سوسيولوجيا العطور في الحضارة الإسلامية

في كتاب "ثقافة العطر في الإسلام" لعالم الاجتماع عبدالوهاب بوحديبة

عبد الرزاق القلسي


كل من يقرأ كتاب "ثقافة العطر في الإسلام" الصادر بالفرنسية عن دار الجنوب بتونس سنة 2017، للباحث الكبير عبدالوهاب بوحديبة لابد وأن يثيره السؤال التالي: "ألهذا الحد كانت للعطور والبخور الأهمية الكبرى في تاريخ الإسلام والمسلمين"؟ و"إلى هذا الحد تميزت الحضارة الإسلامية عن غيرها ليس فحسب في استخدام العطور، وإنما في تصنيعها وتسويقها وفي اعتبارها مادة لا نظير لها للاهتمام بالذات وللعناية بالجسد –ذكورياً كان أم أنثوياً– فضلاً عما تشيعه العطور –في الفضاء العام والخاص على حد سواء– من ممكنات الترابط الأسري والتقارب الاجتماعي؟


إن المؤكد لدينا أن عالم الاجتماع الكبير عبدالوهاب بوحديبة قد استوحى منزلة العطر في الإسلام من مصادر متعددة: من القرآن الكريم، ومن الأحاديث النبوية، ومن كتب التراث التي فاق بعضها عشرة آلاف صفحة، مثل كتاب "المغني" لموفق الدين بن قدامة (541ه/620ه)، والذي يعد مصدراً مُهماً لمعرفة منزلة الطيب والروائح سواء في الأبعاد الثلاثة: الجمالية، الاجتماعية، والسحرية، الأولى تتصل بما يحب المسلم أن يكون عليه جسده، والثانية في ما يمكن أن تمنحه تلك المواد والسوائل من طاقة جنسية تشيع معها مفردات البهجة والمرح وألفة الحياة، فيما تتصل الثالثة بالأبعاد الماورائية للطيب في طرد العين وإبعاد الحسد واستحضار الجان، وما إلى ذلك من معتقدات ذات الصلة بعقلية المسلم الشعبي وغيره.

هذا الكتاب سفر في المواد وبينها وارتحال في العطور ومعها وتمثل للطيب وللروائح وكل ما يخاطب حاسة الشم (وإلى حد ما حاسة العين)، في الفضاء الثقافي الإسلامي. هو في الظاهر يتكلم عن الروائح ولكنه في باطن الأمر يتقصى علاقتها بأبعاد ثلاثة، هي: الذات/ الآخر/ الله وهذه الأبعاد تحكم سيرة المسلمين وسردياتهم ويومياتهم، في كل ما يتصل بعالم الطيب والعطور والبخور.

هل تبدأ علاقة الإنسان العربي بالعطور بالحديث الشريف "حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة"؟ بالتأكيد لا، ففي الشعر الجاهلي تظل عبارة امرؤ القيس وهو يصف حبيبته أم الرباب وصفاً شهوانياً بقوله: "نَسيمُ الصَّبَا جَاءت بِرَيَّا القَرَنْفُلِ"، تظل شاهدة على أنَّ للعربي تاريخاً قديماً مع العطور، ولكن في هذا الحديث ما يؤشر حقّاً على أنَّ للطيب مكانةً محوريةً في عالم الإنسان المسلم، وفي حياته اليومية وفي علاقته بالمرأة وبجسده، وهذا ما سعى الباحث الكبير إلى التوسع فيه وإلى دراسته على اعتبار أن في ذلك الحديث خطاباً عن العطور يفيض على نصه، خطاباً يدعو فيه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى التجمل والتعطر، وإلى "القيافة" بالمعنى الحديث للكلمة، وإلى الالتفات إلى بهجة الحياة وإلى كل ما ينأى بالإنسان عن الكآبة والاكتئاب.

منذ الصفحات الأولى للكتاب يدفع عبدالوهاب بوحديبة بهذه الأطروحة الرئيسية وهي: ثراء العطور وتنوعها في الثقافة الإسلامية مقابل فقرها وضآلتها في الثقافة المسيحية، التي تختزلها في ثلاثة زيوت مقدسة (ص: 25)، وتنحدر كلها من زيت الزيتون ويشير إلى أنَّ للعطور وللطيب في الثقافة المسيحية استخدامات دينية بالحصر لاتكاد تتجاوزها؛ لأن "هذه الزيوت المقدسة ترافق الشعائر والطقوس في التظاهرات الكبرى والصغرى، وعلى نحو خاص تعميد الأطفال بما يعد دخولاً لهم في دين المسيح" (ص: 23)، ويشبه سلوك اليهود سلوك المسيحيين في عملية الختان، ويستنتج بوحديبة هذا الاستنتاج الذي لا ينسحب على الحضارة الإسلامية وهو: "أنّ اليهودية والمسيحية تحصران الاستخدام المقدس والشعائري للبخور وللعطور في البعد اللاهوتي" (ص: 25)، فالعطر –في التقليد المسيحي وفي التقليد اليهودي- المسيحي – وقف على التعبد إلى الله لأنه "تجلي العلاقة الناشئة بين الإنسان والله" (ص: 26)، كما أنَّ العطر يصنع هوية أتباع المسيح "ويوحد أبناء الطائفة المسيحية ضمن عهد نهائي ومشهود" (ص: 26)، ويؤبد الصلة مع الأصول والأقانيم أي مع الرب والابن والروح القدس.

يخلص الباحث بوحديبة إلى أنَّ استخدام البخور والعطور محكوم بقواعد لاهوتية يجعلها أداة لبناء العلاقة مع الذات الإلهية، أما في الفضاء الثقافي الإسلامي فإن ما ينتهي إليه الباحث هو أنّ العطور كانت صنعاً بشرياً من أجل جمال البشر، ومن أجل بناء العلاقات الجمالية فيما بينهم، فضلاً عن كونها أداة للتعبير عن متعة الحياة وبهجة الوجود وجاذبية الإنسان.

 المؤكد لدينا أنّ هذا الباحث قد وصل إلى حقيقة مفادها أن هناك قطيعة لاهوتية في استخدام العطور فيما بين الفضاء اليهودي-المسيحي، وبين الفضاء الإسلامي. فالإسلام والعبارة لبوحديبة "قد نزع القداسة عن العطور" (ص: 28)، وألغى وظيفتها الطقوسية وسحبها من المجال الإلهي لكي "تنسلك حصراً في المجال الإنساني" (ص: 28)، بما يسمح من العبور من "لاهوت العطور إلى انتروبولوجيا العطور"، أي دراستها في ذاتها وفي استخداماتها وشعائريتها مترفعة عن كل حكم فقهي أو معياري سواء كان بالإباحة أو بالتحريم، وإن كان الأصل في الأشياء هو الإباحة بكل تأكيد.

والأصل أيضاً أن يكون الإنسان في الثقافة الإسلامية متعطراً ومتطيباً وتتضوع منه الروائح الزكية، فالعطر ليس تبرجاً لدى المرأة ولا يدخل في باب الإغراء والفتنة كما يدعي الفقهاء المتزمتون؛ لأن النفس البشرية في الإسلام –وباعتراف منه– تهفو بشوق طبيعي إلى العبير وإلى الشذا، وهي لذلك يجب أن تكون متاحة للجميع –رجالاً ونساءً– "دون أن يحدّ لظمئهم حدٌّ" ص: 28، ويرى الباحثُ أنَّ للإسلام فضلاً على البشرية جمعاء بأن جعل البخور والعطور متاحة للجميع وتستهلك في الحياة اليومية للإنسان –وليس فحسب في الشَّعائر الدينية كما رأينا في التقليد اليهودي/المسيحي–، وهذا ما سمح بتوليد جمالية حقيقية تجعل "من الروائح علامات لتنظيم الكون" ص: 28، ولرؤية الإنسان لذاته ولجسده وللمحيط الذي يتنزل فيه أو المقام الذي ينتسب إليه.

كيف تكلم القرآن الكريم عن الطيب والعطور والبخور؟ وكل ما يخاطب حاسة الشم؟ يرى الباحث أنّ القرآن الكريم قد تعرض لهذا الموضوع بطريقتين: "إشارية واختصارية" (ص: 27) وهما في رأيه "الطريقتان الغالبتان في الخطاب القرآني" (ص: 29)، ويرى –وهذا ما يستوجب النظر والتفكير– في أن القرآن "قد أرسى خطاباً كاملاً عن العطور وعن الثمار الفائحة ويمكن الإحاطة بهذه الأشياء إحاطة معجمية بأقل ما يمكن من العبارات. ونورد هذه الفقرة التي نترجمها لأهميتها البالغة في هذا الموضوع "إن الألفاظ القرآنية –في الموضوع الذي يشغلنا– تختزل في خمس ثمار، خمسة عطور، وثلاث مفردات تثير أشجاراً عظيمةً وغريبةً في آن. الأشجار المثمرة وعددها ستة قد تكررت في القرآن ستاً وثلاثين مرة: النخلة والنخيل (17مرة)، العنب والأعناب (7مرات)، الزيتونة (10مرات)، الرمان (4مرات)، التين (3مرات)، السدر (3مرات). أما العطور فأيسرها إحاطة: المسك، الكافور، الزنجبيل: مرة واحدة، الحبق مرتان، أما الوردة التي ذكرت مرة واحدة فهي لا تخلو من غموض، فهل يقصد بها القرآن الورد أم العطرشية"(ص: 30).

إن كل ما في القرآن يشي بالروائح وبالطيب سواء في الدنيا، أو في الفردوس الأعلى حيث يفيض العالم بالريحان وبالشذا وبالعبير بما يجعل اللذائذ الفردوسية كلها قائمة على اعتبار "كل ما يزهر عماداً للمتخيل" (ص:31)، ويرى الباحث أنّ الله تعالى قد أوجز وأشار إلى الطيب بأبلغ العبارات وأكثرها إشارية واختصاراً في سورة الإنسان، معتمداً على ما يسميه الباحث بتقنية الواضح/الغامض في كل حديث عن الطيب، على عكس الدقة المفهومية والتوصيف اللغوي في كل ما يتصل بالموضوعات ذات البعد القانوني والمحاسبي مثل المواريث وما شابهها.

وبالنسبة إلى الحديث عن العطور فإنَّ في القرآن تقنية أسلوبية تناسب الحديث في موضوع يثير الخيال والحواس، وهي تقنية "التورية " وتفسيرها: "البحث عن إعطاء وجه من وجوه الواقع مظهراً غائماً" (ص:32)، وهذا ما سمح بأن يكون الخطاب عن البخور والعطور خطاباً شعرياً أو فائضاً بالشعرية، ويدعو إلى الحلمية لكونه مشبعاً بالترميز والإشارة والاختصار، فعلى نقيض التوراة التي تذكر الكافور والمسك ولوتوس والعناب والزنجبيل بدقة كبيرة وتحدد المقادير وتضبط الأوزان، وتذكر المناسبات التي تستخدم فيها أو يحرم فيها ذلك الاستخدام؛ فإن القرآن لايذكرها إلا "في سياق عام مفتوح على أحلامنا التي لايحدها حدّ" (ص:33)، وإذا ما كانت أرقام وأعداد مثل 70 وسبعة ألاف أو مائة ألف أو غيرها تؤشر على الوفرة والبذخ كما يصنعها المتخيل الأسطوري/ الاسكاتولوجي؛ فإن مفردات مثل "ريحان" و"جنات " تعني العطر الاكستاتيكي، كما أن مفردات مثل الكافور والمسك والزنجبيل تؤشر إلى ضرب من العطور الباذخة التي لا يشملها تعريف واحد، وهي: "تدل على شيء نادر وفريد، ويفضي إلى الاستمتاع بكل النشوات" (ص: 33).

وإذا كان القرآن قد تكلم عن العطور بمثل هذا البذخ والشعرية فإن الباحث بوحديبة –بضرب من القياس المنطقي–، يدفع بهذه الأطروحة التي تتطلب الكثير من الأدلة وهي: إذا ما كان العالم في القرآن لا يخلو من الطيب والعطور، فكيف يمكن أن تخلو الجنة من الموسيقى؟ إنه يرى أنَّ بذخ العطور من بذخ الموسيقى. وهو لا ينفي أنّ أطروحته هذه خلافية، ولكنه يرى أيضاً أنَّ الترتيل والإنشاد هي في الأصل مقدمات موسيقية لم يجرؤ أحد عن الحديث عنها في التراث الإسلامي عدا الإمام السيوطي وباحتشام كبير.

هل إن روائح الجنة الواردة في القرآن هي "الموسيقى الإلهية" (ص: 34)؟ إن عالم الاجتماع عبدالوهاب بوحديبة لا يتوسع كثيراً في هذا المبحث، ولكنه يؤكد أن العالم الأخروي هو عالم الروائح بامتياز، وهذه الروائح تميز بين المصطفين وبين الملعونين، بين المقدس والنقي وبين الجحيمي والملعون، فالروائح تعد "عنصراً تكوينياً للتمثلات الأخروية/ الاسكاتولوجية لجموع المسلمين" (ص: 35).

:: الرسول والعطور ::

ما هي منزلة العطور والبخور والطيب في السيرة النبوية؟ وهل أنشأ الرسولُ عُرفاً مُحدداً في طريقة استخدامها؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها ينطلق الباحث من معطيين اثنين: الأول: "الشمائل المحمدية"، وهي "جنس قديم تراثي ظهر على نحو مبكر ويُعنى بإظهار الصفات الجسمانية للنبي صلى الله عليه وسلم، وكل أساليبه المختلفة في التعامل وفي الأكل والشرب واللباس" (ص: 39)، ويعد كتاب الشيخ البيجوري (1784/1859) -وهو شيخ من شيوخ الأزهر البارزين في القرن 19- "المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية"، أهَمَّ مصدر يتضمن هذا النمط من المعلومات من بينها طريقة استعمال الحناء، وطريقة وضع الكحل حول العين، وأسلوبه في التعطّر" (ص: 38)، وغير ذلك مما ينضوي اليوم في فنون الأزياء وثقافة المظاهر والعناية بالجسد، ويذكر بوحديبة أنَّ كبار المستشرقين لم يولوا هذه الجوانب أية أهمية على الرغم من توفر مادة وصفية مهمة، وردت في الأصل على لسان صهره علي ابن أبي طالب وعنه تداولها الرواة والمدونون جيلاً بعد جيل.

ويرى بوحديبة أنَّ علاقة الرسول بالطيب علاقة قديمة متجددة منذ طفولته إلى آخر حياته "وإليه يعود الفضل في تعميمه وإشاعة استعماله" (ص:41)، بين العرب والمسلمين الذين لم يكونوا على نفس الدرجة من التحضر، كما أدرك ما للبخور من قيمة في الحياة اليومية وفي التبادل وفي ممارسة الشعائر، وما يمكن أن تهبه من مناخ مناسب لأحوال التأمل والاستغراق الروحي التي كان يمارسها في غار حراء.

يذهب الباحث إلى أنَّ العطور والبخور هي عناصر تكوينية في شخصية الرسول الكريم، الذي نشأ في مكة والتي هي: "أرض معطرة لأن الأبخرة كانت تشتعل بكثافة على الأضرحة التي تعبد فيها الآلهة الوثنية" (ص: 42)، كما يبدو هذا البحث عن العطور في السيرة النبوية تحليلاً وتوسعةً للحديث النبوي الذائع الصيت "حبب إلي العطر والنساء وقرة عيني الصلاة"، فالرسول ولد "بين الأبخرة بل هو ولد متعطراً، وقد نشأ بينها ومات فيها وتربى لفهم العطور فشغف بها وأحبها وأنزلها منزلتها في كل مفاصل الحياة اليومية" (ص: 43). إن السنة النبوية قد تعاطت مع البخور على نحو مختلف عما كانت عليه، ففيها "حصلت نقلة العطور من المجال الإلهي إلى المجال اليومي الإنساني" (ص: 43)، بما يفتح الباب مشرعاً أمام نظرية عربية/إسلامية للاهتمام بالجسد والانهمام بالذات والألفة مع بهجة الحياة .

إن الباحث بوحديبة يؤكد أنَّ الإسلام قد أرسا رؤية جديدة لمتع الحياة ونشواتها تتطلب استخداماً منتظماً للعطور والروائح والند، وإن حديث الرسول يشير لهذا المعنى خاصة وأنه يثير ثلاث صيغ للمتعة، وهي: الانهمام بالذات، الانسجام مع الآخر، الحب الجسدي. وهذا ما يرتقي بالعطور إلى اعتبارها أسلوباً في الحياة ومقاربة للعيش لا أثر فيها لأدبيات الموت وعذاب القبر، بل إنَّ الرسول يرى إنّ التعايش مع الآخر لا يمكن أن يحدث إلّا في أجواء من البهجة والألفة وبالعطور تزدهر العلاقات بين الناس، وكثيراً ما كان يردد هذا الحديث: "لايردّ الطيب"، ويبدو أنّ له إيثاراً خاصاً للريحان مثلما أنَّ عود السواك لا يكاد يفارقه، فالفم يجب أن يكون مصدراً للروائح الطيبة لا الروائح العفنة والكريهة، ويتردد هذا الحديث "أفواهكم سبيل لعبور الكلمة القرآنية وعليه يجب أن تعطروها".

من خلال السيرة النبوية يبدو الرسول مُحباً لما يطلق عليه الآن "اللوك"، أي المظهر الجميل الذي يجب أن يتعهد بكل أصناف العطور الممكنة، وهذا للرجال والنساء على حد سواء وفي هذا المقام لا لوم على المرأة التي تتعاطى العطور والبخور، لأن الأصل في الإسلام أن يكون الإنسان متعطراً وأن يتضوع العطر من لباسه ومن فمه ومن جسده؛ لأن في ذلك ضرباً من التقارب الاجتماعي والوجداني بين الناس وفي المجتمع، فالتعطر غير التبرج.

 لو أردنا أن نرسم بورتريه/شخيصة للوك الرجل المسلم من وحي الأحاديث النبوية لكانت على هذا النحو: "تزيين الوجه، التسوك لفضائله الشعائرية والصحية، تنظيم اللحية وتسويتها وليس تركها شعثاء كما نرى اليوم عند بعض المسلمين، الحرص على بياض الأسنان، الشعر يجب أن يكون مصففاً ومنظماً وتوضع فوقه عمامة، العيون محاطة بالكحل، الطيب يتضوع من اللباس" (ص: 44). وكل ذلك في ظل البحث عن التناسب الهارموني بين الألوان والأشكال بما يطرد النشاز بينها، وبما يؤشر على وعي المسلمين بما يطلق عليه اليوم "الموضة" أو بالطراز إن استعرنا اللفظ العربي بمحموله الأندلسي العريق.

المؤكد لدينا أنّ للعطور في السيرة النبوية بعدين: جسدياً وروحياً، ولكن ثمة بعد آخر أثار فضول الباحث الكبير بوحديبة وأورده على علاته، وهو البعد العجائبي في سيرة الرسول الكريم وفي جسده، إذ يذكر أنَّ "عرق الرسول كان عرقاً فواحاً" (ص: 48)، وأنه يشم أقوى من "شذا العنبر والمسك على حد قول مالك بن أنس" (ص: 48)، ويذهب البعض إلى أنَّ من آيات التكريم الإلهي للرسول العربي أنه لا يذهب إلى مكان الخلاء (وهذا الأمر نفاه بشدة بعض كبار أعلام المذهب السني مثل النووي وابن حجر العسقلاني)، وأيّا كان الأمر فإن هناك إجماعاً من أنّ عرق الرسول ولعابه يتضوعان بالشذا وبرائحة الياسمين على وجه التحديد.

وأيّا كان وقع البعد العجائبي على العقول سواء من جهة التسليم أو التشكيك، فإن من مآثر هذه الأخبار أنها تنمي المخيال الشعبي العام حول الأهمية القصوى للعطور وللبخور في الحضارة الإسلامية، وتجعلها –من المنظور السوسيولوجي– أداة للتربية الشخصية والاجتماعية ولحسن التعامل مع الآخر (مع المرأة بوجه خاص)، ولتنمية الحس الجمالي إزاء الإنسان والأشياء على حد سواء.

:: الإفتاء في العطور ::

ما هي سيرة العطور في التاريخ الإسلامي؟ وماهي السرديات التي ترافقت معها أثناء العصور الزاهية للحضارة الإسلامية؟

بادئ ذي بدء لابد أن نشير إلى أنَّ المسلمين كانوا يعرفون بأنَّ مصدر العطور والطيب اثنان: طبيعية وحيوانية، وإذا لم تقترن العطور الطبيعية والنباتية بأي شكل من أيّ نوع؛ فإنهم لم يسرفوا في الجدل في أمر العطور الحيوانية وقضوا وأفتوا بإباحتها لئلا يحرم الإنسان المسلم منها، خاصة وأن بعض العطور أو الأبخرة هي إفرازات من الحيوانات فلم ينظروا إليها نظرة الدم مثلاً، وهذا في ذاته يعد سماحة وبعد نظر وتفهماً للواقع.

ويرى الباحث الكبير بوحديبة أن النوازل المتصلة بالعطور والبخور تحوي أفكاراً مهمة ذات بعد انتروبولوجي، وهي –على الرغم من بنيتها الخطابية البسيطة القائمة على السؤال والجواب– تؤشر "على اسم السائل، وأصله الاجتماعي، وعمره، وعمله" (ص: 52)، وهذا الجهد الفقهي حول العطور لم يكف إلى حد الساعة وإن كان بصيغ جديدة مثل: "إن كان استخدام مرهم الأسنان مباحاً في رمضان أم لا وإن كانت العطور بحمولتها الكحولية مباحة أيضاً؟ وإن كانت المرأة المتعطرة مذنبة أم لا؟ وما المقصود بالعطورات الحميمية"؟ (ص: 52).

فهذا المستوى الرفيع من البحث الذي يغوص عميقاً في العطور باعتبارها ظاهرة اجتماعية وليست ممارسة تمارس في الخفاء أو في الفضاءات الخاصة فحسب، فإن الباحث الكبير قد استوقفته مهنة العطّار، والتي يراها مهنة تكافؤ مهناً أخرى في المشهد الحضري العربي مثل: الحلاق، والسقاء، وهذه المهنة لا تتطلب ضماناً من أحد وإنما "الخبرة والكفاءة والسمعة الجيدة" (ص: 54)، خاصةً وأنها تتصل بنمط من الشعائرِ الدينية مثل طقوس غسل الميت وتطييبه والعروس التي تتباهى بتنوع عطورها، أما أداء مناسك الحج فيكون مدعاة لكي يأتي الحجاج معهم بأعواد الند وما شابها من مكة والمدينة.

يشير بوحديبة إلى ممارستين معلومتين في الحياة اليومية للمسلمين وهما: التطييب والإمساك عن التطييب لدواع مختلفة يذكر بعضها مثل: أداء مناسك الحج، ففيها يمنع التطييب مثلما تمنع العلاقات الجنسية أو قلع شعرة أو قتل نملة أو حتى عقرب. فالطيب في ذلك المقام يغدو من التابوات واستخدامه هو نقيض قدسية الإحرام بما يتطلبه من قطيعة مع العالم والحياة ومع كل صيغ النشوات وأشكالها.

في جدلية التحريم والإباحة تنتصر الإباحة لفائدة العطور والطيب والبخور، وفي هذا المقام يرى الباحث يوحديبة في القهوة مدخلاً مُهِمّاً لدراسة الروائح في ثقافة الإسلام الاجتماعية والحضرية، فهي قد كانت بدعة وعرضة للتحريم في مكة سنة 1515، قبل أن تطالها الإباحة من لدن فقهاء مستنيرين، ولكن أهمَّ استنتاج يصل إليه الباحث هو في الفضاءات التي ستستهلك فيها القهوة ويستخدم فيها العطر: المقهى والحمام.

من رائحة القهوة تعرف إن كنت في أرض الإسلام أم من أوروبا أو من بقاع أخرى من العالم. وهكذا أصبحت علامة على هوية عربية، مثلما أنها مؤشر قوي من مؤشرات الضيافة وحسن الوفادة، فضلاً على أنها كانت تدل على السيطرة الإسلامية على خطوط الملاحة قبل أن يأتي البرتغاليون ويكتشفوا طرقاً جديدة، وينتزعوا من المسلمين سيطرتهم على البحر.

المؤكد لدى الباحث أنَّ "تجارة التوابل والبخور والروائح قد لعبت –مع عناصر أخرى- دوراً حاسماً في ازدهار الحضارة الإسلامية، وأنّ تراجع اقتصاديات الشعوب الإسلامية قد وضع حداً لعبور هذه المنتجات، ولكن بالتأكيد لم يضع حداً لاستخدامها واستهلاكها" (ص: 72)، بل إنَّ نشأة المدن الإسلامية الكبرى: فاس، القاهرة، بغداد، اسطمبول، أصفهان، سمرقند... هي نشأة مدينة للعطور ولتجارة العطور، التي –حتى وإن كان العصر عصر انحطاط – لا تكف عن تبوأ منزلة رفيعة في المشهد الحضري.

لقد تولدت عن الاهتمام بالعطور في الإسلام تقاليد في الزراعة والحصاد والتجفيف والتصنيف وصناعة التقطير، وكانت التقنيات تتطور باستمرار، ويسرد الباحث فصولاً في هذا المعنى استوحاها من دراسات كبار المستشرقين المختصين في تاريخ مصر زمن المماليك أو زمن الخلافة العباسية، ولكن ما يهمنا في هذا الصدد هي تلك التقنيات المستخدمة من أجل استخراج العطور الثمينة، وكيفية ترويض الجدي الذي يستوطن أعالي التبت في الصين من أجل استخراج المادة الثمينة من غدده، وكل ذلك في فترات زمنية معلومة.

التصنيف للعطور أمر مهم لأن هناك عطوراً لعلية القوم وأخرى للعوام، ولكن الباحث يستوقفه نوع من النبات ذو المردودية العالية في التطيب، ويطلق عليه البعض بأنه "نبات الملوك" أو "طيب الملوك". إنه الزعفران الذي شاعت زراعته في الأندلس وفي بلاد فارس وقد ذكر أنه "يتوجب معالجة سبعين ألف زهرة من أجل الحصول على كلغ واحد" (ص: 76)، ولأجل ذلك كان موضوعاً للشغف من الرجال ومن النساء بوجه خاص كما كان موضوعاً للتحايل في الأسواق وفي الاتجار به، وهذا ما ضاعف من دور المحتسب في المراقبة وفي محاصرة عمليات التحايل التي تطال هذا الطيب الثمين .

هناك أيضاً نبات ثمين آخر هو العنبر الذي من أجله أرسل هارون الرشيد وفداً علمياً إلى جبال الهند، وقد خلص هذا الوفد إلى أنّ "العنبر ينشأ في المياه العميقة الحارة المنبجسة من عمق المحيط الهندي" (ص: 78)، ولكن ثبت فيما بعد أنه "من إفرازات كلوية ومرضية لحيوان حوت العنبر، والتي تتصلب لما يقذف بها على الشاطئ" (ص: 73). المهم هو في هذا التمشي العلمي الذي حرص المسلمون على ممارسته من أجل معرفة مصدر هذه المادة الثمينة.

لا ينفي الباحث أنّ توطين العطور في الديار كان هو الحلم الأكبر للبشرية تماماً مثل تربية الحيوانات، ولكنه يرى أن للحضارة الإسلامية فضلاً –في هذا المعنى– على غيرها من الحضارات، ويتمثل في أنها أضافت "البعد التصنيعي للعطور والطيب بما مكن من استخراج أمثل للعطور، وإمكانية الحفاظ عليها لمدة أطول وتعميم استخدامها في كل الطبقات والفئات" (ص: 82)، وتستوقف الباحث تقنيات التقطير التي يعتبرها تقنية إسلامية خالصة ذات أصول أندلسية فيما يبدو، وهو ما استوحاه من "كتاب الفلاحة" لابن الإشبيلي الأندلسي. ينطوي كتاب الباحث بوحديبة على بعد إنسيكلوبيدي، يشمل حضور العطور والطيب في جميع مفاصل الحياة المادية والمعنوية للإنسان العربي، ويخصص فصولاً من كتابه المهم لدراسة "أثر الأزهار في الشعر لدى ابن الرومي، ولدى المتصوفة ولدى ابن عربي، وشعراء التروبادور في الأندلس، وفي كتاب ألف ليلة وليلة وخلص إلى أنه: "بدون الزهور والعطور فإن التفكير في العالم الإسلامي يغدوا أمراً غير ممكن" (ص: 103).

وفي كل أطوار هذا البحث المهم لايفتأ الباحث عبدالوهاب بوحديبة يذكر أنه "لا وجود لبعد ديني للعطور في الثقافة الإسلامية" (ص: 107)، فالعطور والأبخرة وأنواع الطيب، أيا كانت مصادرها، هي للإنسان نحو الإنسان ولا حدود للاستمتاع بها.

وتستوقفنا قراءته لألف ليلة وليلة والتي يرى فيها مَنجماً من الأفكار عن تلك المواد والسوائل، ولكنه يدقق النظر على منزلة الحمام في قصة أبي صير في الليلة 935، حيث يحط الرجل الرحال بقرية لا يعرف أهلها الحَمَّام، فكان أول شيء بناه هو حمام يؤمه الرجال، ويصف الراوي العمليات التي تتم فيه: أبخرة متصاعدة، مياه حارة، مياه راكدة، حرارة وبرودة، تدليك ناعم وهادئ ومهدئ، ويتوج ذلك كله بتعطير الجسد العاري، الذي يسبح في أمواج من الأبخرة المتصاعدة للصبار والعنبر، وفي مثل هذه الأجواء الساحرة والسحرية تتضوع العطور في كل اتجاه وقد اتخذت من الجسد مركزاً لها.

ما يمكن أن نعتبره فريداً في هذه الدراسة حول إنتروبولوجيا العطر في الثقافة الإسلامية، هو في اعتبار الباحث للحمام بوصفه الفضاء العام الذي يُحتفى فيه بالجسد بصورة مشروعة ومن دون أن يصطدم بأحكام من هنا وهناك. وفي الحمام يصف الباحث كيف ينتشي الجسد ويقول في هذا المعنى: "الجسد ليس إلا طيناً نشكل لمساته الأخيرة وندلكه وتدلك فيه كل الأعضاء وتتبع العطور كل هذه الحركات، ويذوب الجسد في ضرب من الحياة الحلمية وينتشئ بهذه العطور والأبخرة، خاصة وقد أضحى عارياً أو يكاد لا يستره شيء، لا تستره إلا تلك الروائح والأبخرة الساحرة، وكل هذه المواد والسوائل التي تسمح بالهروب إلى عالم رؤيوي يغدو فيه الجسد هو محور المكان والفضاء" (ص: 111).

يرى الباحث بوحديبة أنَّ الحديقة الغناء هي امتداد للحمام فكلاهما فضاء للاستمتاع بالروائح الذكية، وكلاهما فضاء مغلق تمارس فيه الذاتية والذوقية بكل حرية كما يرى "إن ثقافة الحدائق في الإسلام ليست إلا امتداداً لثقافة العطور" (ص: 116)، وهي أيضاً في صميم المشهد الحضري العربي من الأندلس إلى أصفهان وسمرقند مروراً بكل الحواضر الإسلامية الكبرى، بما في ذلك القيروان قبل نكبتها على يد الغزاة الهلاليين سنة 1055م.

يرى أيضاً أنَّ في العطور والحمام والحدائق صوراً إسلامية ناصعةً "عن اليد الخلاقة للإنسان المسلم" (ص: 116)، فـ"الخيال والصنعة والعبقرية هي في خدمة حسن الانتشاء" (ص: 116)، الذي هو قيمة روحية ونفسية وجمالية تسكن أهل المدن والحواضر الإسلامية، والتي لم تكن أبداً كتلاً اسمنتية متعامدة وإنما فضاءات للجمال البصري والروحي، حيث يحلو العيش في جمالية تبيح كل أنواع البذخ في العطور وفي المسكن وفي تنظيم الفضاء العام.

يترتب عن ذلك استنتاج خلافي، وهو أن الإسلام لم يكن أبداً صديقاً للفقر وللتقشف وللحدود الدنيا في العيش وفي الاهتمام بالذات؛ وإنما كان نصيراً للاعتدال الجمالي في كل شيء، وهذا الاعتدال يذهب بالإنسان أعلى فأعلى من أجل أن يعمر الكون ويكون أفضل خليفة لله على وجه الأرض.

:: آفاق أخرى للعطور ::

يسعى عالم الاجتماع عبدالوهاب بوحديبة إلى فهم المشهد الحضري في العواصم الإسلامية الكبرى، فيشتغل على معرفة دواعي الاهتمام البالغ بالحدائق والبساتين والفراديس، ويرى أنَّ الشغف بالعطور والروائح هو الذي ولد الشغف بالحدائق، التي هي "فضاء مغلق ومفتوح في الآن ذاته" (ص: 117)، مغلق لأنه يمس حميمية الإنسان، ومفتوح لأنه مشرع على كل الروائح الزكية: رائحة النبات والزهور والأعشاب وصولاً إلى رائحة جسد الحبيبة، "فالحديقة وجسد المحبوب يتراسلان، ويمثل العطر نقطة الالتقاء والوحدة بينهما" (ص: 119)، فهذا الجسد مضمخ بالطيب، تتضوع منه الروائح التي هي علامة وخطاب في الآن ذاته، علامة لأنها معجم غني بالمفردات والعبارات والاستعارات وما شابهها، وخطاب لأنها ترسل إشارات إلى الطرف الآخر، ويعتبر المسلمون (وغيرهم) إن الشَّعرَ أهم ناقل للروائح، وأنَّ "التلاعب بشعر المرأة علامة كونية على دعوتها للوصال" (ص: 123).

المهم في هذا المقام أن المسلمين قد اهتدوا إلى المنافع الطبية للنباتات وللأبخرة، وقد عرف المسلمون المرحلة التجريبية التي وضع فيها الأطباء المسلمون تلك المواد موضع التجريب والمحاولة والاختبار، قبل أن يصوغوا معارفهم في بيانات ومقالات ظلت إلى وقت قريب مرجعاً لاخلاف في صحته وعلميته.

ويسرد عبدالوهاب بوحديبة المصادر المهمة فيذكر كتاب ابن الجزار القيرواني والمدرسة القيروانية، ويحيل إلى كتابه "في الطيب والأبخرة"، وهو كتاب فريد لأن الطبيب يحلل فيه "كيفية اشتغال حاسة الشم وكيفية عبور الأبخرة عبر المناخر وولوجها إلى المناطق الأمامية للدماغ إلى الناصية" (ص.144)، واهتدى الطبيب العبقري إلى العلاقة بين نوعية الطيب ونوعية الأمراض فيما يعد ذلك كشفاً وفتحاً طبياً لم يسبقه إليه أحد.

في هذا المقام يستوقف الباحث نظرية "الطب النبوي"، ويعتقد أن أفضل تسمية هي "الطب بحسب الرسول محمد"، ويراها مزيجاً من الطب الهندي الذي كان يمارسه الحارث بن كلدة، طبيب الرسول والمعارف الطبية السائدة.

يحيل بوحديبة إلى كتاب ابن القيم الجوزية ويرى أنّ الطب النبوي ليس بديلاً عن الطب وعن التجريب في الطب، مثلما أنه ليس وصفات جاهزة بل هو صدى للطب كما كان يمارس في ذلك العصر.

ولكن كيف كانت العلاقة مع الطب النبوي؟ كان العلماء والأطباء يبحثون في الأحاديث "عن توضيح وليس عن تبرير" (ص: 157)؛ لأنهم كانوا يعتبرون ألاّ علاقة تضارب بين العلوم الموروثة من اليونان وبين الأقوال المقدسة عن الرسول، الذي كانت لديه الحكمة والوحي متلازمين" (ص: 158)، وهذه الأحاديث حول الطب والصحة والعطور والأبخرة قد أسهمت في تعميم الطب في الحواضر الأرستقراطية وفي البوادي، بل هي كانت سنداً لما سيسميه ابن الجزار بـ"طب الفقراء" أسوة بـ"طبيب الفقراء وطبيب الأغنياء" وما إلى ذلك من التقسيمات الطبقية القديمة، التي تشمل المأكل والملبس والطب والعطور وكل مناحي الحياة تقريباً.

 يخلص الباحث عبدالوهاب بوحديبة إلى أنّ في السيرة النبوية ثناء للطبيب لا حد له، وأن في الطب النبوي تشجيعاً على ممارسة الطب بالروح الإغريقية الحكيمة، وليس بالشعوذة وما شابهها، ويورد الباحث أحاديث يحرص على ترجمتها إلى الفرنسية الترجمة الوفية للمعنى الكامن فيها، ومن بينها "الملائكة تعشق العطور والشياطين تؤثر الروائح النتنة" (ص: 157)، ومن خلال هذه الشواهد والتعاليق يلاحظ الباحث أنّ الفقهاء والأطباء والقضاة –أي كل من له موقع في البنية الفوقية للمجتمع المسلم– قد أجمعوا على الأهمية القصوى للطيب وللعطور والروائح، وإلى مردوديتها العالية في الطب والطعام وحفظ الصحة والانهمام بالجسد، بل إنَّ أكثر الفقهاء أصولية وظاهرية (ابن القيم الجوزية تلميذ ابن تيمية)، قد أورد كتاباَ كاملاَ عن البخور والعطور ومنافعها على الروح والنفس والعقل.

يبدو أن الهاجس الأنثروبولوجي هو الذي يحكم تفكير عبدالوهاب بوحديبة في دراسته عن العطور والأبخرة والروائح، سواء في الطب أو في الطعام أو في أي مجال حيوي آخر، ولكن هناك هاجساً آخر لامسه في كتابه، وهو الهاجس الإبداعي لأن المسلمين ابتكروا ألواناً من العطور والروائح التي لم يسبقهم إليها أحد، ومازجوا بين أنواع من الطيب وبين وفرة الألوان في الطعام المنصوب على المائدة، ونشأت أدبيات في ذلك وانتعش متخيل واسع يمجد الشذا والعبير والعطر، ويهجو الروائح الكريهة التي أولاها المسلمون مكانة في متخيلهم أيضاً، وأنشأوا حولها سرديات تصب كلها في اتجاه واحد، وهو اتجاه مقاومتها وما يتولد عنها من العفونة.

إن طرد الروائح الكريهة يعد من صميم الثقافة الإسلامية، وذلك عبر المطهر الأول والأكبر وهو الماء، وليس هناك شيئاً أسوء من الفم الأبخر، كما أنَّ المرأة مدعوة بانتظام إلى العناية بجسدها، والرجل مدعو أيضاً إلى التعطر والتطيب بحسب المقام.

يشير بوحديبة إلى أنَّ المسلمين كانوا يتعاطون السِّواكَ أو أية مادة مزيلة للكراهة بحسب جغرافيتهم (ليس السواك فحسب)، بينما كان الأوربيون والغرب عموماً يدعون إلى تناول الشوينغوم (العلكة)، والحلوى للغرض نفسه ولإزالة الروائح الكريهة، اشتغل المسلمون على تعميم السواك للغرض ذاته، كما أنهم من جانب آخر اشتغلوا على صناعة الصابون، والتي هي في الأصل صناعة فارسية، ويذكر الباحث وصفات تشي بمعارف تقنية وكيميائية معقدة ودقيقة يكون فيها زيت الزيتون هو المادة الرئيسة. وإلى جانب ذلك برزت مواد أخرى مثل "الطفل"، الذي أبدع أهل دمشق وغيرهم في استخدامه وفي خلطه بالماء أو بالعطور لاستدرار نكهته. وما يهم الباحث هو هذه القدرة اليدوية والتقنية "في التعاطي مع المواد والسوائل بما يشكل إغناء للمتخيل عبر رجوع مادي للأصول ولأعماق الروح" (ص: 182)، من أجل بهجة الحياة وألفة العيش.

يبدو الباحث على قدر كبير من الموضوعية فليست كل المدن الإسلامية يحلو فيها العيش؛ لأن مصادر الروائح الكريهة –بشهادة بعض الرحالة– تفسد نظام الحياة فتشيع الروائح الكريهة التي هي روائح نابذة أو ما يسميه المسلمون بـ"روائح الشيطان التي هي في الأصل مخلفات الإنسان وإفرازاته التي لم يستطع التخلص منها" (ص: 188)، فتراكمت الأوساخ وأساءت للمظهر العام للمدينة، خاصةً في العصر الذي تضعف فيه الدولة بغياب المحتسب أو من ينوبه في سياسة الشأن الحضري والاجتماعي العام.

وإذا ما كان العطارون يحتلون قلب المدينة الإسلامية، فإن المشتغلين بالروائح الخبيثة يتواجدون على هامشها وأحوازها مثل: الدباغين والفحامين والزبالين وغيرهم، ولكن الطريف في الأمر أنَّ عالم الاجتماع عبدالوهاب بوحديبة يتقصى منزلة الروائح الخبيثة، وخاصة البخور في الممارسات ذات العلاقة باستحضار الجان وبالسحر وطرد العين وربط العقد، وغير ذلك مما يندرج في العلوم الباطنية الغامضة والتي كان لها أتباع في المدن الإسلامية، مع أن الإسلام لايقرها ولكنها ترسخت في الثقافة العامة خاصة بشيوع التبخير وأعواد الند من المحلات "المسكونة". واعتبر الباحث أنّ: "الإسلام حضارة عطر، ولكنه ليس حضارة تبخير" (ص:191)؛ لأن البخور لم تكن وضعيتها واضحة، ولأن التبخير مقترن بحضارات أخرى أكثر قِدماً وأكثرَ رسوخاً في مسائل السحر، مثل الحضارة البابلية والفرعونية والهندية والأزتيك والمايا، ولكن مع ذلك ساد في الأوساط الشعبية والريفية والصوفية، بل وفي أغلب مظاهر الحياة اليومية، ويقدم عالم الاجتماع بوحديبة لذلك تفسيراً وجيهاً وهو أن "الإسلام الأورتودكسي السني الصارم قد خلق لدى المسلم العادي حالة من العطش إلى الروحانيات أو على الأقل يستشعر الخواء فيها" (ص: 193)، فابتكر ما به يسد عطشه ذاك ولا يجب النظر إلى هذه الممارسات على أنها "استدعاء من الجاهلية أو شكوك في الإيمان؛ وإنما إضافات شعائرية وإسقاط نحو الأعلى لزفير آت من أعمق أعماق النفس البشرية" (ص: 193).

 وأيّاً كانت مرجعيات هذا التفسير، اجتماعية أو نفسية أو كلاهما، فإنَّ الباحث يشتغل على دراسة أعواد الند والتبخير في الحياة العامة والخاصة؛ لأن المهم لديه ليس لماذا أتاح الفقهاء (مضطرين) البخور أو لماذا لم يحرموه، (ولم يستطيعوا ذلك لوجود سوابق في الاستعمال في السيرة المحمدية)، وإنما في طرائق استخدامه في أوجه ربما انقرض بعضها الآن.

تبدو لنا قوة هذا البحث في تضافر ثلاثة أبعاد وهي: الجانب الأمبيريقي الذي يتجلى في اعتماد الباحث على المعلومات من مظانها ومصادرها الجغرافية والاجتماعية، وهو يذكر بالحرف أنه رأى بعض الممارسات المتصلة بالطيب والعطور في القيروان وفي السعودية وفي تونس وفي البوادي.

الجانب الثاني في أنَّ للرجل خلفية مقارنية بين الأديان والثقافات، ولم يكن هاجسه المفاضلة بينها، وإنما تقديم الوجه الفريد لمنزلة العطور في الثقافة الإسلامية بالحجة والدليل.

الجانب الثالث هو في أنه لم يجعل من ثنائية التحريم والإباحة هي الثنائية التي تحكم أبحاثه، بل إن متغيرات الواقع هي التي جعلته يهتدي إلى منزلة العطور والطيب وتقديم التفسيرات والتأويلات المناسبة وربطها بسياقاتها الشعائرية والثقافية. في الثقافة الإسلامية نوع من الريبة إزاء التبخير وأعواد الند على الرغم من استهلاكهما الواسع بين كل الطبقات، فالجمالية الإسلامية ترحب باستخدامها للزينة والجمال ولإظهار الحسن والبهاء والشغف بالحياة وبالأنوثة والرجولة، ولكن "بالقطع ليس لتغيير مسار الأشياء عن طريق السحر" (ص: 201).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها