والشكُ ثالثنا

ريا أحمد

كان معي منذ أن ارتبطت رسمياً بهيثم، وظل معي إلى أن اكتشفت لاحقاً بأني تسرعت عندما تخليت عنه. معرفتي بهيثم تعود إلى أيام الطفولة، فهو ابن الجيران الذي ارتبط بي عاطفياً منذ أن كنّا نلعب في الشارع، كان يخاف عليّ ويعمل على راحتي ويقتطع من مصروفه ليشتري لي كل نهاية شهر شيئاً ما أحبه كالشوكولاته التي كنت أحبها كثيراً أو دفتراً جميلاً أو غيرها من الهدايا التي ما زلت أحتفظ بها حتى بعد أن..
بعد أن أنهى الثانوية حصل على منحة دراسية خارج الوطن بينما أنا أكمل المرحلة الثانوية ومن ثم الجامعة.

خلال تلك السنوات كان بين العائلتين اتفاق على أن هيثم لهدى وهدى لهيثم.

أنا هدى فتاة متوسطة الجمال، الفتاة الخامسة بين بنتين وولدين، والدي كان يعمل في مركز مرموق مهندساً في وزارة الكهرباء، وأمي امرأة لا تختلف كثيراً عن النساء اليمنيات، ولكنها تعرف القراءة، فقد درست إلى الصف الخامس قبل أن تتزوج أبي. وبالمناسبة فأمي امرأة خجولة إلى أبعد حدٍّ، تخجل من البوح بمشاعرها نحونا فلا تقبلنا أو تضمنا إليها وهذا للأسف الشديد ما ورثناه نحن أبناؤها منها.
عندما عاد هيثم من ماليزيا، حيث درس لمدة خمس سنوات، وجد وظيفة دون عناء بعدما درس اللغة الإنجليزية وتخصص في الترجمة الفورية، وبالتالي كان من البساطة أن يجد وظيفة في ظل الحاجة الماسة لبعض المؤسسات هنا لهذا التخصص.
تمت الخطوبة وقبل الخطوبة كان ثمة تردد رهيب من ناحيتي بالموافقة، فأنا لم أشعر بأني أحبه بيد أنه كان يعجبني، ولكن لم يكن هذا السبب الرئيسي في ترددي وإنما كان السبب الرئيسي هو سفره للدراسة.
في قرارة نفسي يقين بأن من المستحيل أن يذهب شاب للدراسة دون أن تكون له علاقة عاطفية هناك. ولا سيما إذا كان الشاب يملك مواصفات كمواصفات هيثم.
شاب وسيم، لبق، اجتماعـي ومحبوب، الابتسامة دائماً تعلو وجهه. فهل من الممكن أن لا تجذب هذه المواصفات أيّاً من الفتيات هناك؟ هل يعقل ألاّ تلفت نظره أي من الفتيات هناك؟ الاجابة بالنفي هي المستحيل بحدّ ذاته من وجهة نظري على الأقل.
ونظراً لكل تلك المعطيات كان من الطبيعي أيضاً أن أتردد بالموافقة لتبدأ سلسلة من البحث والتدقيق لم تنته حتى بعد أن أنجبت اربعة من الأبناء.

منذ الأيام الأولى لزواجنا وأنا أرصد بكل دقة نظراته لقريباتي وقريباته، وأفتش في جيوبه وأشيائه على أمل أن أجد ما يثبت بالدليل القاطع أني تزوجت زير نساء.

الخيانة من وجهة نظري ليست أن ينام الرجل مع امرأة على سرير واحد. الخيانة هي أكبر من علاقة الجسد الآثمة، الخيانة هي بالنظرة المحرمة لنساء الغير والخيانة هي التفكير في تفاصيل امرأة أخرى، جمالها..أخلاقها.. تصرفاتها كل ما يخص امرأة سواي.

الشك كان عنصراً فعالاً في عائلتي الصغيرة، دخل بمحض إرادتي وصرت ألعوبة بين يديه. الشك صار حليفي في المعركة التي خضتها بسرية تامة ضد رجل صار زوجي وأبا أبنائي.

لم يغفر له عندي حبه الشديد لي، ولا خوفه على مشاعري، ولا دأبه الواضح من أجل راحتي.

عندما يسمع أغنية قديمة يستمتع بسماعها، أشعر بأنه يستذكر علاقة عاطفية ماضية، وعندما يتحدث عن مسلسل قديم شاهده في ماليزيا يخيل لي أنه كان يتابعه مع صديقة سابقة، وأشياء كثيرة لا شك وأن أي امرأة أخرى ستشعر بها.
كنت أشعر بأن ثمة علاقة بينه وبين إحداهن عندما يجعل هاتفه المحمول صامتاً وعندما يتصفح رسائله كل دقيقة، وفجأة يدخل الحمام ليظل أكثر من ساعة والموبايل معه.
شعوري كان يزداد عندما أتصفح الرسائل في هاتفه فأجدها محذوفة أولاً بأول، وكذلك المكالمات الواردة والمستقبلة والمفقودة ملغاةٌ أولاً بأول. لم أجد لهذا تفسيراً سوى ما لا يريدني أن أكتشفه من خلال الرسائل والمكالمات.

ما مناسبة هذا الكلام الآن؟
مناسبته أنه مضى على ارتباطي بهيثم ما يقارب اثنتي عشرة سنة. صارت ابنتي عروساً وما زلت أبحث عما يدين هيثم، والحقيقة أنني فشلت فشلاً ذريعاً في أن أجد ما يدين زوجي على الخيانة ولو بتفكيره.

وأخيراً اعترفت لنفسي بأني ظلمت زوجي وظلمت نفسي عندما كنت أشك في مشاعره وأتصوره إنساناً لعوباً، هيثم كان أذكى من أن يضيع حياته الزوجية بعلاقة عابرة ولو بنظرة آثمة.

هذا ما توصلت إليه بعد اثني عشر عاماً من البحث والتقصي والتدقيق السري لأغراض هيثم.
قناعة أراحتني أخيراً لمدة لم تزد على أسبوع واحد؛ حيث اكتشفت أن الشك الذي دخل معي وأنا عروس ولازمني حتى بعد أن صرت أمّاً لعدد من الأبناء لم يكن جزءاً من شخصيتي وعدم ثقتي بنفسي وجمالي وجسدي وأخلاقي، ثقتي بنفسي كفتاة أولاً وسيدة ثانياً وأمٍّ ثالثاً وأخيراً.

ها أنا اكتشفت مدى حرفية الرجل في أن يجول ويصول بعلاقته النسائية دون أن يترك ما يثير الشك حوله.

بعد هذه السنوات الطويلة، من جديد ألهمني تفكيري هذه المرة أن أذهب لشركة الاتصالات فأخذت بطاقة هيثم دون علمه وذهبت للشركة طالبة منهم فاتورة تفصيلية برقم هيثم، موهمة إياهم بأنه رقمي، ولكنه مسجل باسم زوجي، واطمأنوا بعد أن أعطيتهم البطاقة الشخصية الخاصة بهيثم، والبطاقة العائلية التي تثبت أني زوجته فعلاً. وأخيراً الفاتورة التفصيلية بأرقامها الكثيرة والرسالة المهولة. أخذت الأرقام وذهبت إلى مركز اتصالات أتصل برقم تلو الآخر لتكون المفاجأة أيها السادة بأنها أرقام…

أستغفر الله العظيم (إن بعض الظن إثم)، ولكن ربما الفتيات صاحبات الأرقام جعلن هناك من يرد على هواتفهن لأن الرقم المتصل غير معروف.. هذا احتمال قوي.. اقتنعت به لدرجة أنني عدت كسالف عهدي تماماً كالمفتش كونان أفتش وأدقق وأجعل الوهم المحرض الرئيسي للشك.. جزء خفي استطعت بحرفية عالية أن لا أظهره لهيثم إلى حين الإثبات بالدليل القاطع أني لم أظلمه وأن شكي فيه ليس باطلاً.

ربما أحتاج لسنوات كثيرة أخرى كي أجد الدليل الذي أبحث عنه، أثناء ذلك يجب ألاّ أدع الشك يطفو للسطح كي لا أجد نفسي وقد خسرت عائلتي، فقط لأن ثمة فكرة سيطرة عليَّ منذ الساعات الأولى لارتباطي بهيثم!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها