تحولات المكان فـي (الجميلات الثلاث) لفوزية شويش السالم

محمد فريد أبو سعدة



«الجميلات الثلاث» - صدرت عن «دار العين» للشاعرة والروائية فوزية شويـش السالم
 

 

تبدأ الرواية بالتلميذة (توناي) رسامة المدرسة، والمكرمة من وزارة التربية والتعليم في كل عام  مطلوبة للناظرة، متهمة باختراق التابو، حيث تعاقب بسبب كلمة في قصيدة لامرئ القيس، لم تؤلفها، وبسببها تُغلق مكتبة المدرسة لمدة أسبوعين، ويتم جرد الكتب وتقليص عددها، ونقل مسؤولة المكتبة، والأمر بجعل الاستعارة تتم تحت المراقبة!

«الفن والقراءة فتحت لها عوالم ساحرة تدخلها بإرادتها وباختيارها، يحضر لها أبوها ما تدون اسمه على ورقة تتركها له على طاولة الأكل، يشتري الكتب دون أن يعرف محتواها، أو إن كانت صالحة لعمرها، أو غير صالحة».

كانت هذه الصدمة الأولى، الصدمة الثانية عندما شعرت بالعزلة، تتمنى أن تكون جزءاً من الطفلات حولها، المتصاحبات بتفاهم المنسوج المشترك في لغتهن وتراثهن، فهي وحيدة كخيط خارج عن المنسوج، واقف في عزلة لغته وتراثه المختلف عنهن، كانت تستشعر الشر في كلمة «البدليات» التي يتنابذ بها البعض أحياناً، إذ كانت تشير مستهزئة إلى عدم نقاء وصفاء الدم الكويتي في شخصية المتحدث إليه، وتحيله إلى كائن شبحي من كوكب بعيد لا ينتمي إلى فصيلة الدم النقية الخالية من اختلاط الأعراق، إنها تحيل المرء إلى منشئه وأصله وتعدد جيناته وهوياته.

ستتحرر بالرسم والقراءة من سجن الاختلاف، ورغم إيمانها بأنه لم يعد يقلقها أن تكون الخيط الخارج على النسيج، إلا أن البحث عن الهوية صار هاجساً ملحاً استقطب حياتها من هذه اللحظة!

رواية (الجميلات الثلاث) لفوزية شويش السالم مبعثرة الأماكن، ومبعثرة التواريخ، كما تبعثر أوراق اللعب ولا يمنع ذلك بالطبع من أن هناك العديد من طرائق الترتيب أمام اللاعب ليربح!

يمكن للقارئ مثلاً أن يرتبها زمنياً، ويمكن أن يرتبها جغرافياً، ويمكن أن يدعها كما هي، كل الترتيبات تفضي إلى الهوية كما تؤدي كل الطرق إلى روما.

هذا الترتيب، رغم ما قد يؤدي إليه من التباس أحياناً، يجعل الهوية وردة تتفتح أمام القارئ بالحركة البطيئة، ويفعل نفس الشيء مع شخصيات الرواية، إذ نراها في تماهٍ دالٍّ مع المكان والزمان، حيث يصبحان كضربتي ريشة رسام، تجعل من البورتريه أكثر حيوية، وتنعكس عليه روح المكان وما يضفيه عليها من هويته.

 

تحولات المكان

فوزية السالم، لا تقدم في الجميلات رواية تاريخية، ترصد فيها تحولات الأمم من التفكك والتوحد والسقوط والقيام، في فترة تمتد إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى بقليل، وما بعد الحرب الثانية بقليل أيضاً، ولا رواية أجيال، ترصد فيها مصائر قبيلة من قبائل شمر في نجد، خلال هذه الفترة المشتبكة من التاريخ، ولا هي رواية في التحليل السيوثقافي لمفهوم الهوية، أو التحليل النفسي للشخصيات، إنها كل هذا معاً مضروباً في خلّاط مخيلة شعرية لا تخطئها العين في السرد، ولا تستنكف الظهور في العلن!

كل هذا مع وعي فنان تشكيلي، من الانطباعيين، مغرم بضربات يتخيل الرائي المتعجل أنها عشوائية، لكنه ما إن يبتعد قليلاً حتى يرى المشهد حيّاً يتنفس في بهاء.

عبد القادر، الذي رحل مع أبيه، وهو بعد في الثامنة من عمره، سيكبر في المدينة القديمة في إسطنبول، حول جامع السلطان أحمد، أدخله والده المدرسة الحميدية للبيطرة ليتعلم مهنته، وساعد أباه حتى مات غطفان ودفن في تركيا، بدأت التغييرات في السلطنة، وأزيح السلطان عبد الحميد، عندئذ استجاب عبد القادر إلى طلب حاكم إمارة جبل شمر بالعودة إلى البلاد، سيرحل إذن تاركاً ابنه يوسف، الذي على وشك أن يصبح ضابطاً في الجيش، وابنته نورباندو، التي على وشك أن تمنحه حفيده الأول، أخذ شهاب وعثمان وزوجته زينب خانم ابنة القاضي في رحلة عودة تستنقذ من النسيان الطريق بحيواته الصاخبة الحية في البوسفور، أو في محطة (حيدر باشا) بقطار الشرق السريع، مع تراكض المسافرين للبحث عن أرصفة قطاراتهم، وارتفاع صفارات كمسارية القطارات القادمة والمغادرة، ثم محطة دمشق، حيث تفاجئك الجلبة، وتنوع اللهجات واللغات واختلاف الثياب وأغطية الرأس، فبعضها على شكل عمائم الدراويش، وبعضها مفارش ومناديل كبيرة تلفها أحزمة، وإذا سألت قيل لك: حجاج بيت الله من البوسنة وألبان وشيشان ومن أذربيجان وداغستان وإيران وأتراك وعرب ثم يردف قائلاً: سلطاننا العظيم سهّل طريق الحج، أخيراً يعلن الكمساري الوصول إلى المدينة المنورة ونهاية رحلة سكة قطار حديد الحجاز بعد مسيرة خمسة أيام نهارية، الناس يتحركون بنشاط في مدينة منارة بالكهرباء وتربطها شبكة هواتف وتلغراف مع دمشق ومحطات القطار الرئيسية، ويقول عبد القادر متفاخراً لزينب خانم: إنها محافظة مستقلة مرتبطة مباشرة بوزارة الداخلية العثمانية.

ثم تبدأ رحلة أخرى، بدائية وبدوية شاقة، من المدينة إلى حائل. رحلة تعاني فيها زينب ركوب «المحمل» الذي يخضخضها، فيضيف إلى حزنها على افتقاد أولادها وأبيها المريض، إرهاقاً وإحساساً فادحاً بالغربة، لذا ابنة المدينة هذه، الوحيدة والمدللة لن تحتمل أكثر من ثلاث سنوات في حائل وتموت زينب خانم مصطفى أوجلو وهي بعمر 27 سنة!

الراوية محتارة، من أين تبدأ النبش في قبور الماضي، ليس هناك إلا تيه واسع وإعتام وتكهنات وأحاجٍ، جعبتها ليس فيها إلا حكايات ومشاهد من ذاكرة والدها عثمان عبد القادر، رواها لها، ولم تتقصها منه بدقة التفاصيل. 

ثم تأتي الرحلة الثانية من حائل، لكنها هذه المرة إلى الكويت، إنها رحلة عثمان بن عبد القادر، حفيد الجد الأكبر غطفان، وقف هذا الغازي بسنواته الـ15 مع أمير البلاد، و50 رجلاً في برج «مشرفة» سنة 1921، يرصد سقوط مدينته واتخاذ قرار التسليم، قرأ الملك عبد العزيز بن سعود المكتوب، وقال في نفسه الآن حكمت نجد، وأخذهم معه إلى الرياض، مع هذا القرار المأساوي، سيقلب دفتر حياته، سيخرج من نجديته ليرتدي رداء موطنه الجديد في الكويت، سيمضي فيها شبابه وشيخوخته حتى يموت فيها، من أنت يا أبي.

 هل نراهن على حائل كمقياس لمواطنته، حيث عاش ومات بلسان لهجتها، لم يتحدث باللهجة الكويتية رغم أن الكويت كانت موطن إقامته الأطول عمراً، أم أن الرهان على إسطنبول المغروسة في قلبه مثل زهرة العمر الجميل، وكانت زيارتها آخر أمنيه له قبل وفاته وتناجيه (توناي):

من أنت يا أبي؟

هل أنت التركي، المتشبعة روحه بالحضارة العثمانية، وبأعلى نماذجها الفنية والمعمارية، التي غذت مخيلتك برهافة التذوق الفني منذ طفولتك فيها، أم أنت البدوي النجدي من حائل، العائش كمقاتل على العنف والمغزى؟ 

هل أنت التاجر ابن المدينة، المحب للسفر والسهر وسماع الأغاني ومشاهدة السينما، وأن ما تبقى من البدوي فيك هو حبك للقنص ومطاردة الغزلان وطيور الحبارى؟

من أنت يا أبي؟

اللهجة واللغة تحدد رتبة متحدثها وقيمته وشكله ومنشأه وتاريخه وجغرافيته وتراثه وعاداته وتقاليده، كلام والدي يعكس واقع نشأته بكل اختلافات حضاراتها، سواء كانت منطوقة كلغة، أم صارت أعمالاً وأفعالاً وتصرفات وعادات وتقاليد، أبي تركي الولادة، سعودي الأصل والمنشأ، كويتي الاختيار والإقامة، بكل سلاسة وعفوية تتحرك هذه الشخصيات، لتعيش أدوارها بمجرد وجودها في الواقع الذي يستدعي شخصية من هذه الشخصيات.

كنت أغبطك وأتمنى لو كان باستطاعتي التوازن والتكيف والتعايش بيني وبين نفسي مثلك.

ولأنها تحررت من العزلة بالقراءة فقد تماهت مع شخصيات رواية «عشيق الليدي تشاترلي» وتورطت مع عائلة «الأخوة كرامازوف»، ومع أبطال «وليم فولكنر» و«غوستاف فلوبير» وجوته وسارتر وسيمون دي بوفوار، وانعكس ذلك على طريقة تجسيدها للشخصيات، فأضافت وحذفت وخرجوا من باب المخيلة على هذه الهيئة التي تمزج الواقع بالخيالي مقدمة سيرة غطفان ومصائر أبنائه، بل تقدم في رحلة إلى حائل بانوراما للأماكن في إمارة شمر القديمة، أثناء تبعيتها للدولة العثمانية، وبعد أن صارت في حكم السعودية، مستعينة بصور التقطتها ما بين عام 1913 و1940 مستشرقة إنجليزية، متتبعة خطى والدها فنرى بعينيها ومن خلال الصور ما أبقته الأيام وما أضافته، نرى تحولات حائل بين زمنين زمن العثمانيين وزمن السعوديين، فكأنا نخبّ في الصحراء مرة، وندخل في «كارت بوستال» ملون مرة، إنها صيرورة المكان وتحولاته بين حضاراته الثلاث إمارة شمر القديمة وحضارة العثمانيين وحضارة السعوديين، وما تعكسه على أبطال الرواية من جينات الهوية، وتقدمهم كأشخاص أحياء، يتحركون أمامنا بهذا الشكل الفاتن.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 245 (صفحة 54)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها