تدريسية النص الأدبي..

الحاجة إلى التفكير خارج الصناديق المغلقة

د. حسن الخطيبي

لعله من باب نافلة القول التذكير بأن درس الأدب يعاني في داخل فصول المدرسة من مشاكل كثيرة ومتعددة، من جملتها سطوة ما نسمه ب"القراءة بالوكالة" من خلال توكيل المتعلم.. القارئ أمر فهم النص للمدرس، أو بالأحرى انتزاع المدرس هذه المهمة كرهاً على المتعلم لا طوعاً، حيث إن المدرس لا يطلب رأي المتعلم أصلاً في فعل التوكيل، وإنما يتم ذلك من جانب واحد، في خرق سافر لبنود قانون الالتزامات والعقود وفي خرق سافر لأخلاقيات التواصل، وبالتالي تغييب شبه تام للآخر الذي لا رأي له في الموضوع. وفي هذا التسلط ممارسات لا تربوية، بل ولا إنسانية. 

ومن الإشكالات التي تحاول هذه المقالة الوقوف عندها: هل بالإمكان الحديث عن وجود تدريس قصدي لاستراتيجيات الفهم وبناء المعنى؟ هل المعنى ثابت في الزمان والمكان أم أنه مهاجر ووجودي تاريخي وورش مفتوح الهدم والبناء؟ أليس الفهم شيئاً يكونه الإنسان وليس شيئاً يفعله.. يمتلكه؟ وهل يمكن أن تتطابق مقاصد المؤلف مع مقاصد نصه؟ وهل الوصول إلى هذه المقاصد أمر ممكن من خلال تحليل نصه؟ ما أهمية وعي المدرس بتمثلات المتعلمين باعتبارها عتبة هامة في التدريس؟ كيف ندفع المتعلم إلى الوعي باستراتيجياته في التفكير، والتفكير في تلك الاستراتيجيات؟ وإلى أي حد يفكر المدرس في طرائق تفكيره.. تدريسه؟.

 

الإملاء قراءة بالوكالة.. الوساطة وتضييع حق القارئ.. المتعلم

إن المدرس الذي يطرح بضع أسئلة جافة حول مضمون النص، ومن بعدها يشرع في إملاء.. إلقاء الدرس، هو المعني الأول بتهمة اقتراف جريمة "القراءة بالوكالة/الوساطة"، إذ القراءة التي يملي/يلقي في نهاية الحصة، هي قراءته هو، لا قراءة المتعلمين/القراء، أنتجها هو ولم يبنها المتعلمون الذين هم منها برآء، وبذلك يضيع حقوق المتعلمين في بناء فهمهم الخاص للنص، وبناء وعيهم النقدي التأويلي، ويسهم من حيث لا يدري، في  تكريس ثقافة الشيخ والمريد، وثقافة ومَن لغا فلا درس له، ويسهم في خلق أجيال تكون عالة على مجتمع المعرفة، وأجيال من مستهلكي المعرفة الذين لا ينتجون المعرفة ولا يسهمون في دورة المعرفة، بقدر ما يقومون بتدويرها واجترارها حتى وإن كانت قد تجاوزت تاريخ الصلاحية..

إن الاعتقاد بأن المعرفة/ المعاني موجودة هناك في الخارج، خارج الذات، ويمكن أن يمنحها لها شخص/ وسيط أخر، أو يمكن للذات أن تذهب إليها لتحصيلها اعتقاد مناقض كليا لإرادة وضع المتعلم في قلب سيرورة التعلُّم، ويسير في الاتجاه المعاكس لما توصل إليه علم النفس المعرفي من حقائق حول سيرورات التعلُّم وصيروراته.

إن المدرس والحالة هاته، يتحول إلى وسيط قرائي بين المتعلم والنص، وهذا ما يحول دون تحقيق فعل القراءة لهدفه الأصلي المتمثل أساساً في جعل الواقع هناك المفارق عنا انطولوجياً، واقع هنا متصل بنا ابستمولوجياً عبر آلية التفاعل ومنطق الحوار وانصهار الآفاق، إن الوسائط تحول فعل القراءة إلى عمليات إسقاطية فجة، وتحول القارئ إلى متكلم بغير لسانه، وعاقل بغير عقله. وفي الحقيقة، ليست القراءة وحدها هي التي تفقد معناها الأصلي حين تكون قراءة بالوكالة أو قراءة عبر الوسائط، وإنما المقروء بدوره يفقد حقيقته ونقاءه، والمحصلة النهائية تكوين وعي زائف، وإنتاج قراءة زائفة وترسيخ حقيقة زائفة.

ويتمظهر الحجاب في البروتوكولات القرائية المغلقة التي يقرأ من خلالها النص، والتي تعني الخطوات الميكانيكية الجافة لما يعرف بالقراءة المنهجية التي تفضي إلى قراءة خطية قاهرة للنص ومتعلميه، كما يتمظهر في ركون المدرس إلى تصورات تقليدية فقهية في فن التدريس تقوم على مفهوم السلطة كما هو مشكل عبر النسق الثقافي العربي منذ القديم، نسق متأسس على ثنائية "الشيخ والمريد"1. وعلى الفقيه باعتباره سلطة مرجعية متعالية تفرض سطوتها على الآخرين الذين يتحولون إلى كائنات مقلدة ومجترة ومحاكية، وباعتباره نموذجاً ومثالاً ونمطاً مثالياً ينبغي على الآخرين الاهتداء بهديه وإتباعه بإحسان.

إن السلطوية في التربية بشكل عام "ظاهرة تربوية تمتد جذورها في البنية الاجتماعية العربية التقليدية، التي تخشى إطلاق القوى الإبداعية وتنكرها، وتحاول كبتها وتشجع الامتثال والانقياد، والإذعان والاتكال والتقليد والمحاكاة، وتعمل على التكيف والاندماج ضمن البنى الاجتماعية القائمة، بغض النظر عن سلبياتها"2.

إن ذلك النسق الثابت حول مفهوم السلطة في الثقافة العربية ينبغي الكشف عن صيروراته وتمظهراته وامتدادته في المجال التربوي، وهو نسق حاضر بوعي أو من دونه، فكثير من الفصول تحولت إلى مدراس دينية عتيقة، يتقمص فيها المدرس منصب الشيخ والمتعلمون دور المريدين.

ولربما يزعم المدرس تخلصه من هذا النسق التقليدي لمفهوم السلطة ولكن قوة تحكم ذلك النسق في بنياته اللاشعورية يجعله يتغير شكلاً لا مضموناً، عرضاً لا جوهراً، فالشكل/البنية السطحية يوحي بالحداثة والتجديد، والمضمون/البنية العميقة مشبع بالزعامة والمشيخة. فتبقى رغبته التحديثية تلك نيات لم يعقبها الانجاز نتيجة ضغط تلك الأنساق، التي اتخذت شكل كبقات رسوبية في لاوعيه يصعب التخلص منها.

هناك إذن، خطاطة ذهنية متوارثة وثابتة في اللاوعي لمفهوم السلطة، تتحكم في الأنشطة الصفية للكثير من المدرسين، مما يكون له كبير الأثر على مخرجات تدريسهم، مما يستدعي التعجيل بقطيعة ابيستيمولجية مع هذه الخطاطة الجاهزة تفادياً لمزيد من جحافل المريدين من جهة، وتفادياً لمزيد من الشيوخ من جهة ثانية، خاصة وأن الشيخ الملقن يصنع من المريد شيخاً ملقناً جديداً... وهلم شيوخاً.

وانطلاقاً من هذا الفهم فإننا لا نستبعد بالمرة كون ما تعرفه المجتمعات العربية من هشاشة فكرية وثقافية وقيمية، وما تعيشه من صراعات طائفية وحروب دموية، يرتد في كثير من جوانبه إلى مخرجات هذا النوع من التعليم. إن المنطق السليم يقول: إن التدريس القائم على الاستبداد لن يولد في المحصلة سوى أجيال من الاستبداديين. 

الامتلاء وخلفية ميتافيزيقا الحضور.. الحقيقة الواحدة

ننطلق هنا من سؤال نراه مركزيا: هل النص ممتلئ بالمعنى؟ وهل المعنى موجود ومعطى ومشكل داخل النص وما يجب على القارئ سوى اكتشافه واستخراجه وتوصيله للآخرين، أم أن الذات القارئة والمؤولة هي التي تبنيه وتشيده؟.. أليس المعنى نتاجاً لفعاليات الذات القارئة؟

إن درس الأدب يقوم اليوم في تدريسيته داخل الفصول، إضافة إلى الإملاء، على براديغم الامتلاء والاستخراج والاكتشاف، بدل البناء والمشاركة والتفاوض، وهي براديغمات ضاربة في دهاليز بنية العقل العربي وليست وليدة اليوم، فما هي سوى تصريفات لتصور ثابت في بنية العقل العربي، نقصد به تصور "الامتلاء"، والذي يعني أن النص ممتلئ مسبقاً بالمعنى وأن الألفاظ ممتلئة بالمعنى، وأن المؤلف ملأ النص بمعناه، وهو تصور نابع من الفهم الديني المتوارث للنص القرآني.

إن الإقرار بامتلاء النص مسبقاً بالمعنى صادر عن خلفية معرفية قائمة على مفهوم "ميتافيزيقا الحضور" القائمة على الامتلاء والوحدة والإطلاقية  واليقين، والتي تقر بإمكانية الإمساك بالحقيقة الواحدة وبلوغ المعرفة المطلقة، وهو تصور يبخس عمل القارئ المتلقي من جهة ويحكم على النص بالموت من جهة ثانية، حيث يصبح هم القارئ هو الاجتهاد في العثور عن المعنى الذي وضعه الكاتب في زاوية من زوايا النص، وبالتالي يلغي ذاته كذات فاعلة واعية فاهمة، وإذا افترضنا تمكنه من الوصول إلى هذا المعنى المقصود فالسؤال هو ما مصير النص وما فائدته وما جدواه بعدما تم تحصيل معناه واستهلاكه؟ إنه أصبح بلا معنى، وبالتالي بلا روح؛ لأن المعنى كالروح وفي الخلاصة لا حاجة لقراءته مجدداً..      

فإذا كانت وظيفة التأويل كما يقول إيزر، هي إخراج المعنى الخفي من النص الأدبي، فإن هذا يتضمن افتراضات مسبقة غريبة هي كما يلي: "إن الكاتب قد يتستر على معنى واضح ويحتفظ به لنفسه من أجل الاستهلاك في المستقبل، والافتراض الآخر هو أن الناقد يأتينا بالحقيقة لأنه يزعم بأنه يكشف عن المعنى الأصلي"3.

وبعبارة أخرى إذا كان التأويل هدفه إخراج المعنى الحقيقي من النص عبر المقاربة الحفرية، أي الحفر عن المعنى والافتراض بأنه معبر عنه بوضوح في النص-الكنز- وأنه موجود هناك وراء حجاب اللغة، فإن ذلك النص سيصبح مبتذلا وبلا قيمة ولا فائدة، بمجرد استخراج معناه ويتحول إلى مادة للاستهلاك فقط، وهذا لا يقضي على النص فحسب، وإنما يقضي أيضا على النقد الأدبي، إذ ما وظيفة التأويل إذا كان عمله الوحيد هو استخراج المعنى وترك هيكل فارغ وراءه؟ كما تساءل إيزر4.

إن النصوص غير ممتلئة مسبقاً بالمعنى، فالمعنى غير سابق في وجوده على الذات العانية أو الذات  الباحثة عن المعنى، إن المعنى يكون حين تكون الذات الباحثة عنه، فوجوده رهين بوجودها وعليه فحقيقتها ليست معطاة سلفاً، إن المعنى مشروع في طور التأسيس دائماً وورش مفتوح على الهدم والبناء، والإضافة والتعديل والتحيين والتطوير، مشروع يشيد ويتحقق في جريان تاريخ تفاعل تلك النصوص مع قرائها.

ومن دون شك أن البنية الذهنية التي يسيطر عليها مبدأ الواحدية والإكراه والطاعة والاستبداد، وقانون "ما ترك الأول للآخر شيئاً"، لن تفرز غير عقلية أحادية متحجرة كما نعتها يوسف الخال لا ترتاح إلا في مناخ العبودية للمألوف والمعهود، "فالمغامرة بعيدة عن طبعها وهي لا تعي ما يجري حولها، فتصبح مرتعاً للفراغ يهزها الزمن فتفتح عيونها البلهاء ثم تعاود الشخير إلى أن يجيء يوم تجد فيه من يجرها إلى الهلاك"5.

ضرورة استثمار "موسوعة المتعلم..المتلقي..الذخيرة" لإنجاح في عمليات الفهم

ننطلق هنا من سؤال نراه مركزياً: هل المعنى معطى كمي حتى يمكن الحديث عن تعيينه وتحديده، وهل هو مستقل عن الذات العارفة أم أنه مرتبط بها ومنبثق عنها، وهل هو سابق عن هذه  الذات العارفة /القارئة وموجود قبل وجودها؟ 

من دون شك أن الدراسات الحديثة تتفق على اعتبار عمليات الفهم عمليات إنتاجية توليدية ترتيبية لا عمليات استقبال واستهلاك وفوضى، ففهم شيء ما يعني إعادة ترتيبه وإنتاجه بعد إخضاعه للعديد من عمليات التحويل والمواءمة والاستيعاب، فلفهم كلام شخص معين فلابد من استدخال المتلقي لذلك الكلام في بنيته المعرفية، أي نقله من أفق المتكلم إلى أفق المتلقي، وإخضاعه لعمليات التمثل والنقل والتحويل والتصرف حتى يتمكن من فهمه، وهذا معناه أن مستوى فهم الفرد المتلقي مرهون  بذخيرته من المعرفة حول الموضوع الذي يريد معرفته، إن ما يعرفه الفرد، وطريقة معرفته له، تؤثر على الطريقة التي يتعامل بها مع الخطاب الذي يتلقاه. 

إن طبيعة تلك المعارف والمعلومات التي يملكها المتعلم قد تكون عاملا ميسراً لفهم المعرفة الجديدة كما قد تكون عاملا معسراً لتلك المعرفة، وذلك مرتبط بمعدل وجودها، من جهة، وبتلاؤمها مع تلك المعرفة من جهة ثانية، ولهذا يكون فهم المتعلمين لمعنى نص جديد لم يسبق لهم ملامسة محتواه المضموني والجمالي وغير مرتبط بذاكرتهم القرائية أمراً شاقاً وصعباً، أمر يتطلب جهداً تلاؤمياً وتوفيقياً كبيرين، ينتهي غالباً بالفهم العشوائي والإكراهي والقسري، أي أن المتعلم لا يضع تلك المعرفة الجديدة في خانتها الطبيعية من الخانات المشكلة لبنيته المعرفية وإنما يحتفظ بها معلقة في مكان مجهول في تلك البنية، وهذا ما يجعلها عاملا مشوشاً أكثر منها مساعداً على سد الفجوات بين تلك الخانات، مما يسهل أمر التخلص منها ونسيانها في أقرب منعرج/ الامتحان.

على المدرس أولا، الوعي بتمثلات المتعلم/القارئ باعتبارها أنساقاً تفسيرية يوظفها المتعلم لفهم العالم من حوله وتفسيره، ومعرفة طبيعة هذه العلاقة مؤشر هام قبل الانطلاق في عملية  التدريس، فالمتعلم ليس صفحة بيضاء، ولا رأساً فارغاً، وليته كان كذلك، وإنما يأتي إلى الفصل محملا بذاكرة وبتاريخ من العادات والقيم والتقاليد والأفكار، والمسلمات والمكتسبات السابقة، ومن هذه التمثلات ما يكون سهل التصحيح والتصويب والتعديل لارتباطه بالذاكرة الآنية القريبة المدى، ومنها ما يصعب على ذلك لارتباطه بالذاكرة البعيدة المدى. 

إن هذه التمثلات  هي بنوع من التقريب، ما سماه كادامر ب"التحيزات القبلية والأحكام المسبقة"، فعلاقتنا بالنص لا تكون ونحن صفحة بيضاء، بل إن ذاكرتنا تشكلت عبر سلسلة من الترسبات، إذ كيف نفهم ونحن لم ندخل بعد إلى عالم الفهم؟.

إن عمليات الفهم لا تتم إلا انطلاقا من الأفق/الآفاق المسبقة، والأحكام القبلية، هذا (الأفق) بمثابة افتراضات مسبقة لا إرادية تتداعى من خلال (الخبرة المعاشة)، التي اكتسبها المؤلف والمتلقي، فالأحكام المسبقة تمهد الطريق للنشاط الهيرمينوطيقي، ولا تحطم الموضوعية وإنما تجعلها ممكنة "6. وهي التي تجعل الفهم ممكناً، ولكن رغم ذلك لا ينبغي أن يتحول ذلك الوعي المسبق إلى مقولات يفرضها القارئ على النص، وإنما يجب التأكيد على أن "نقص الوعي المسبق بما يكون موضوعا للبحث والتساؤل يعوق منذ البداية إمكانية التساؤل ذاتها"7.

فما دام قبل النص نص قبلي، بل نصوص قبلية باستحضار مفاهيم التناص والحوارية، فإنه كذلك قبل الفهم هناك أفهام أخرى قبلية. إن "منطق الافتراض المسبق هذا، يعتبر أن قبل النص يوجد نص آخر، نص قبلي، وقبل الفهم هناك فهم آخر، فهم قبلي، وقبل التأويل هناك تأويل آخر، تأويل قبلي"8.

يتضح من كل ما  تقدم أن النجاح في عملية الفهم القرائي يعتمد إلى حد بعيد على خبرة القارئ السابقة وطبيعة تمثلاته ونوعية قبلياته، فالقراء الذين لا يمتلكون معارف ومعلومات سابقة حول النص المقروء، ومهارات خاصة بالفهم القرائي، والذين يفتقرون إلى استراتيجيات ما وراء المعرفة التي تسهم وبشكل حقيقي في تغذية الذاكرة العاملة بالمعلومات اللازمة التي يمكن أن توظف لاحقاً في فهم النصوص القرائية، سيفشلون في إتمام فهم النص، وبالتالي تُفرّغ عملياتهم القرائية من مضمونها، وتصبح عملية آلية تقوم على فك الرموز لا غير.

لقد يصعب الفهم من الدرجة الصفر، إن لم نقل يستحيل ذلك، فالقارئ يقرأ ويفهم اعتماداً على ما سبق من معرفة، ومن مخزون ثقافي وجمالي يتم استحضاره بطريقة تلقائية أو غير تلقائية وقت التأويل، بهدف تشفير الغامض وفك المبهم وربط السابق باللاحق والمعلوم بالمجهول، إنها الرصيد الثقافي والمعرفي والمعرفة الجمعية التي يحوزها الفرد والتي يعمل على ترهينها وتحيينها لفك شفرة النص وإخراجه من الغرابة ودسه في الألفة9.

وبتعبير آخر فتاريخ المتعلم وذاكرته القرائية "المعرفة المعلومة/السابقة" لهما الدور الكبير في تيسير استدماج التعلمات الجديدة المعرفة المجهولة/اللاحقة، كما أن غياب المعلومات الأولية والأساسية ذات العلاقة بمحتوى النص الجديد  يدفع المتعلمين إلى تبني  ما سماه فرانك سميث  بطريقة القراءة أو "الرؤية  النفقية"10. يقول هذا الباحث حول هذه النقطة  :"إننا لا نستطيع أن نتوصل إلى عملية الفهم إذا انتهجنا في القراءة طريقة "الرؤية النفقية"، سواء كان ذلك على مستوى الكلمة أو النص"11.

ومن دون شك أن عدم أخذ المدرس بأهمية تاريخ المتعلم وذاكرته القرائية وذخيرته المعرفية بالشكل اللازم في بداية حصته التدريسية، يكون قد حكم على درسه بالفشل، كما يكون مولداً، وبدرجة كبيرة، الكثير من الفروق بين المتعلمين في نهاية درسه، وبالتالي يزيد في تعميق الاختلاف بينهم بدل خلق المساواة المعرفية بينهم. ويخلص بنجامين بلوم  إلى أن المتعلمين "إذا كانت لديهم الرغبة الأكيدة في التعلم و يمتلكون المعلومات الأساسية الضرورية يستطيعون أن يتعلموا حتى في ظروف تعليمية سيئة"12

لكن الملاحظ هو أن المدرسين في طبيعة أسئلة الفهم "التي يطروحنها غالبا ما تكون أسئلة مضمونية تقيس الذاكرة لا العقل، وتشجع على الجواب الواحد  الذي يجازى صاحبه، إن هؤلاء المدرسين غالباً ما يحددون لكل سؤال جواباً معيناً ولا يقبلون سواه، وكثيراً ما يقيمون هذه الأجوبة على أساس كونها إما صائبة أو خاطئة"13. في إغلاق من دون وعي منهم لأبواب الاختلاف الذي هو روح القراءة والتأويل، والحال أن طريقة طرح السؤال قد تقتل الجواب المتميز، لذلك  فالمشكل العويص في ممارساتنا التدريسية هو كونها تنطلق من أسئلة المدرس ولا يبنى اعتماداً على الأسئلة التي يطرحها المتعلم على نفسه وعلى الآخر، إنه من الحمق أن يكون الفرد بلا أسئلة.

إن الثقافة المدرسية عودتنا على أن المدرس هو الذي يسأل، حيث يظن أنه وحده يعرف ما يجب أن يتعلمه المتعلم، وأن أسئلته غالباً لا تتعدى حدود الأسئلة المطروحة في الكتاب المدرسي، وهي أسئلة نمطية مكرورة يملها المتعلم لكثرة سماعها، مما يحول دون فسح مجال للمتلعمين ليطرحوا أسئلتهم الخاصة، مما يعيق انخراطهم في التعلُّم، وتطوير إشكالياتهم الخاصة، وإقامة علاقة سليمة بالمعرفة.

وإذا كنا نلاحظ أن المتعلِّمين لا يطرحون، غالباً أسئلتهم الخاصة، فإن ذلك قد يعود أساساً إلى كونهم يعتقدون أنهم يعرفون الجواب، إذ تعوَّدوا ألا يطلب منهم المدرسون إلا أجوبة نمطية وعامة جداً. وليست هذه الأخيرة سوى أخطاء تحول دون قدرتهم على امتلاك بُعد النظر، وطرح أسئلة أكثر دقة تفسح لهم المجال لولوج بناء المعرفة، تبعاً لذلك، على المدرس أن يخلق الشروط البيداغوجية الضرورية لوعي التلاميذ بهذه الأخطاء التي تشكل عائقاً يجب تجاوزه من لدنهم عبر تمكينهم من طرح أسئلتهم الخاصة. لقد أكدت مختلف التجارب أن التلاميذ قادرون على طرح أسئلتهم حول هذا النص إذا توفرت لهم الشروط البيداغوجية المشجعة على ذلك. وهكذا، يمكنهم الانخراط في التعلُّم المفضي إلى بناء معرفة جديدة14.

أهمية وعي المدرس بالميتامعرفة ودفع المتعلم إلى التفكير في استراتيجيات تفكيره

إن الانتقال الذي ينبغي أن يحدثه المدرس هو الانتقال بالمتعلم من مرحلة استقبال المعرفة إلى مرحلة بناء المعرفة، والتفكير في تلك المعرفة المستقبلة بالتعمق فيها، وفهمها وتفسيرها واستكشاف أبعادها، وتدريبه على كيفيات التفكير من خلال تنمية قدرته على التفكير في التفكيرMetacognition، وكيفية معالجة المعلومات؛ لأن الكثير من المتعلمين لا يعون كل الوعي، عمليات تفكيرهم أثناء التفكير، ولا يستطيعون وصف الخطوات التي يشغلونها، قبل وأثناء وبعد، في تفكيرهم، ونادراً ما يخططون لتفكيرهم  بسبب عدم القدرة على إدارة المعلومات، وغياب الوعي بما وراء المعرفة بما هو نشاط بواسطته يطرح المتعلم على نفسه تساؤلات حول استراتيجياته التعلمية، ويقيم علاقة بين الوسائل المستخدمة والنتائج المتوصل إليها .

إن المعرفة وما وراء المعرفة عمليتان عقليتنا يتكاملان، وإذ كانت الأولى مكتسبة، فالثانية تعبر عن وعي الفرد وإدراكه وفهمه لهذه المعرفة المكتسبة وكيفية اكتسابها "فإذا نحن استطعنا أن نحلل ونعرف ما نعمله لما نقرأ، فإنه سيكون ذلك قمة ما يمكن لعالم النفس إنجازه، وذلك لأن هذه المعرفة تتطلب وصفا للعمليات المعقدة جداً التي يقوم بها العقل بل وتفسيراً لأعجب ما تعلمته الحضارة البشرية عبر التاريخ"15.

ومبحث الميتامعرفة هنا يتوجه إلى المدرس كما يتوجه إلى المتعلم، فالمدرس يفكر في طرائقه ومقارباته إعداداً وتنظيماً وتصريفاً وتقويماً.. إن "الوعي بالسيرورات المعرفية التي يشغلها المبحوث، بحيث إن التركيز وكما هو وارد في الميتامعرفة، ينصب على هذه السيرورات لتمكين هذا الأخير من المعرفة الجيدة لاشتغاله الخاص، وبالتالي إمداده بالمساعدة اللازمة للنجاح في المهام المختلفة"16. كما يقول العالم الأمريكي ايدموند هيوي.

لقد أثبتت العديد من الدراسات الحديثة أهمية ما وراء المعرفة في تيسير الفهم، من خلال تنمية قدرة المتعلم على تحمل مسؤوليات تعليم ذاته من خلال استغلال معارفه ومعتقداته وعمليات التفكير، وتنمية وعي المتعلم بالكيفية التي يتعلم بها، والتحكم فيها بالترصيد والتزكية وبالتعديل  أحياناً، والتصويب أحياناً أخرى، فالمتعلمون الذين ليست لديهم مقاربة ميتامعرفية هم بالأساس متعلمون دون هدف، ودون مهارة للنظر في تقدمهم وفي إنجازاتهم وفي التوجه الذي يعطى لتعلمهم المستقبلي.

يقوم إذن، الوعي الميتامعرفي بدور التقويم الذاتي للمعارف، حيث إن العمليات التي يقوم بها المتعلم حول المسعى الذي سلكه لبناء المعرفة، أو حول أدائه أو مردوده يقودانه إلى قيامه بالتقويم الذاتي المصاحب لسيروراته في التعلم، وذلك من خلال طرحه للأسئلة:

  • معرفة متى أعرف ومتى لا أعرف؟
  • معرفة ما ذا أعرف عن الموضوع؟ 
  • معرفة ماذا الذي أنا بحاجة إلى  معرفته عن الموضوع؟
  •  معرفة ما الذي تعلمته من الموضوع؟
  • معرفة كيف تعلمت هذا الموضوع؟.

على المدرس  أن"يساعد تلاميذه على تنمية الوعي بتفكيرهم، والمؤشرات التي تفيد أن المعلم يستفيد من الوعي بالتفكير، أنه يشرك التلاميذ في خططه ووصف أهدافه، وتقييم وتفسير سلوكه وحين يقوم بأخطاء يستطيع أن يصححها بتعديل المسار،  ويعترف بأن هناك أشياء لا يعرفها ولكنه يستطيع أن يضع خطة لمعرفتها، ويسعى للتعرف على آراء الآخرين وتقييمهم،  ولديه نظام قيمي واضح ومعلن يتخذ قراراته في ضوئه، ويستطيع أن يقترب من التلاميذ، بأن يذكر شيئا عن إيجابياته وسلبياته، ويعبر عن تفهمه وتقبله بالاستماع الجيد والوصف الدقيق لأفكار الآخرين ومشاعرهم"17.

على سبيل الختم

بهذا نخلص إلى أن أمر القراءة خاصة داخل المدرسة أكبر بكثير مما نتصور على أنه تعلم على فك شفرة الحروف، وبعده تشفير النصوص وتحليلها والوقف عند مكامن الجمال فيها، إن أمر القراءة شأن سيادي للدول، ويدخل في سياسة المشروع المجتمعي لتلك الدول، فمفاهيم القراءة والتأويل لم ترتبط بالفهم والمعرفة فقط بل، بالسلطة أيضا، فاختلاف الناس في القراءة والتأويل مسألة واقعة لا سبيل إلى تلافيها إلا بإنشاء مؤسسة تحتكر سلطة الإكراه التأويلي، "فالذي يستطيع أن ينجح في انتزاع سلطة التأويل داخل مجتمع ما، وإقناع الناس بمشروعية تأويله، وبمطابقته ذلك التأويل للمعقولية السائدة، يستطيع أن ينجح في تدعيم سيطرته على المجتمع بواسطة الهيمنة، بالمعنى الكرامشي للكلمة..."18 وبذلك يكون "القول بأحادية المعنى أو بتعدده، لا يعدو أن يكون عاكساً ومسايراً للقناعات الإيديولوجية والأوضاع الثقافية والسياسية"19. السائدة والمهيمنة.

ولا شك أن تغول القراءة بالوكالة في مدارسنا لن يحقق هذا الطموح، بقدر ما يحول المتعلمين إلى جمهرة من المريدين الذين يرتبطون بشيوخهم كما يرتبط الأصل بالفرع، فيستقيلون من مضمار التفكير موكلين شيوخهم في قيامهم بهذه المهمة بدلا عنهم. إن حدود التفكير وطبيعة استراتيجياته لا تنفصل عن طبيعة الشخصية الإنسانية، فهو يتأثر بجملة التصورات والمفاهيم والطرائق التي يحملها الإنسان عن ذاته، عن الآخر، عن الحقيقة، عن الحياة...

إن الرغبة في تحقيق مجتمع عصري حداثي لا يتحقق بترسيخ وعي تقليدي مستقيل يعتبر  قراءة الآخرين بالوكالة عنه أمراً يدخل ضمن خانة الواجبات، وأن حقوقه تقف عند اجترار تلك القراءة واستهلاكها وتدويرها. 

إن أجيالا هكذا قراءتها/وعيها لا تستطيع بالمرة خلق المجتمع الحداثي العصري بقدر ما تخلق أجيالا من المستقيلين من دورة الإنتاج المعرفي، وهي مخرجات تكون عواقبها وخيمة، فالسطحي التفكير والفاقد للوعي النقدي التأويلي الإبداعي من السهل استقطابه في منظمات الإرهاب وأحزاب التطرف.. صحيح أن التربية وصاية، لكن ينبغي  أن يكون هدفها قيادة الإنسان إلى نقطة لا يحتاج بعدها إلى وصاية.
 



الهوامش

1. للتوسع أكثر في الموضوع انظر كتاب: عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، يليه مقالة في النقد والتأويل، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، ط4 سنة 2010.
2. يزيد عيسى السورطي: السلطوية في التربية العربية، سلسة عالم المعرفة، الكويت العدد362 سنة 2009 ص:9. 
3. ولف غانع إيزر: وضعية التأويل، الفن الجزئي والتأويل الكلي، ترجمة نزهة حفو وأحمد بوحسن، مجلة دراسات سيميائية لسانية ع.6. 1992.ص: 71.  
4. ولف غانع إيزر: وضعية التأويل، الفن الجزئي والتأويل الكلي ص: 71.
5. يوسف الخال: الحداثة في الشعر، دار الطليعة، بيروت، 1978 ص: 83 – 84.
6. سعيد توفيق: في ماهية اللغة وفلسفة التأويل م.م ص: 99.
7. سعيد توفيق: في ماهية اللغة وفلسفة التأويل ص: 100.
8. محمد شوقي الزين: مفتاح التأويل في قراءة التراث الإنساني، مجلة فكر ونقد. عدد 28 ص: 58.
9. حسن الخطيبي: امبرتو ايكو: النص بين الاستعمال والتأويل وأفعال الحرية الواعية، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، العدد 6 سنة 2016 مطبعة الأمنية، الرباط. ص: 36-37.
10. Benjamin Samuel Bloom ، Caractéristiques individuelles et apprentissages-  scolaires  ، Fernand Nathan، Paris، 1979، p76
11. B. S. BLOOM، Caractéristiques individuelles et apprentissages scolaires  ،-Fernand Nathan، Paris، 1979، p76
12. Benjamin Samuel Bloom ، Caractéristiques individuelles et apprentissages -scolaires  ،  Fernand Nathan، Paris، 1979،p112
13. عبد القادر الزاكي: من النموذج النصي إلى النموذج التفاعلي للقراءة، ضمن كتاب نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، رقم 24 م.م. ص: 219.
14. من محاضرات الدكتور محمد بوبكري بمركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط، السنة التكوينية:  2015-2017.
15. عبد القادر الزاكي: من النموذج النصي إلى النموذج التفاعلي للقراءة، تحليل عملية التلقي من خلال سيكولوجية القراءة: ضمن كتاب نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات، جامعة محمد الخامس، منشورات كلية الآداب والعوم الإنسانية، رقم:24  ص: 217. 
16. د. الغالي أحرشاو: العلم والثقافة والتربية رهانات استراتيجية  للتنمية، منشورات مجلة علوم التربية 2 ط1، 2005 ص: 158.
17. أرثر كوستا: استخدام "الميتامعرفة" التفكير في التفكير كعملية وسيطة، الفصل الثالث، تعريب الدكتور صفاء يوسف الأعسر على شكل كتيب تحت عنوان: تعليم من أجل التفكير، دار أنباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 1998 ص: 73.
18. عبد السلام حيمر: حول مفهوم التأويل، مجلة الملتقى ع 5-6 س3 200، دار ملتقى مراكش ص :34.
19. الهادي الجلطاوي: قضايا اللغة في كتب التفسير. تونس ط.1. 1968 ص: 204.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها