الأدب النسوي وقصيدة الواكا اليابانية

نور طلال نصرة

في عصور كانت الكتابة فيها حكراً على رجال البلاط في اليابان، انبثقت أبجدية جديدة للشعر من رحم أنثوي أظهر إبداعاً جاداً في الأدب عندما بدأت اليابان تنفض عن كاهلها ثقل الحضارة الصينية وتشق طريقها ضمن معترك ثقافات الشرق الأقصى. إنه عصر هييان كما يتحدث عنه الكاتب «أوكا – ماكوتو» في كتابه (محاضرات في التقاليد الشعرية اليابانية) الذي نقله إلى العربية الدكتور محمد عُضيمة وصدر عن دار التكوين في دمشق.
تلك المرحلة كانت من أهم وأغنى المراحل تاريخياً وأدبياً، لا سيما مع ظهور أسماء في الشعر والنثر مثل «سوغاوارا- نو- ميتشيزانيه» وهو أعظم وأكبر شاعر ياباني كتب «الكانشي» أي «الشعر باللغة الصينية» في عصر هييان، كما كتب أشعار «الواكا» المكتوبة باللغة القديمة الخاصة باليابان.

 

***
 

بدأت مسيرة «ميتشيزانيه» الشعرية وهو في عمر الحادية عشرة عندما كتب أول قصيدة أدهش بها والده، وأصبح هذا الشاب بعد عدة سنوات دبلوماسياً، مثقفاً وضليعاً في البوذية والكونفوشية. حاز لقب دكتور في الآداب وعمره 32 عاماً، وهذا أمر نادر في ذلك العصر. ونتيجة تغيير مفاجئ في تعيينات البلاط تم إرساله إلى مكان بعيد عن العاصمة ليكون حاكماً على منطقة «سانوكي» أي «كاغاوا» حالياً في جزيرة «شيكوكو»، وبهذا احتك بشكل مباشر مع الناس لأول مرة، واستطاع أن يكون على مقربة من بؤسهم، مما انعكس على نتاجه الشعري وأدّى لتطوّر ملحوظ، فبدأت تظهر في قصائده ملامح الوعي للفساد المنتشر بين موظفي البلاد.
كتب «ميتشيزانيه» سلسلة قصائد بعنوان (عشر قصائد للبرودات الأولى)، تتناول كل قصيدة من هذه السلسلة موضوعاً معيناً مطلعه «لمن ستكون البرودات الأولى؟» وهو عن الحياة السائدة آنذاك من قسوة الضرائب وحال التشرد والضياع، فيقول:
لِمن ستكون البرودات الأولى؟
لحافي قدمين يعود إلى بلدته؟
لم يعُد له أثر في السجل المدني:
اسمهُ يخون جذوره.
تربة قاحلة في بلاد عقيمة
جسد أنحله التشرّد
بلا هدف ولا مأوى سيتوه الرجل
إلاّ إذا ناله عطف غني.
 

الأدب النسوي فـي عصر هييان:

زخرت تلك المرحلة، وهي الأربعمئة عام الأولى من عصر هييان، بالأديبات والشاعرات لحدّ اعتباره العصر الذهبي لأدب النساء، فبرزت أسماء مثل: «إيزومي - شيكيبو» ، و«ساي شوناغون» و«موراساكي - شيكيبو»، ولا تزال أعمالهنّ مهمة وتحتفظ برونقها الأدبي في اليابان حتى بعد مرور ما يقارب الألف سنة، كما تعتبر من كلاسيكيات الأدب العالمي. لقد ظهرت هذه الأعمال بعد تطوّر نمط الكتابة السائد آنذاك «الكانشي والكامبون» (وهو شكل هجين صيني  ياباني، وكان حكراً على رجال ومثقفي ذالك العصر من موظفي البلاط ودبلوماسييه) إلى حروف «الكانا» التي تحتوي على أبجديتين مقطعيتين مختلفتين هما: «الهيراغانا» و«الكاتاكانا»، وبدأ استخدامها فعلياً مع بداية القرن الثامن. ساهمت الكاتبات اليابانيات آنذاك في تطوير هذا النمط من الكتابة، وأسرعن لاكتساب هذه اللغة واستخدامها على نطاق واسع لدرجة إطلاق تسمية «أونا- ديه» على ذلك العصر، أي «يد امرأة» ويقصد به «كتابة نسوية».
تلازمت حروف «الهيروغانا» مع قصيدة الواكا لقدرتها الاستثنائية على تدوين الكتابة النطقية لهذا النوع من القصائد الذي يعتمد بالدرجة الأولى على القراءة بصوت مرتفع، فكانت قصائد الواكا أهم طريقة للتعبير عن الحب، ولهذا أتقنها الرجال بسرعة فائقة. لقد تغلغلت قصيدة الواكا إلى الحياة اليابانية ليس لاعتمادها على الأحاسيس السمعية ووساطتها في العلاقات العاطفية بين الرجال والنساء فحسب، بل  لدورها في تمكين الأواصر الاجتماعية في البلاط الإمبراطوري، مما جعلها تستمر حتى وقتنا هذا على الرغم من تعرضها لحركات تجديد منذ بداية القرن العشرين، حيث أصبحت تعرف باسم «قصيدة تانكا» أي القصيدة القصيرة التي لم تكن موجودة اليوم لولا النساء. ومن أهم الإنجازات الأدبية في القرن العاشر الميلادي ديوان (قصائد الواكا القديمة والحديثة) المهدى إلى الإمبراطور «دايغو» والذي يضم أكثر من عشرة آلاف قصيدة واكا.
من أهم شاعرات تلك المرحلة شاعرة ديوان الألف صفحة «كاسا- نو- إيراتسوميه» التي عاشت في منتصف القرن الثامن، أي خلال عصر «تامبيو»، ولها 29 قصيدة في ديوان الألف صفحة الذي يمتد على مدى 350 سنة تقريباً. جميع قصائدها عن قصة حبها وعشقها الوحيد للشاعر «أوتو – نو - ياكاموشي»، وهو أشهر شاعر في عصره، كما أنه لعب دوراً أساسياً في وضع وإعداد ديوان الألف صفحة، وله 470 قصيدة أي أكثر من عشر الديوان:
أسرار حبّي
أتكونُ قد أفشيتَها؟
رأيت في الحلم
علبة الحلي حيث أصفّ أمشاطي،
مفتوحة على جميع الرياح.

تظهر حساسية الشاعرة في هذا المقطع بالإضافة لحزنها الواضح، حيث تتحدث عن قصة حبها وتذكر الأمشاط التي كانت لها رمزية خاصة لنساء ذلك العصر اللاتي كن يتميزن بشعورهن وجدائلهن الطويلة. ومن الواضح أنها كانت ترغب في الحفاظ على أسرار هذه العلاقة كونها من شاعرات البلاط الإمبراطوري.
وفي بداية القرن الحادي عشر لمعت شاعرة أخرى في عهد الإمبراطور «إيشجو» هي الشاعرة «إيزومي شيكيبو» التي حفِلت قصيدة الواكا لديها ببعد تأملي فلسفي. كانت هذه الشاعرة محط أنظار الرجال كسيدة شرف في البلاط الإمبراطوري الذي كانت العلاقات الاجتماعية السائدة فيه آنذاك تقتضي ألا يعيش الزوجان تحت سقف واحد، الأمر الذي كان يوفر استقلالية كبيرة للرجال والنساء في تفاصيل حياتهم ويُسهل نشوء العلاقات الغرامية ويُحتّم كتمان أمرها.
في هذا المقطع الشعري تذهب الشاعرة بخيالها لما تريد أن تحتفظ به بعد الموت، وهو آخر موعد غرامي مع حبيبها، وبهذا تتمرد على الأفكار البوذية الأصلية التي تقول بأن على الإنسان التخلص من كل الرغبات قبل ذهابه إلى عالم الأموات، فتقول:
كي أستطيع في العالم الآخر
أن أتذكر
هذه الدنيا،
أسعدني مرة ومن جديد
بأن تأتي لرؤيتي.
مستغرقة في الأوهام
اعتقدت أنني رأيت قرب المستنقع
في طيران الحباحب
وفي الوادي، بعيداً من جسدي
روحي المتشردة.
 

شعر المشهد وتحفّظ الشعر الياباني فـي تعبيره عن الذات:

لا يتيح الشعر الياباني توسيع خصائصه الشعرية بسبب قصره الذي يعتبر ميزة أيضاً، حيث إن قصيدة الواكا، وهي أطول شكل شعري لا تتألف سوى من 31 مقطعاً صوتياً. من هنا وجد الشعراء اليابانيون مدخلاً يتيح للشاعر وصف ما حوله بدلالة رمزية تشير لعوالمه الداخلية من خلال تحميل كلمة واحدة دلالة أو دلالتين أو ثلاث دلالات لإثراء قصيدة الواكا، يسمى هذا الصنف «شعر المشهد»، وتعتبر الشاعرة «شوشوكي – ناينشينو» من أهم من كتب شعر المشهد في ذلك الوقت:
لا أثر لخطوات
فوق أعشاب الحديقة.
لكن صوت الجدجد خافت
كأنه مخنوق
تحت قطرات الندى.
تتحدث هنا عن انتظارها لأحد ما وترمز له بالجدجد (وهو حشرة تعيش في الصنوبر)، الجدجد المخنوق تحت قطرات الندى، أي دموع الشاعرة الحزينة. وهنا تمثيل رائع للمشهد الشعري الذي يجمع بين عالم الطبيعة وذات الشاعرة في آن معاً.
شغلت «شوشوكي- نايشينو» مكانة مهمة في عالم الشعر، وتختلف عن الشاعرتين السابقتين بتاريخها وأعمالها، كما يشير الكاتب إلى أنها صاحبة موهبة خاصة. هي ابنة الإمبراطور المعتزل «غو - شيراكاوا» الذي كان يميل للشعر الغنائي الشعبي، وقد أنجز مختارات تحت عنوان: «الديوان السري لغبار العوارض»، ويضم هذا الديوان الأغاني الشعبية والفولكلورية للديانتين «الشنتوية والبوذية» التي كان الجميع يدندن بها آنذاك. عاشت هذه الشاعرة في وسط من الكآبة والحزن والوحدة بفعل الحروب التي قام بها المحاربون القدماء للسيطرة على السلطة، والتي كانت كفيلة بإغراق اليابان في بحر من الدماء، ما جعلها رهينة لهذا البؤس الذي ظهر واضحاً في قصائد الواكا التي كتبتها. إلاّ أنها من الشعراء القلائل في تلك الفترة ممن كتبوا شعر المشهد وامتلكوا أدواته جيداً.
شعر المشهد هو «شعر الطبيعة» يقابله تيار الرمزية في أوروبا، إلا أن شعراء اليابان أظهروا باكراً ميلهم لعناصر الطبيعة وإدغامهم للحواس في قصائدهم، وسبقوا شعراء الرمزية في تناولهم هذه المواضيع، لكنهم عجزوا عن إظهار فرديتهم الخاصة بسبب غياب الفاعل في بنية الجملة الفعلية في اللغة اليابانية، وهذا عامل إضافي للغموض في شعرهم، يضاف له انتماؤهم إلى الطبقة الأرستقراطية، مما يفسر لنا غياب المفردات الإيروتيكية في قصيدة الواكا على عكس الشعر الغنائي الشعبي الذي تناول مواضيع الحب ورغبات الجسد بشكل صريح.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 45)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها