اللغة العربية فـي الصراع من أجل الهوية

غنيمة الحرب.. ضريبة الحب

محمد حسين طلبي

منذ أن أطلق كاتب ياسين - رحمه الله - مقولته الشهيرة: «اللغة الفرنسية غنيمة حرب»، لم يتوقف الجزائريون وربما غيرهم من أبناء المغرب العربي عن إضفاء الكثير من التأويلات على هذه المقولة مما أفقدها ما كان الرجل يرمي إليه يوم أطلقها والذي لا يتعدى - حسب رأينا - لفت انتباه فرنسا إلى أن لغتها التي يتقنها بعض الجزائريين ستكون إلى جانب بقية أسلحة الثورة الأخرى في مواجهتها ومواجهة إدارتها وعسكرها ونخبتها من أجل تحقيق الاستقلال المنشود.
ثم يأتي المرحوم مالك حداد ويكمل الحكاية بإنهاء أي تأويل أو تفسير للعبارة بفعله العملي المباشر عندما يقرر التوقف عن الكتابة بتلك اللغة بعد الاستقلال، ويرمي بمقولته الأشهر: (لقد حان الوقت اليوم لتكريس الثقافة الوطنية بأداتها الصحيحة.. اللغة العربية).


 

مواجهة فكرية وثقافية واضحة

ما دفعني في الحقيقة إلى كتابة هذه الأسطر هو عمود يحرره الروائي الجزائري (واسيني الأعرج) في إحدى المجلات تحت عنوان «اللغة غنيمة عشق»، فبشكل ما يحاول واسيني أن يجيّـر الأمر إلى اللغة العربية التي يقول بأنه قد حُرم منها صغيراً، ولم يكن تواصله معها سوى عن طريق جدته (الموريسكية) أو في الكتاتيب القرآنية، ويروي في ذلك قصة طريفة مفادها أنه من بين نسخ القرآن الكريم التي كانت موجودة في الكتّاب عثر بالصدفة على نسخة من كتاب «ألف ليلة وليلة»، الأمر الذي جعله يتقن العربية بشكل أكثر (علمية) - إذا صح التعبير - مع العلم أن الدكتور واسيني قد ذكر في مناسبات أخرى عديدة أن تعليمه الأولي كان في الأصل باللغة الفرنسية، وأن إبداعه كان كذلك بها، أما العربية فقد جاءته فيما بعد من خلال اجتهاد خاص نظراً لعشقه الاستثنائي لهذه اللغة كما يقول.
وقد سئل واسيني الأعرج في لقاء صحفي: رغم إقامتك المديدة في باريس لماذا لم تكتب إبداعك بالفرنسية؟ فأجاب: «أعتقد أن اللغة هي الحصن الأول للهوية، وأن الهوية العربية غناها من لغتها».. ويتابع: «لكنني منذ البداية وضعت نفسي أمام سؤال جوهري وهو: ماذا سأضيف لو أنني كتبت بالفرنسية على ما قدمه جيل الأدباء الذين كتبوا باللغة الفرنسية مثل رشيد بوجدرة وكاتب ياسين والطاهر بن جلون ومحمد ديب وغيرهم؟.. أما أنا فعاشق للغة العربية، ورغم ذلك كتبت بعض الأعمال القصصية القليلة بالفرنسية، مثل رواية (حارس الظلال)».

نذكّر هنا بأنّ الدولة الجزائرية الناشئة قد انطلقت جدياً بُعيد الاستقلال مباشرة في التدريس باللغة العربية، وأعتقد أن حلم واسيني قد بدأ يتحقق بالاقتراب من هذه اللغة التي حرم منها في طفولته الأولى. لقد أحزنني كثيراً أن بعض أطفال الجزائر قد حرموا من العربية في عزّ أيام الثورة كذلك، وأن بعضهم الآخر وجد فرصته في تعلمها في مدارس جمعية العلماء التي سدت هذه الثغرة بشكل لافت أيامها إلى أن أغلقتها السلطات الاستعمارية بعد انضمام الجمعية صراحة إلى جبهة التحرير عام (1956).. أقول هذا لأني شخصياً كنت من تلاميذ هذه المدرسة الذين شهدوا المرحلة وعايشوها يوماً بيوم، وما كان تواصلي مع الكتّاب أو مع المدارس الحرة إلا بعد ذلك مباشرة.

هذا التنويه الموجز كان لا بد منه قبل الحديث في الغنيمة التي راح بعضهم - كما أسلفنا - يحملها ويتفنن في تأويلها منذ أن أطلقت.. باختصار شديد: أن يكون أي شيء مادي أو معنوي غنيمة فهذا أمر وارد ومنطقي، لأن التناطح والمحاربة تجران دائماً إلى انتصار تلحقه غنيمة بشكل ما، وقد أستوعب أن تكون اللغة الفرنسية مثلاً والتي هي ملك أصحابها غنيمة حرب فرضتها تلك الحرب أو فرضها الاحتلال الطويل، كما ألمح لذلك واسيني.. لكن كيف تكون هذه اللغة غنيمة عشق (وأي عشق كان بيننا وبين عدونا)؟

 

الأنا التاريخية والآخر الثقافـي

يقول واسيني الأعرج في مقالته: «تظل اللغة الفرنسية أداة تواصل مع الآخر الذي لم يعد آخر، بل صار فينا بوساطة اللغة والثقافة، لقد صرنا اثنين: الأنا التاريخية، والآخر الثقافي».
إننا نعتقد أنّ هذه الأنا التاريخية التي يتحدث عنها قد فرضت نفسها أكثر في مرحلة ما بعد الاستقلال، بالرغم من محاولة بناء الدولة الوطنية على أسس ثقافية وفكرية صحيحة وواضحة بالضبط، كما خطط لها نضال الحركة الوطنية الطويل عندما وقف بالمرصاد في مواجهة المستعمر منذ دخوله البلاد إلى يوم مغادرته.

أما لماذا فشلت النخبة التي تسلّمت الحكم عام 1962 في تحقيق تلك الاستمرارية والاستمرار في الوصول بها إلى النهاية السعيدة، فذلك يرجع إلى جملة الاختراقات الفرنسية التي بدأ التحضير لها عام (1958)، يوم تأكدت فرنسا من استحالة بقائها على تلك الأرض. اختراقاتٌ فعلت فعلها عن طريق شبكة لا متناهية من بقايا (النخبة) التي تسلّمت مشعل أسلافها، وراحت تشكك في كل صغيرة وكبيرة باستحالة قيام الدولة الحرة بعيداً عن الهوى الفرنسي وما يتبعه، ما جعل المناخ الثقافي الواعد أيامها بكل توجهاته العروبية ينهار مع الأسف، ما جعل صديقنا يقول بحزن: «لقد كان الأمر يحتاج إلى جهد مضاعف لجعل هذا الأنا يتوالف مع الآخر»، وكأنه بذلك يخاطب أحد أشهر الاندماجيين الذين يتوسلون فرنسا طويلاً بأن تجعلهم يتوالفون معها عندما قال: «إننا نتكلم الفرنسية ونكتب بها وأظن أننا نحلم بها فلماذا لا تقبلونا في العائلة الفرنسية؟ نحن نطالب بذلك».

 

العربية والنضال الطويل

وكما نعلم أنه وبالتوازي مع جملة المقاومات المسلحة التي واجه بها الجزائريون الاستعمار منذ أوائل دخوله، كانت هناك مقاومة ثقافية لا تقل أهمية عن غيرها تمحورت بالدرجة الأولى حول الدفاع عن الهوية وعن عنصرها الرئيسي (اللغة)، وكيف كانت جهود الجزائريين في احترام لغتهم وحمايتها، بل والافتخار بها.
لقد اعتمد الفرنسيون في البداية على الترجمة، حيث كانت سبيلهم الوحيد لتيسير أعمالهم، فأحضروا معهم مجموعات من المترجمين خريجي مدرسة اللغات الشرقية في باريس، كما كان اليهود – وكالعادة - أهم وسطائهم كذلك.. بل إن الفرنسيين فرضوا تعلم العربية على ضباطهم، ومن يعد إلى سيرة الجنرال (بيجو) فسيجد هذا التوجه واضحاً، واهتمامهم بالعربية هذا كان ضرورياً بالنسبة إليهم لأنها كانت لغة الشعب الذي حاولوا التغلغل بين صفوفه. غير أن هذا الأمر لم يستمر طويلاً نظراً لانطلاقهم بعد فترة في المشاريع المضادة التي ستعمل بالدرجة الأولى على محاربة تلك العربية بين الجزائريين أنفسهم بحجة أن هذه اللغة تقربهم أكثر من الدين الذي يدعو إلى محاربتهم، وكذلك خشية من أن يؤدي استمرار التعليم بينهم بالعربية إلى المزيد من اليقظة والمقاومة، الأمر الذي جعل الجزائريين يقبلون أكثر على لغتهم حتى في البيوت والزوايا التي كانت تفرض عليها القيود، بل ويقبلون عليها بشكل سري أحياناً.

ونظراً لعدم تمكن المستعمر من السيطرة على الأمر عمل على تأسيس ما سمي المدارس (الفرنسية الإسلامية) (FRANCO MOSULMAN)، غير أن العربية وجدت متنفسها الحقيقي في المدارس الحرة التي أطلقها مجموعة من المشايخ الذين عادوا من الأزهر والزيتونة والقرويين.
ورغم القمع وسياسة التجهيل، فإن الجزائريين ظلوا مخلصين للغتهم الوطنية والدينية والرسمية، وطبقوا ذلك عملياً، حيث راحت كل وسائل إعلامهم (صحف ومنشورات وخلافه) لا تستخدم إلا العربية، ومن النادر أن نجد منبراً بغير العربية، وإذا تصادف وأطلقوا أحدها بالفرنسية فإنه لم يكن إلا لتوجيه الرسائل إلى الفرنسيين، وحتى حزب نجم شمال إفريقيا الذي تأسس أصلاً في عمق فرنسا كانت صحفه بالعربية وحدها، وكذلك كانت مدارسه، وقد جاء في أحد بنود برنامجه: «إن تعلم العربية إجباري لأنها اللغة الرسمية للبلاد، والتعليم سيكون إلزامياً ومجانياً بها وحدها».
والشيء نفسه فعله حزب الشعب الذي تأسس على أنقاضه، ومن يعد إلى أدبيات وبرامج هذا الحزب فسيجد غزارة في هذا التوجه، وكل مطالبه في هذا الصدد اعتبرت انتصاراً لكل مبادئ جمعية العلماء التي كان نشر وتقديس العربية من صميم وجودها.. أو لم يقل مؤسسها ابن باديس: «إنني أعاهدكم على أنني أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما».

لقد اتفقت جميع فعاليات الحركة الوطنية الجزائرية بمن فيهم (النخبة) و(الشيوعيون) و(النواب) - وبشكل حاسم - على قضية اللغة العربية، ولو تتبعنا نشاطات رواد الحركة الوطنية المتقدمين الذين واكبوا الاحتلال في بداياته، والمتأخرين الذين واكبوا الثورة الكبرى فسنجد أن قضية اللغة هذه كانت أساسية بالنسبة إليهم، وحتى الصحف القليلة التي صدرت بالفرنسية كانت موجهة إما للشباب الجزائري المثقف بالفرنسية أو (للفرنسيين أنفسهم).. وكان أبرز هؤلاء الشباب: مالك بن نبي، ومصطفى الشريف، وعمار أوزقان، وأحمد طالب الإبراهيمي، وعلي مراد، والشريف ساحلي، وغيرهم، حيث كان دفاعهم عن العربية وخصائصها بالفرنسية أكثر صرامة ووقعاً.
وأما الحزب الشيوعي الذي كان معظم أعضائه من الفرنسيين واليهود فقد أنشأ صحفه بالفرنسية مثل صحيفة (الحرية) أو (الجزائر الجديدة)، وقد كان أشهر مناضليه من الجزائريين (عمار أوزقان) مدافعاً صلباً عن اللغة العربية، وكل كتاباته تفيض اعتزازاً ودفاعاً عنها باعتبارها الرمز الحضاري والمقاوم للأمة.
ومع استمرار ضغط الجزائريين بكل توجهاتهم، وبالأخص في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، أذعنت فرنسا واعترفت بالعربية لغة رسمية لاستعمالها في مختلف المجالات، كما قررت إجبارية تعليمها ومعاملتها معاملة الفرنسية في كل شيء، وإلغاء القانون الذي يعتبرها لغة أجنبية. وبالرغم من التعاون في التطبيق فقد ظلت النخب الجزائرية متمسكة بلغتها، أما الأدباء الذين كتبوا بالفرنسية فلم تكن غايتهم سوى توجيه الرسائل إلى فرنسا بلغتها، وقد ظهر ذلك في أدب غزير ونوعي تعرفنا إليه أكثر إبان حرب التحرير الوطنية، وأقطابه أسماء نالت سمعة كبيرة ليس فقط في فرنسا، ولكن في الأوساط العربية عندما ترجمت أعمالهم إلى اللغة العربية.

بقي أن نقول إن الاستقلال الذي تحقق ذات يوم بالانتصار العسكري على فرنسا ظل منقوصاً وإلى اليوم، وما كان لهذا النقص أن يستمر لولا التوظيف الثقافي الفرنسي الذي أطال الإقامة الثقيلة بيننا، بل تمدد لدرجة أننا أصبحنا رافداً أساسياً من روافد الثقافة الفرنسية في العالم،  ننجب الساسة والمفكرين والمبدعين المدافعين عن هذه الثقافة بلا حساب، بل نوزعهم على العالم أجمع. وهم لا يتورعون عن توظيف إمكانياتهم للدفاع عن جزائر فرنكوفونية خالصة ضاربين عرض الحائط (ودون محاسبة) بكل جهود المسعى الثقافي الوطني الذي امتد طويلاً وعميقاً عبر التاريخ في هذه الأرض.
إن الانكسار الثقافي الجزائري الحقيقي بدأ فعلاً منذ الاستقلال وليس قبله، واستمر في التصاعد إلى الآن، ولنا أن نتساءل: لـمَ كل هذه الاستماتة في الدفاع عن شذوذ يعاكس التاريخ والمنطق باستمرار البحث في كل مرة عن المبررات التي تبقي الوضع على حالته العرجاء التي لا تضيف للحقل اللغوي والثقافي إلا الأحقاد - كما ينهي واسيني عموده -.. لماذا يا ترى؟

لقد دعا المفكر الكبير المهدي المنجرة دول المغرب ذات يوم إلى مغادرة الفرنكوفونية التي لا مكان لهم فيها، لأنها تمس كرامتهم وسيادتهم، فالرجل كان يعلم علم اليقين عواقب ذلك الانتماء الذي سيؤدي برأيه إلى عدوان معرفي قاصم للظهر، وإلى الكثير من الابتزاز والترهيب باسم الحداثة التي تحارب العربية وتمنعها من الانخراط في قطاعات التحديث الحقيقية كالاقتصاد والتقنية والعلوم وغيرها.. والموضوع يشمل كذلك الأمازيغية العزيزة بطبيعة الحال.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 245 (صفحة 14)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها