لن أقلب الصفحة

سعيد موزون

الصفحة الأولى

أذكرُ أننا كُنّا نذوبُ أو ننصهرُ لصوتِ "أميمة الخليل" الملائكيّ، وهو يترقرقُ من هاتفها- وكِتفانا
يتكئان على بعضهما البعض مثل عجزي نخل خاويين- على السور المطِلّ على البحر:
تَكَبّرْ.. تَكَبَّرْ
فمهما يَكُنْ مِنْ جَفَاكْ
ستبقى بعيني ولَحْمِي مَلاكْ
وأذكرُ أيضاً أني كُنتُ أرخي عينيّ الحمراويْن وأبكي سجاماً وأنا أحاول أن أستتر وأخفي دموعي الحرّى عنها.. أبكي بحرقةٍ وسَخَاءٍ وأنا أهيمُ وأتماهى مع غناءِ أميمة الشجيّ، وأغيبُ في جلالِ البحر..
- لماذا تبكي كالأطفال؟
- قلبي ينبضُ بالفناء، أخشى عليه منْ رحيقِ عينيْكِ
- ألا تشبعُ من عينيّ أيها الجائع الأزليّ.. كُلَّ هذا الدهر؟
- مثلما لا يشبعُ المعاصرون من النزول في صفحات الفايسبوك!
- الشّهدُ الذي يُلازمُ عينيْكِ إنْ غابَ عنهما يوماً سَأُدفنُ في حَسْرَتِي، سَأَنْـتَهِي.

رفعتُ إلى الأفق بَصَرِي الذي سُكِّرَ بعيْنيْها، وإلى الـمَسَاء وهو يلفُّ البحرَ في لِحافِهِ الأحمر، ويُنيخُ بوشاحه على وقفتِنا العذْبَة من أعلى الأودية، وقد انعكس الشفق على صفحة خدّيّ الأملسيْن اللذيْن أصبحا رُخاماً أحمر بسبب إمعاني في بكائي وانمحائي، وأنا لا أحيدُ أبَداً عن عينيْها الـمُفْنِيَتَيْن لعلي أرى سؤالي فيهما، ثم أرفعُ صوتي بالغناء وهو يتدفق من حنجرةٍ متحشرِجةٍ، فأقلّدُ هذه المرة مارسيل خليفة وكأنني ديناصورٌ جريح:
أُسَميكِ في السرِّ
أرسمُ في الصمتِ عينيْكِ
عيناكِ تاريخُ كل الدموع

أتوقفُ عن الغناء. أغرقُ في الدموع وهي تندلعُ من الحلْق كَالْحِمَم وتختلط بالنشيج والحشرجة.. تمدُّ منديلها الورقيّ فتمسحُ دموعي، ثم أتوقف عن البكاء.. ثم بعدها يهتزّ صدري فأُمْعِنُ في الزفرات والشهقات مُجَدَّداً كطفلٍ يتيم رحلتْ عنه أمه وتلتمسُ منه أنتَ الكفَّ عن البكاء.
تُرسلُ يدها الناعمة لأول مرة منذ دهر ظالم لتلمسَ غبار السنين على وجهي.. على أخاديده وتقاسيمه، ثم تُهَدْهِدُ حاجبيّ لتسكتني فأطيرُ من الفرح في ملكوتٍ لا يسعني، تغمضُ بإبهامها وسبّابتها عينيّ المبتلّتيْن، وتناشدني أن تظلاَّ مغمضتيْن، وأنْ أَكُفَّ فوراً عن البكاء، فتشاركُني اندحاري وموتي بنبرة خافتة حزينة وهي تُقلّدُ أميمة، وتُنشِدُ وهي تفرقعُ الإبهام بالوسطى بإيقاعات تتناسبُ وأغنيةَ أميمة (وأحسبُنِي رأيتها بقلبي وداخل عينيّ المغمضتيْن تتمايلُ بحركات تناسب إيقاع الأغنية):
نسيمُكَ عَنْبَرْ
وأرضُكَ سُكَّرْ
وإني..

لَمْ تُتْمِم العبارة، ثم واصلتْ الغناء، وهي تُثبّتُ عينيْها في عينيّ، فأواصلُ البكاء والتلاشي والتماهي:
وأنتَ الثرى والسماء
وقلبكُ آه.. أخضر
وجزرُ الهوى فيكَ مدْ
فكيفَ إذن لا..

أذكرُ أني وهبتُها قلبي، وصورةً شمسية لوجهيَ المعذَّب بها في ذاك المساءِ الأحمر ونحن بالأوداية في الرباط نتأمل تلاطُمَ أشواقنا في البحر، وقد احمرّتْ خدودُ الأمواج في حضرة الغروب، لكن ما الذي جاء بي الآن إلى آسفي؟ ماذا أفعل اللحظةَ في آسفي؟

الصفحة الثانية

كنتُ أقول لها ونحن عصفوران خجولانِ من أعلى سيدي بوزيد بآسفي، والنوارسُ تتصايحُ وتحلق فوقنا لتبارك فناءنا وتوحّدنا:
- عيناكِ الخضراوان تقولان شيئاً!

تبتسمُ ابتسامةً عذْبة وقد احمرَّ خدّاها البضّان، فتضعُ أناملها البيضاء على شفتيْها/شَفَتَيْ الكَرَز، فتبتسمُ كَرَّةً أخرى ابتسامةً ينطفئ لها الكون:
- لا..لا..أبداً، بل عيناكَ أنتَ تقولان إنّكَ.. إنكَ أخرس!

يرعدُ قلبي ويصطكُّ فَيَتَصَخَّرُ، فأقولُ وقد غرستُ عينيّ في زرقةِ الأفقِ والسُّحبِ المتصوّفةِ المبعثرةِ على صفحة الأفق، وقد تخدّرَ قلبي برائحة البحر وارتعشَ بالعشق:
- أنا؟ لا أبداً..أنا فقط أَتَأَلَّمُ مثل عصفور على فوهة بركان!
- متى تُزْهِرُ أيها الزاكوريّ؟
- حينما أُسْقَى بماءِ عينيْكِ الخضراويْن
- متى تقولُ شيئاً يستحقُّ أن يُسمَعَ؟ متى؟
- "صمتي طفولةُ رَعْد" هذا ما قالت أغنية أميمة
- ومتى يرعدُ رعدُكَ إذن أيها.. الطفل؟

تبتسمُ من جديد، فَأَتَكَهْرَبُ، آه، نَعَمْ.. فَأَنْجَلِي وأذوبُ مرة أخرى في كونٍ لا يسعُني، فتقولُ وقد اندثرتُ تماماً أمام رحابِ أسنانها البيضاء اللامعة بالحب:
- ألستَ متأكداً أن قلبكَ يريد أن يقول شيئاً؟

تعليق السارد

(لما قالتْ هذا أردتُ أن أُتَمِّمَ ما بدأتُهُ في الصفحة الثانية، لكنَّ الدموعَ بدأتْ تزدحمُ في عيني فَتُبَلِّلُ الورقة، وتُبلِّلُ صفحةَ حبنا، وتبلّلُ ما أحكي
اندفعتْ رياحٌ هائجة مفاجئة فكادتْ تسحبني وتُدحرجني على شفا البحر، وطارتِ الورقةُ وهي تتهاوى على البحر، فارتطمَ حُبُّنَا بالأمواج).

 

تتمة الصفحة الثانية في ورقةٍ الْتَمَسْتُها من بائع حمّصْ-كامون

أنا متأكدٌ حَقّاً أن قلبي يريد أن يقول أشياء كثيرة، يريد.. يريد ألاّ أظلَّ تمثالاً من الشمع المحترق أمامها، لكنه لن يفعل وَأَنَّى لهُ أن يفعل؟ هي تَعْلَمُ بعيْنيْها أنّ الوجدَ نَخَرَ قلبي وهو يقدِّمُنِي قرباناً لحبنا المقبور فينا، لكنها تتعمدُ ضربَ رجولتي عَرْضَ الأمواج. ردّدتُ ببلاهة سؤالها دون أن أدري لِـمَ فعلتُ ذلك:
- ألستَ متأكداً أن قلبكَ يريد أن يقول شيئاً؟

ابتسمتْ بضيقٍ وامتعاض:
- لماذا تتحامقُ وتتغابى هكذا أيها الأسمر الـمُتْعِب؟
- لماذا تتحامق وتتغابى هكذا أيها الأسمر الـمُتعِب؟
- هل أصبحتَ ببغاء؟
- أنا عاشقٌ سَيِّءٌ يا لُبنى!
- تعشقُ ماذا يا ابنَ سبعين؟
- ...
- قُلْ، وإلا أطعمتُ صمتَكَ الأهوج بالمزيد من الهراء!

لم أكنْ أدري ماذا سأفعل وماذا سأقول؟ صَمَتَتْ وهي ترسلُ شالها الأحمر على معطفها الأسود، فترسلُ معه قلبي وتلقي به إلى فَكِّ البحر.. على فكرة! معطفُها الأسود هذا هو الذي خبأتْ فيه صورتي الشمسية، وظَلّتْ تسقي قلبها بها في غيابي الطويل عنها وأنا في زاكورة.

يَئِسَتْ مني، قالتْ مثل طفلة وهي تغير مجرى الحديث:
- هلْ رأيتَ سيدي بو الذهْب وعزيب الدرعي وراسْ اللّفعَى؟
- لقد زرناها معاً، ألا تذكرين؟! سيّما حينما كنتُ أعرج إليكِ لِماماً من زاكورة إلى آسفي!
- هل زُرتَ قريةَ الخزَف بآسفي؟
- نعمْ
- وهل أعجبكَ فخار آسفي؟
- قلتُ أنا أيضاً مثل طفلٍ:
- كثيراً.. جِدّاً.. جِدّاً!

تحطَّمَ قلبها مثل الفخار. قالتْ لي عيناها تنوبُ عن ثغرها الـذي يصهرني بعُذُوبَتِه:
- اِقلبِ الصفحة يا معتوه! إلى الثالثة

الصفحة الثالثة

لن أقلبَ الصفحة! لا تُوجدُ صفحةٌ ثالثة، ليسَ لأن بائع حمْص-كامون قد ذَهَبَ، بل لأن الأمواج الخضراء ابتلعتْ عينيْها الخضروايْن، ودفنتْ قلبي اللعين!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها