الحرية قانون الحياة

د. محمد بوراس

كانت الحرية وستبقى موضوع نقاش دائم، لكونها قضية وجود الإنسان، فبدونه لا معنى للإنسانية، لكن في الوقت نفسه، الحرية مسؤولية كبيرة، فبها يمكن البناء وبها كذلك يمكن الهدم. وهذا ما يرجع إلى طبيعة تفكير المجتمعات ونضج وعيها، وتبقى الحرية بمثابة أوكسجين للذات الإنسانية، ولتسليط الضوء على هذا الموضوع نتوقف مع الباحث في علم النفس أنس عبدو شكشك.

لقد اعتبر الكاتب أن كلمة الحرية من أكثر المعاني تأثيراً في الحياة الإنسانية، وهي صفة مميزة للكائن الحي الإنساني عن غيره من الكائنات، شأنها في السلوك شأن العقل واللغة، ميزة لا نجدها عند الكائنات ذي الطبيعة الغريزية والسلوك الآلي المحدد، لذلك نجدها من أكثر المفاهيم تعقيداً؛ لأنها تتضمن في معناها جوانب متعددة لأنواع الحرية.

ومن هنا، فمشكلة الحرية "من الوجهة الفلسفية هي مشكلة الاختيار والجبر، وقد أصبحت بمثابة دراسة شاملة للوجود الإنساني بأسره، وعلى هذا نجد أن "لافيل" يقرر أن وجود الذات لا يمكن أن يعرف إلا بأنه حرية ما دامت ذاتنا ليست سوى قدرتنا وما دام وجودنا هو وجود إمكانياتنا الخاصة. فليست الحرية هي مجرد إشكال نظري يثيره العقل الإنساني الراغب في المعرفة على سبيل الاستطلاع، حتى يعرف ما إذا كان حراً أم مجبراً؛ وإنما هي مشكلة حيوية لا تنفصل عن وجودنا نفسه من حيث إن الوجود الإنساني إن هو إلا وجود حرية"1

فما هي الحرية إذن؟

الحرية حسب الكاتب، هي قدرة على الفعل مع انعدام كل قسر خارجي أو داخلي متحققة بالإرادة، وهي عبارة عن ملكة الاختيار أي قدرة على تحقيق الفعل دون الخضوع لتأثير قوى، سواء كانت تلك القوى ذات طابع عقلي كالبواعث والمبررات أم ذات طابع وجداني كالدوافع والأهواء، يقول الكاتب موضحاً: "ونحن هنا نقف أمام حرية نفسية تعبر عن انعدام كل ضرورة باطنة وامتناع كل قسر نفسي، سواء كان مبعثه العواطف أم التصورات أم الإدراكات وغيرها، فالحرية النفسية هي المقدرة على الاختيار حينما نكون أمام فعلين مختلفين، والاختيار كما عرفه بعض مفكري الإسلام هو: إرادة تقدمتها روية مع تمييز. أما الفعل على حد تعبير الغزالي هو ما يصدر عن الإرادة الحقيقية، بينما الفاعل هو من يصدر منه الفعل مع الإرادة على سبيل الاختيار ومع العلم بالمراد"2. وإذا رجعنا إلى نظريات الفلاسفة في الحرية نجد لها أربع مفاهيم هي:
1- حرية الاختيار القائمة على الإرادة المطلقة
2- الحرية الأخلاقية أو حرية الاستقلال الذاتي 
3- حرية الحكيم أو حرية الكمال وهو ذو طابع معياري مثالي يجعله أكثر سمواً وشرفاً، وحرية الكمال هي الصفة التي تميز ذلك الحكيم، الذي استطاع أن يتحرر من كل شر ومن كل كراهية ومن كل رغبة، أي حرية الفيلسوف الذي تحرر من عبودية الأهواء والغرائز والجهل.
4- الحرية النفسية وهنا يكون الفعل الحر روحياً تلقائياً، ويتصف به شعور يعبر عن أعمق أعماق ذاتنا.

إن الانفعال موجود لدى الإنسان إلى جانب الفعل والتجربة النفسية في الحرية قدرة المرء على التأثير في جسمه والتحكم في أهوائه وانفعالاته، وهي بمثابة التجربة الأساسية التي فيها ندرك حريتنا ومعنى هذا –بتعبير الكاتب- أن الحياة الإنسانية تبدأ حيث تنتهي الحياة الحيوانية، أي حيث يبدأ الشعور بالذات أو التجربة الباطنية، التي فيها تدرك الذات نفسها على أنها قوة فاعلة وإرادة حرة، فالإنسان لا يحيا حياة إنسانية خالصة إلا بقدر ما يتحرر من الضرورة العمياء، التي يغلب فيها الانفعال على الفعل.

ما هي الجبرية؟

لقد ظهرت فكرة الجبرية عند اليونان على صورة القدر باعتبار أنه لا بد لكل إنسان من أن يخضع للقدر أي للجبرية، وكان الاعتقاد أن الضرورة كامنة في الطبيعة، وإذا توصل الحكيم إلى فهم قانون الأشياء، أو استطاعت إرادته أن تندمج في تلك الإرادة الكلية التي تحدث كل شيء؛ فإنه لن يكون عندئذ مجرد عبد أسير بل سيكون له دور فعال في مملكة الطبيعة؛ لأنه سيصبح عندئذ حراً.

إن القائلين بالجبرية "يتصورون وجود علة كونية شاملة هي التي تحقق إرادتها الخاصة، بغض النظر عن إرادة الإنسان ومشيئته، بينما يذهب القائلون بالحتمية إلى أن كل فعل إنساني محدد بسابقة من أحداث وأفعال بدنية كانت أم نفسية"3. فاسبينوزا يقول إن ما يحدث في الوجود إنما يصدر ضرورة عن طبيعة الله المطلقة، ويقول إن الإنسان الحر إنما هو ذلك الذي يعمل وفقاً لنصائح العقل، ومعنى هذا أن اسبينوزا يؤمن بنوع من الجبرية الخلقية عندما يؤمن بوجود بواعث عقلية خلقية تدفعنا إلى العمل. أما عند "هيوم" فإن الضرورة تتحكم في الأفعال الإنسانية كما تتحكم في الأحداث الطبيعية، بدليل أن هناك اطراداً في سلوكنا يسمح بتقرير وجود نوع من الارتباط بين بواعثنا وأفعالنا. 

أما "يسبرز" فالحرية الإنسانية عنده ليست حرية مطلقة، بل هي حرية مجاهدة لا بد أن تمر بمرحلة من الصراع والتناقض حتى تصل إلى مرحلة الوجود الضروري، التي فيها يصبح اختيارها لذاتها مجرد تعبير زمني عن حقيقتها الأزلية الأبدية، وهكذا يقرر "يسبرز" أن ثمة ضرورة باطنة لا بد أن يحياها المرء، وليست فكرة المصير سوى مجرد تعبير فلسفي عن تلك الضرورة الوجودية التي لا تنفصل عن حريتنا. وهنا يعلق الكاتب قائلاً: "والواقع أن النشاط الإنساني لا يمكن أن يتحقق إلا في عالم محدود، علينا أن ننتصر على ما فيه من عقبات، فالفعل الإنساني يَفترض دائماً مادة تُمارِس فيها الإرادة نشاطها، ومقاومة تجتهد في أن تتغلب عليه ولولا ذلك لما كان للحرية الإنسانية أي معنى"4.

وفي الختام يؤكد الكاتب على أن الذات لا تستطيع أن تخلق المعنى من العدم، كما أنها لا تبدع القيم بمحض حريتها، ولكن اختيار الذات هو الذي يتحكم في مصير الفرد، وهذا الاختيار هو الذي يخرج الذات من حالة اللاتعيين إلى العالم الواقعي، بحيث تصبح محدودة بمقتضى الإمكانيات التي عملت على تحقيقها، وفي النهاية ماذا عسى أن تكون الحرية إن لم تكن تلك القدرة على خلق الجدة والعمل على تحقيقها، بل خلق وجود خصب يكون من شأنه أن يجيء نسيجا وحده وأن يحقق في الكون ما لا سبيل إلى تحقيقه بدونه.

لا بد في الأخير من التأكيد على أن موضوع الحرية بحاجة دائمة إلى قراءات متجددة، فالحرية في واقعنا المعاصر تتجاوز مسألة حرية التعبير وحرية الدين، فاليوم يمكننا الحديث كذلك عن الثورة التكنولوجية والحرية، في ظل عالم أصبحت بيوتنا منتهكة تكنولوجياً، وهنا تحضر المسألة الأخلاقية والحرية والحقوقية في صلتها بهذا الفتح الكوني العظيم الذي جعل من الإنسان مجرد سلعة.


الهوامش
1. فلسفة الحياة: دراسة الفكر والوجود، أنس عبدو شكشك، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط1، 2009، ص: 107. 
2. فلسفة الحياة: دراسة الفكر والوجود، مرجع سابق، ص: 108. 
3. فلسفة الحياة: دراسة الفكر والوجود، مرجع سابق، ص: 110. 
4. فلسفة الحياة: دراسة الفكر والوجود، مرجع سابق، ص: 111.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها