تجلياتُ التُّراث الثَّقافي في فِكْر الشيـخ الدكتـور سلطــان بن محمـد القاسمـي

د. صالح هويدي

تسعى هذه الورقة إلى استجلاء ملامح الخطاب الفكري لصاحب السمو حاكم الشارقة،  وما يكشف عنه خطابه من تنوع، متخذاً من ثيمة العادات والتقاليد، والمعتقدات الشعبية، والاحتفالات والأعياد نماذج معبرة عن أشكال التعبير الفني، وما حملته من دلالات سيكولوجية وقيمية.   
وفي الوقت الذي تتخذ فيه الورقة من كتاب الدكتور القاسمي «سرد الذات» أساساً لها، فإنها لن تغفل الإشارة إلى مظان مدونته أو الإحالة على المدونة الفكرية التي أنجزها ولا يزال صاحب السمو.
منذ البدء نشير إلى ملحوظتين نرى أن من الأهمية بمكان التنبه لهما في أي مقاربة تتغيا استكناه منجز سموه وقراءته، الأولى: ضرورة إدراك الركيزة الأساسية التي تنطلق منها منظومة الفكر التي تشكل في تنوعها مشروع صاحب السمو، ونقصد بها موقع الثقافة بمعناها العميق الذي يشكل حجر الزاوية في هذا المشروع المعرفي. والثانية: أن هذا المشروع، في منظومته المتنوعة، وأشكاله الفنية، ومناحيه الفكرية، إنما يصب في بوتقة رؤية مشروع ثقافي نهضوي، يهدف إلى تحقيق التنمية الثقافية والاجتماعية للمجتمع الإماراتي، بسائر أفراده وطبقاته، من دون أن ينغلق عليه، إذ يتحرك لمخاطبة المجتمع العربي الإسلامي ضمن دائرة متصلة أخرى، ما تلبث أن تنفتح على دائرة ثالثة أوسع هي دائرة العالمية التي يبرز فيها خطاب سموه في ضرورة الحوار مع العالم، كاشفاً عن عدد من الركائز والمنظورات التي تكسبه خصوصية وتميزاً.  
وعلى مستوى التراث الثقافي غير المادي الذي نسعى إلى مقاربته، فإننا نرى أنه يمثل أحد بعدي هذه الاهتمامات في فكر صاحب السمو، التي يقابلها بعد التراث الثقافي المادي الذي سبق أن استقطب اهتمام سموه منذ مرحلة صباه المبكرة، وأسهمت بيئته وتربيته وقيم مجتمعه وتكوينه في تعميق إحساس سموه به؛ ذلك الإحساس الذي سرعان ما أخذ في النمو والبروز، ليعلن عن نفسه، على نحو منهجي ناضج ولافت اليوم، سواء في ما تمثله الشارقة من تحفة عمرانية أو في ما أنتجه خطابه من رؤية للتراث الثقافي غير المادي. كما لا يفوتنا أن ننبه إلى ضرورة إدراك أن استكناه هذا المشروع الثقافي، لا يمكن أن يتحقق على نحو كامل، إن اكتفينا بمتابعة المنجز الثقافي المادي وغير المادي لسموه، من دون قراءة تأخذ في الحسبان الجانب السلوكي والقيمي الذي تكشف عنه شخصية حاكم الشارقة ومبادراته وتعامله اليومي مع أبناء مجتمعه، وعلى نحو عفوي مفاجىء في كثير من الأحيان؛ لأن في هذا السلوك دلالة لا تخفى على صلة شخصية سموه بقيم تراثه العربي الإسلامي في أصفى معانيها، وتمثله لها. وهو السلوك الذي سيرتبط بنظرته للتراث والتاريخ من جهة، وعلاقة هذا  التراث بحاضرنا وثقافتنا الراهنة من جهة ثانية، ثم علاقة ذلك كله بمستقبل الأمة الذي لا يمل خطاب سموه من التطرق إليه في أحاديثه وكتاباته، ما يقودنا إلى دخول المحطة الأخرى المهمة في فكر الدكتور القاسمي، والمتمثلة في رؤيته لعلاقة معادلة التراث والعصر التي ألمحنا إليها بالآخر الممثل لعصر العلم والتقانة والعولمة، حيث يكشف خطابه عن رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه صورة العلاقة الآخذة في الالتباس والتشوّه والنفي والمصادرة. 

إننا نعتمد في محاولتنا استكناه بعض أوجه خطاب صاحب السمو على عدد من النصوص التي أنجزت من مشروعه، رابطين أبعاده المشار إليها، ومركزين على عينات التراث الثقافي غير المادي التي اخترنا الوقوف عليها.
أما المشروع الثقافي لصاحب السمو فيأخذ شكل مثلث من ثلاثة أضلاع تمثل الأبعاد الزمنية الثلاثة:
1- الماضي ذو الصلة بالتراث.
2- الحاضر المعبر عن راهن حياتنا.
3- المستقبل الممثل لطموحنا كما يراه صاحب السمو ويأمله.

وهذا التصور الثقافي، يبرز من خلال إطار فكري متوازن، لا تعجل فيه ولا تخلف، بل تناغم بين مساراته المعبرة عن كينونة العربي وخصوصيته التي يعبر عنها بـ (الهوية). من هنا فالتراث ضمن هذا التصور- كما سنرى- ليس ماضياً، بل لحظة حية مستعادة. أما الحاضر فليس غربة أو انقياداً للماضي أو للآخر، بل هو موازنة بين التحديث الحتمي ونُسغ التراث الحي في جدلية تقوم على الموازنة البصيرة.
من هنا برز في تصور المشروع الثقافي لصاحب السمو إعادة ترتيب الأولويات الفكرية على النحو الآتي: أولوية الإنسان وإكسابه عمقه الثقافي/ ثم البنية المادية والعمرانية/ ثم تحقيق الازدهار والتقدم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، لإنجاز هدف المعاصرة أو العصرنة المطلوبة. وهنا لا بد من تذكّر قولة صاحب السمو المعبرة عن هذه الرؤية حين قال: «كفانا من ثورة الكونكريت ولنتحول إلى بناء الإنسان».

 

- أولاً -

تجليات الاهتمام بالتراث الثقافي المادي

* قبل أن نقف على النصوص التي تستجلي مظاهر عناية صاحب السمو بالتراث الثقافي غير المادي العديدة، نود أن نقف وقفة قصيرة على اهتمام سموه بالتراث الثقافي المادي الذي كشف عن تمايز ضمن مشروعات التنمية في إمارات الدولة المختلفة. فالشارقة اليوم إمارة مميزة عمرانياً وذات هوية خاصة لا تخطىء العين التي تقع عليها في تمييزها من سائر طرز العمارة والبناء في سائر إمارات الدولة. وهذه الخصوصية هي أول ما يلمحه الداخل إليها. فهي إلى جانب أخذها بالتطور الحداثي العمراني غير المبالغ فيه أخذت بنظر الاعتبار عدم ذوبان مظاهر عمرانها بطرز الهندسة الغربية، متجهة صوب التركيز على استيحاء طرز البناء التراثي العربي والإسلامي. وهو منجز يمنح عين الناظر إليه إحساساً مختلفاً بالراحة البصرية والنفسية المتأتية من أن البعد العمراني التراثي القائم على الطراز المعماري العربي الإسلامي يوفر للعين الامتداد وعدم الانغلاق أو الارتطام بالشواهق الكونكريتية واكتظاظاتها الكتلوية الضخمة، فضلاً عن بروز جماليات الفن التراثي القائمة على التدوير والاستقامة في أشكال القباب والمنحنيات والفجوات وما تشهده من رشاقة ويتخللها من تعشيق وريازة وفسيفساء جمالية ألفتها عين العربي. وهي القيمة التي نحسب أنها ستتحقق في شكل ارتياح بصري لدى السائح الأجنبي الذي يبدو شغوفاً على الدوام بتوثيق لحظات استمتاعه برؤيتها، من جراء ما تحدثه من إدهاش بصري، سببه أنه يجد في هذه الطرز المعمارية إدهاشاً جمالياً لم تعتده عينه؛ لأنه يكشف له عن نموذج جمالي مفارق لنموذجه العالمي الشائع المكرور: 

* إعادة بناء حصن الشارقة على ما كان عليه.

* ترميم وصون المباني التقليدية كالعرصة و...

* إعادة تشييد حي تراثي بروحه التي كان عليها، ليصبح ساحة للآداب والفنون والخط تقام فيها ندوات عن الفن والأدب والفكر والتراث والشعر الشعبي والفصيح.

* تشييد بعض المعالم المعمارية في الشارقة، على وفق الطرز العربية الإسلامية التي تشهد إقبالاً عليها من الزائرين العرب والأجانب، كالسوق المركزي، وجامعة الشارقة، والجامعة القاسمية.

* تشييد بيت تراثي حمل اسم «بيت الموروث الشعبي» يهتم بالموروث وجمع مواده من رواته وتسجيلها وحفظها في مكتبة وأرشيف صوتي ومرئي.

* إنشاء إدارة للتراث، ضمن دائرة  الثقافة، تعنى بشؤون التراث وحفظه ونشر الدراسات الخاصة به وعنه، ما لبث أن توسع واستقل على هيئة معهد سمي معهد الشارقة للتراث.

* تخصيص ورعاية الأيام السنوية الخاصة بالتراث الذي مثّل تظاهرة سنوية عرفت باسم «أيام الشارقة التراثية» من كل عام، وهي تظاهرة معبرة عن الهوية المحلية والخليجية وبمشاركة ممثلين عن دول العالم العربي والإسلامي والدول الأجنبية؛ للتعريف بتراثها وفولكلورها، من خلال الندوات والعروض وتبادل الخبرات، ولتصبح هذه المناسبة من أكثر المناسبات التي تتيح للناس التواصل مع عبق الماضي المتجدد والمتصل مع حاضرهم من دون انقطاع.

* إنشاء المتحف الإسلامي الذي تحول من منطقة الشارقة التراثية إلى مكانه الحالي باسم متحف الشارقة للحضارة الإسلامية.

* إنشاء متحف الشارقة للتراث.

* إنشاء متحف الشارقة للفنون.

* إنشاء معهد الشارقة للتراث(1).

 

- ثانياً -

التراث الثقافـي غير المادي 

1 - المعتقدات الشعبية

نقف على وصف صاحب السمو في كتابه «بيت السرد» منزلهم ومنزل عمه على هذا النحو:
«كنا نسكن في منزل ملاصق لمنزل عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي. كان بين المنزلين سياج من سعف النخيل وبوابة مشتركة للبيتين. لا أتذكر وجود عمي وأهله في ذلك البيت، ولا أتذكر وفاة ابنتيه عزة وعلياء هنالك، إلا أنني أتذكر الفتحة التي أحدثناها في سياج سعف النخيل، حيث كنا نحبو للمرور من منزل إلى آخر، أنا وأبناء عمي، عبدالله الذي يكبرني، وسعود الذي كان يصغرني. كنت أنظر إلى تلك الفتحة في شيء من الخوف والترقب علِّي أرى رجلي ذلك الجني، وهي كالمحاميس، خرجاً يجري من المرحاض الذي في ناحية من المنزل إلى غرفة بنات عمي من الناحية الأخرى ليقتلهما. هجر عمي ذلك المنزل وأمر ببناء منزل من سعف النخيل استعجالاً في هجر ذلك المنزل. كان ذلك السياج من سعف النخيل يفصل بيت عمي المهجور وبيت والدي المعمور»(2).

كما نجد وقفة أخرى لوصف الراوي بيت عمه القريب من بيتهم لبسط المزيد من الممارسات الاجتماعية الكاشفة عن المعتقدات الشعبية لأناس تلك المرحلة، على هذا النحو:
«البوابة الغربية لبيتنا تفتح على ساحة صغيرة حولها بيوت أعمامي وبيت صغير لأولاد ابن ركاض إبراهيم وعلي، ومن خلف ذلك البيت ساحة صغيرة أيضاً، وكان بالقرب من تلك الساحة بيت قد تهدم سوره، وبرز منه مخزن كبير، بابه مفتوح دائماً على الساحة، يقال لذلك البيت: بيت الدويش. وضع عمي ماجد به شاباً مجنوناً، موثوقاً بسلسلة حديدية مثبتة في صخرة. فإذا ما أحس المجنون بمرور أحد بالقرب من ذلك المخزن، اندفع من خلال بابه وهو يصرخ، فيخيل للمارة أنه طليق حتى تمنعه السلسلة من الخروج من باب المخزن. الطريق من خلال تلك الساحة والمرور بجانب مخزن المجنون، تؤدي إلى المسجد أو السوق أو إلى بيت المطوع فارس بن عبد الرحمن، وهو نجديّ، كان إماماً للمسجد ومعلماً للأولاد في بيته.

كان بيت المطوع فارس قريباً من بيوت العائلة، لكن الخوف من أن ينفلت المجنون يمنعني من الوصول إليه. وبين ليلة وضحاها اختفى المجنون، وأقيم سور بيت الدويش، وضم إلى بيت عمي ماجد، فهدأت النفوس، واستمر التردد على بيت المطوع فارس»(3).  

كما نلمس استمراراً لتجليات مظاهر المعتقدات الشعبية من خلال وعي الراوي المتماهي بمرويه، الصبي وهو يتحدث عن بيت العم المهجور في تلك المرحلة، على النحو الآتي:
« في تلك الفترة قام عيد بن خصيف المرافق العسكري لوالدي، بعد أن تزوج امرأة تدعى مريم، وبنى لها بيتاً من سعف النخيل في الساحة الأمامية للبوابة الشرقية لبيتنا، وألصق سور بيته بسور البيت المهجور، بيت عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ناحية المرحاض، حيث يسكن الجني، كما كنا نتخيل.. وإذا بتلك المرأة الهادئة التي لم نسمع لها صوتاً منذ أن أقامت في ذلك البيت، تتحول إلى ما يشبه الشيطان، الشعر المكشوف منكوش، والعينان زائغتان، وصراخها يعلو، والزبد يخرج من شدقيها، ورجلان يمسكان بيديها وهما يشدانهما وكأنها تصلب، وآخر يجلدها بشدة على ظهرها وهو يصيح بالجني:
«اخرج.. اخرج.. إخرج!».
كانت عيناها تحملقان، حتى إذا ما أتى نظرها إلى عيني، ارتعشت خوفاً من أن يخرج الجني من عينيها ويدخل في عينيّ، لكن عينيها أطبقت عليهما الأجفان، وتدلى رأسها على صدرها، والجلاد يجلد ويصيح:
«اخرج.. اخرج.. اخرج!».
وإذا بالسوط ينزل على جثة هامدة»(4). 

ومن المعتقدات التي وقف عليها صاحب السمو وقفة ذات دلالة هذه القصة الظريفة:
«لم يكن الناس يعلمون أن الشيخ سلطان كان مريضاً، ولم تظهر عليه علامات المرض؛ فقد شاهدته في ربيع سنة 1949 في مجلسه، عندما أحضر صاحب الصندوق؛ حيث وصل إلى الشارقة رجل يحمل على ظهره صندوقاً له أربعة أرجل، يضع أرجل الصندوق على الأرض، ويطلب من الناس أن ينظروا فرداً، من خلال فتحة في الصندوق، وهو يدير مفتاحاً ويحركه. انتشر خبر ذلك الرجل بين الناس، بأنه يقوم بالسحر، وقامت مجموعة من أعيان البلد بالذهاب إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي حاكم الشارقة، وطالبته بأن يقوم بطرد ذلك الرجل من الشارقة. أمر الشيخ سلطان بأن يحضر الرجل أمامه، فبعثوا أحد العساكر ليحضره إلى مجلس الشيخ سلطان. كان المجلس في البيت الغربي، منزل زوجته الشيخة ميرة بنت محمد، وكنت مع أبنائه نجلس مع أعيان البلد الذين قدموا الشكوى، وإذا بالرجل وصندوقه على ظهره قد أحضر. سأل الشيخ سلطان الرجل قائلًا:
«من أي البلاد أنت؟»
فأجاب: «من العراق».
قال الشيخ سلطان: «وما تعرضه في هذا الصندوق؟».
قال الرجل: «تسلية للأولاد».
قال عمي الشيخ سلطان: «تعال يا سلطان... انظر أنت ما بالصندوق، وقل لنا ما شاهدته».
أخذ الرجل صندوقه ووضعه جهة النور المنبعث من «الفرخة»، و«الفرخة» هي باب صغير في البوابة المغلقة، وبدأ يلف بيده مفتاحاً، وبدأت الصور تتحرك بداخل الصندوق، وأنا أشاهدها من خلال فتحة الصندوق. كان صاحب الصندوق يعلق على كل صورة أشاهدها داخل الصندوق، وهو يقول:
«هذا الدب الكبير، يأكل حنطة، ويزق شعير».
ويصف عنترة بن شداد كما يصف أبا زيد الهلالي، حتى إذا ما انتهى من ذلك، قال عمي الشيخ سلطان:
«صف لنا يا سلطان ما شاهدت».
وقفت أمام عمي الشيخ سلطان وأعيان البلد، وأنا لم أبلغ السنة العاشرة من عمري، أشرح ما شاهدته بكل ثقة وانتباه.
قرر عمي الشيخ سلطان بعدها أن يُرحَّل الرجل صاحب الصندوق من الشارقة، وأن يعطى بعض المال»(5).

2 - أما في مجال استحضار سموه للعادات والتقاليد التي احتفظت بها مخيلته في ذلك العهد المبكر، فيمكن الإشارة لبعضها. ومنها تلك التي تكشف عن مجالس استقبال والده ضيوفه أيام حكمه، سواء الخاصة أو العامة، وطرق الاحتفاء بالخاصة والعامة من الوافدين. وهي صور تكشف عن القيم الاجتماعية والإنسانية الرفيعة التي كانت تحكم سلوك الحاكم:
«كان لوالدي الكثير من الحشم، من أهل وجيرة وخدم. كانت الضيوف تترى إلى مجلس والدي، المجلس الكبير للعامة، والصغير للخاصة، ولا يمر يوم إلا وفي بيتنا وليمة. كانت الأطباق تخرج مليئة بالطعام من أبواب بيتنا الثلاثة، وأخرى تخرج إلى الدكك الخارجية للمجلس العام، حيث يتوافد كثير من الجياع في فترة المجاعة، التي سببتها الحرب العالمية الثانية»(6). 

وقد يمتد استدعاء الذاكرة لتقاليد وعادات الناس إلى استحضار بعض الطقوس الاحتفالية المصاحبة لضروب التعليم المبكر آنذاك، لتتجلى لنا تفاصيل دقيقة لتلك الاحتفالات وما يصاحبها من أزياء ترسم صوراً دقيقة للاختلافات الطبقية وللمقامات، على نحو ليس من السهل العثور عليه في الكتب التي تؤرخ لهذه المظاهر:
«كنت صغيراً أتعلم جزء (عمّ)، أما الكبار من الفتيان والفتيات، فكانوا يختمون القرآن،... كان من يختم القرآن يتخرج من المدرسة، بعد أن يقوم المطوع أو المطوعة بإقامة التحميدة، فإن كان ولداً أُلبس الملابس النظيفة وأحياناً ملابس جديدة، أما أبناء الشيوخ والأغنياء فيلبسون الخنجر الذهبي والغترة والعقال، ويخرج الواحد منهم مع أترابه، يقودهم المطوع، أو من ينوب عنه، يردد الدعاء، والفتيان من خلفه يؤمنون بصوت واحد قوي أشبه بالصريخ: آمين. ومن باب بيت إلى آخر يجمع المطوع، أو من ينوب عنه، العطايا. أما بنات الشيوخ والأغنياء، فكنّ يلبسن الذهب على رؤوسهنّ وعلى صدورهنّ، وتخضب أياديهنّ بالحناء»(7).

ولعل من الاحتفالات والأعياد التي شهدت تلبث ذاكرة صاحب السمو عندها طويلًا، وحظيت بذكر تفاصيل مهمة، توقفه عند مناسبة حلول العيد وأثرها في نفوسهم في تلك الأعمار الغضة، بدءاً من ترقب الإعلان عنه، مروراً بخروج الناس للتبضع أو الحلاقة وشراء الحلوى، وانتهاءً بإقامة شعائر الصلوات والتوافد على الحصن الذي يقيم فيه الحاكم وخروج الأطفال للحصول على العيدية وانتشارهم في ساحات اللعب، على نحو من التصوير المشهدي الذي يحتفظ بتفاصيل مهمة وذات دلالة تعبيرية عما في النفس من ذكريات مضمخة بمشاعر الفرح والمتعة:
«الناس ترقب هلال العيد عند غروب شمس ذلك اليوم، بعد صلاة المغرب. وفي ذاك الهدوء  التام يدوي صوت المدفع، معلناً بأن غداً العيد. يسمع بعده طنين الناس، فتزدحم بهم الأسواق، بمن تأخر في تجهيز نفسه للعيد، أو جاء للفرجة، هذا جاء لشراء ملابس العيد، وذاك ينتظر دوره لدى «المحسّن» أي الحلاق، والآخر جاء لشراء ما يحتاج إليه في تقديم «الفوالة» وهي ما يقدم للضيف من حلوى ومنفوش وبشمك، ويصنع من الطحينية، التي تستخرج من هرس السمسم، يقال لها «هردة». قبالة دكان المحلوي تيمور، وهو الذي يقوم بصنع الحلوى وبيعها، هناك دكان به طاحونة، يدور حولها حمار معصوب العينين، لا يتوقف عن الدوران، يقال له حمار الهردة، فصار ذلك مثلًا، فإذا قلت للإنسان: لا تحمّل هذا العامل فوق طاقته، يقول لك: لا تخف! هذا حمار الهردة!

صباح يوم العيد خرجت الناس في زينتها، واتجهوا إلى المصلى، والذي كان يبعد عن المدينة بمقدار كيلو متر واحد ونصف الكيلو متر، به منبر أسمنتي بثلاث درجات يقف الخطيب عليه، مواجهاً للصفوف المتراصة. وخطيب الأعياد والجمع الشيخ سيف بن محمد بن مجلاد، صاحب الصوت الجهور.. الرجال والفتيان في الصفوف الأمامية وفي مقدمتهم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي وإخوته وذووه وأعيان البلد، أما النساء فكنّ في الصفوف الخلفية، وبأعداد قليلة، فإذا ما فرغوا من صلاة العيد، توجهوا إلى البلد، فإذا ما شاهد أحد الحراس من الحصن قدوم الناس بأثوابهم البيضاء، أمر بإطلاق المدفع، فيتيقن من يصلهم صوت المدفع قائلين: عيّدت الشارقة. يتوافد إلى الحصن المهنئون للشيخ سلطان بن صقر القاسمي بالعيد. ومن بين من يفد كذلك مجموعة الحرس التابعة للشيخ لحراسة الطائرات، وهم من أصل عماني، أسكنوا بالقرب من محطة الطيران في مكان يقال له «المناخ»، ورئيسهم يسمى ناصر الزيدي. فإذا كانوا في ساحة الحصن، أخذوا يغنون، وهم يرقصون، ويبرز من بينهم اثنان في أياديهم سيوف وتروس، ويقومان بتمثيل مشهد مبارزة، وفي آخر المشهد يطعن أحدهما الآخر، ويقوم بذبحه، ويبقى ممدداً على الأرض، فيوخزه بسيفه، فينهض واقفاً على رجله. والأولاد متحلقون حول المشهد، فإذا ما انتهى أخذوا يجرون في السكك، ومن بيت إلى بيت يطلبون «العيدية»، وهي قليل من النقود تعطى للأولاد في ذلك اليوم. أما في مساء ذلك اليوم، فيتوافد إلى شجرة الرولة، الوارفة الظل، الرجال والفتية والفتيات والأطفال. وتعلق الحبال على الأغصان الكبيرة من شجرة الرولة، وتجلس الفتيات في صفين على الحبال، وتشبك كل فتاة أصابع رجليها بالحبال التي تجلس عليها الفتاة التي تقابلها، فتتكون المرجيحة من ثماني فتيات. أما الفتيان فيقومون بشط المرجيحة، أي إبعادها إلى أعلى بكل عفة. تباع تحت شجرة الرولة الحلويات والمكسرات. أما شيخ الشارقة، فيجلس على الكرسي الكبير وحوله أقرباؤه وأعيان البلد، لتلقّي التهاني بالعيد، وإلى جانبهم تقام رقصة «العيالة»(8).

 


الهوامش
(1) ينظر يوسف السالم: في رحاب التاريخ، قراءة في مؤلفات الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، ط1، حكومة الشارقة، دائرة الثقافة، دولة الإمارات العربية المتحدة، 2003، ص: 17-16.
(2) سلطان بن محمد القاسمي: سرد الذات، ط5، الشارقة، منشورات القاسمي، دولة الإمارات، 2012، ص: 18-17.
(3) المصدر نفسه: ص: 18-17.
(4) المصدر نفسه: 20-19.
(5) المصدر نفسه: ص: 56-54.
(6) نفسه: ص: 17.
(7) المصدر نفسه: ص: 18.
(8) المصدر نفسه: ص: 33-31.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 248 (صفحة 4)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها