمكان الصلاة، مغطى بقبة كبيرة، وباقي الأروقة مغطاة بقباب صغيرة، أما الصحن فهو مكشوف عادة تتوسطه نافورة معدة للوضوء، وقد أطلق الأتراك على الصحن والأروقة التي تحيط به اسم (حرم الجامع)، وهم بذلك يطلقون اسم الحرم تشبهاً بالحرم المكي الشريف، والذي أعيد بناؤه في عهد السلطان «مراد الرابع» على هذا النحو.

القباب المركزية

وأهم ما يميز العمارة العثمانية هو أسلوب التغطيات، فقد استخدمت القباب المركزية وحولها أنصاف قباب أو قباب صغيرة، بالإضافة إلى المآذن العثمانية الشهيرة، التي تنتهي بشكل مخروطي، وهو طراز لم يوجد في أي عصر قبل العصر العثماني.
وقد تأثر جامع السليمانية كثيراً بعمارة (آيا صوفيا) بإسطنبول، حيث نشهد الشبه في القبة المركزية ونصفي القبتين الأمامية والخلفية، إلا أن هذا العمل الرائع لم يأت تقليداً لآيا صوفيا وإن شابهه من حيث القبة المركزية والطابق العلوي الداخلي والضخامة، وإنما تفوقه عليها يأتي بقبته المركزية الظريفة، المستندة أيضاً على أربعة أعمدة ضخمة، وبمآذنه الأربع العالية، والقباب النصفية المشكّلة لسطح الجامع، وكذا محراب الصلاة الواسع والرّحب. كما يتفوق عليها من حيث القوة والمتانة وكثرة النوافذ الضوئية المحيطة به.

قاعة الصلاة

وتشغل قاعة الصلاة في مسجد السليمانية مساحةً واسعةً قدرت أبعادها بـ 63×69 متراً، وتم تسقيف هذه القاعة بمنظومة معقدة من القباب وأنصاف القباب والحنايا. 
فهناك قبة مركزية رئيسية تتوسط قاعة الصلاة، وتحمل على أربعة أعمدة بشكل أقدام الفيل متمركزة قرب الجدران، طول كل قطر فيها 7.5م، ووزن الواحد منها 60 طناً. ويبلغ ارتفاع القبة 53 متراً، وقطرها 27.25م. 
ويحف بها في محيطها الأسطواني 32 نافذة بأقواس مستديرة، وهي تنضم إلى أكثر من مئة نافذة أخرى موزعة على جدران الجامع ونواحيه، لتؤمن للمسجد إضاءة جيدة وانعكاسات للألوان من خلال زجاج النوافذ الملون الذي لا مثيل له. 
ولا تخطئ العين جمال النقوش الموجودة على القبة من داخلها، وهذه النقوش من أعظم آثار الخطاط التركي «أحمد سمستين» الذي فقد بصره آخر أيامه، فقام غلامه حسن جلبي بتكملتها. كما لا تخطىء العين الأساليب الفنية التي استخدمت في الديكورات الداخلية للمسجد مثل الحفر على الخشب والتطعيم العاجي وعرق اللؤلؤ وغيرها من الأعمال البديعة.

 

تشكيلة من القباب 

وليست القبة الكبيرة في بيت الصلاة وحيدة فيه، بل حولها ست قباب من جانبها، حجمها متوسط، وهناك فوق الأركان الأربعة أربع قباب أخرى ذات حجم صغير، ولعل هذه القباب العشر المحيطة بالقبة الكبرى، وما فيها من دقة فنية وأبعاد محسوبة بعناية، هي التي ساعدت على النظام الصوتي الفريد في هذا الجامع.
وكما كان النظام الصوتي متقناً فنياً، فإن نظام التهوية ليس بأقل إتقاناً، بل هو مهيأ من خلال منافذ خاصة بعضها يفتح للداخل، وبعضها يفتح للخارج لتنقية الهواء بسرعة وسهولة. وقد عمد المهندس سنان إلى عمل فتحات صغيرة تحت القبة في اتجاهات متنوعة ليضمن تياراً صاعداً يجذب وراءه الدخان المتصاعد من لمبات الزيت المستخدمة بكثرة لإضاءة المسجد الكبير.
 وعلى امتداد المحور الطولي المـار بين مدخل الصحن إلى المحراب هنالك نصفا قبة تلاصقان القبة المركزية من الأمام والخلف، وتعملان مع الحنايا الركنية الأربع في زيادة توسيع فضاء القاعة المحدد بالقبة المركزية في هذا الاتجاه، أما توسيع القاعة المركزية ضمن المحور العرضي، فقد تـمّ عبر منظومة معقدة من القباب الواطئة، ذات الأقطار المختلفة والموضوعة بصورة متناوبة بين قبة صغيرة وأخرى كبيرة.
وخلف بيت الصلاة في مسجد السليمانية يقع صحن المسجد أو الساحة الداخلية، وهي مستطيلة الشكل، وأرضية تلك الساحة مغطاة بألواح كبيرة من المرمر، ولها بوابتان على جانبيها، وبوابة في الوسط، وهذه البوابة الوسطى لها شكل باب أثري ذي تاج، وتعدّ عملاً معمارياً فريداً، وهي مثال رائع للفن السلجوقي، وقد نقش بالذهب وبشكل بارز فوقها شهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله). 
ويحيط بصحن المسجد ممر أو رواق من جهاتها الثلاث تعلوه (28) قبة ترتكز على (24) عموداً وترتبط بأقواس صغيرة، ومن تلك الأعمدة اثنان من الرخام حول البوابة الوسطى، وعشرة من المرمر الأبيض، واثنا عشر من الجرانيت.
وفي وسط الساحة هذه توجد نافورة للوضوء شكلها مستطيل، وقد نحتت نقوشها بشكل بديع وزينت بقضبان برونزية جميلة. ولدخول الفناء الخارجي للجامع خصصت 3 أبواب كبيرة، إلى جانب أربعة أبواب صغيرة، ويحيط بالمجموعة المعمارية سور كبير له 11 باباً.

 

أربع مآذن 

أما عن مآذن الجامع فهي أربع، كل منها في زاوية من زواياه الأربع، والمئذنتان الأماميتان قصيرتان نسبياً، وفي كل واحدة منهما شرفتان، والمئذنتان الأخريان القريبتان من قاعة الصلاة، أكثر طولاً، حيث يصل ارتفاعهما إلى (70) متراً، وفي كل منهما ثلاث شرفات، وبذلك يكون في جامع السليمانية أربع مآذن ترمز كما أراد لها سنان إلى أن السلطان سليمان القانوني هو رابع السلاطين العثمانيين منذ فتح القسطنطينية، وترمز الشرفات العشر إلى أن السلطان هو عاشر سلاطين آل عثمان منذ عثمان مؤسس الدولة العثمانية.
ومن مظاهر التفوق في بناء هذا الجامع أن المرمر المستخدم في حوائطه وفي منبره أيضاً يجعل صوت قارئ القرآن أو المؤذن لإقامة الصلاة يسمع في كل أركان الجامع دون الحاجة للميكروفون. 
 

منبر من الرخام

وأما حائط القبلة فقد زيّن بالزجاج الملوّن، وهو يؤوي المحراب الرخامي المرتفع ذا المشكاة المثلّثة والمزينة بالمقرنصات، ووُضع منبر من الرخام إلى يمين المحراب مباشرة وراء الدكّة المصنوعة هي الأخرى من الرخام. 
أما مشكاة الصلاة التي ترتفع إلى المستوى الثاني من النوافذ فهي ثريّة الزخارف، ووُضعت إلى جانبي المشكاة لُفافتان من الخزف أنجزهما محمّد جلبي في نقش كتابي تظهر فيه ذيول الحروف ممدودة شعاعية محاكية للكتابة المملوكية، وأُدرجتا داخل كسوة جدارية متعددة الألوان.
 

لوحة معمارية إبداعية 

وهذا المسجد بعناصره المعمارية المتكاملة، يعدّ لوحة معمارية إبداعية بكل المقاييس، هذه اللوحة التي جاءت محصلة لتوليفـة رائعة، بين ارتفاع القبـة الشاهق، وإبداعات الأساليب الزخرفية التي تكسو معظم القشرة الخارجية للعناصر التركيبية، ومنظومة الإنارة المنبعثـة من نوافذ ذات زجاج ملوّن، وهذا يكسب المسجد فرادته عبر تكامل وانسجام جميع عناصره واتساقهـا. 
وقد نجح معـمار سنان في اصطفاء مختلف أنواع القباب والأكتاف الساندة وتوزيعها بمهـارة وإتقان عاليين في التكوين المبتدع، بغية تفريغ الضغط الناجم عن دفع القبة المركزية وكذلك دفْع أصدائها ذات الأشكال النصف قبـابية. مع الحرص على تأكيد هـيمنـة الكتل المختارة وتعزيز سطوتهـا المعمارية في المشهـد العام لعاصمـة الخلافـة الإسلامية من خلال استخدام خصوصية الطول الشاهق لزوج المنارتين القريبتين من جسم قاعة الصلاة، اللتين يصل ارتفاعهما إلى (70) متراً.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 248 (صفحة 84)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها