المستعمرون الأوائل فـي أمريكا

قصة في كل وجه وبيت

ترجمة: طارق فراج

بقلم: "كارسون فوجان"*

صور البراري لـ(سولومون دي. بُتشر** Solomon D. Butcher"")، تحتضن حياة المستعمرين الأوائل، بكل تعقيداتها وتحكي وقائع أهم قصة ملحمية في أمريكا.

 

بيت جون كاري، بالقرب من اتحاد غرب مقاطعة كيستر، نبراسكا، 1886. وغالباً ما تسمى هذه الصورة "نبراسكا القوطية". جميع الصور مُهداة للجمعية التاريخية بولاية نبراسكا.

 

إنهم يحدقون في وجهي

عاش أجدادي في منازل ضخمة من طابقين، بأرضيات يُسمَع لها صرير، مصنوعة من خشب الصنوبر، وستائر من الدانتيل كانت تتدلَّى من النوافذ مثل أشباح. ذاك تم تصويره بشكلٍ جليّ في كوابيس طفولتي وما زلت أحب ذلك البيت القديم؛ أحب كل شبر منه، نُثر بالغبار والدهشة. يأتي الصيف، وشجرة الكمثرى خارج الواجهة تنثر ثمارها في الساحة، بينما ينفتل الطلاء، هنا وهناك، من الشرفة الدائرية الشكل، ويعلق بأعقاب أقدامنا السوداء المبللة بالندى.. أنا وإخوتي نحب القبو؛ فهو باردٌ ورطبٌ ومعبأ بخصوصيات جدتي وهي، في الغالب، أشياء غير مرغوب فيها؛ صندوق أحذية يمتلئ بالأربطة المطاطية ولفائف لملصقاتٍ باقية من حملاتٍ سياسية عفى عليها الزمن.

نحن نحب العليّة أيضاً، فهي واسعة ومسطحة كما حلبة إسطوانية، تبدو بزواياها أكثر عمقاً وأشد ظُلمة ولم أجرؤ على استكشافها يوماً. لكن مدخل الطابق الثاني لا يزال ينهض فجأة في أحلامي. مكث أقرباء لي من بعيد في هذا الطابق، وطال مكثهم، هم الآن معلقين -على جدران ذات لون عنَّابي- صورهم باللونين الأبيض والأسود، لا أحد منهم يبتسم لم ينامو قط، إنهم يحدقون في وجهي. جلسوا بظهورهم المستقيمة في الكراسي الخشبية وأمامهم مروج خضراء، محاطين بغطاءٍ مزخرف لحدود وجودهم: أغنامهم، خيولهم، المناجل، أوراق اللعب، البنادق، عجلات الطحن، وصور مؤطرة لأحبائهم الموتى. بدت حياتهم صغيرة جداً وصادقة على نحو موجع وقد ابتلعها العشب والرمال في مقاطعة كستر.. نبراسكا أرضٌ واسعةٌ جداً وفارغةٌ جداً؛ لذلك تظهر في كثير من الأحيان، بلا أبعادٍ في الصور.

 كان لهذه الوجوه طريقتها في تفتّح عقلي كطفل، في تهدئتي وأنا أعدو لاهياً في جميع أنحاء المنزل. في وقت لاحق، عندما مات أجدادي، أحضرت والدتي الصور إلى المنزل ثم عرضتهم في غرفة المعيشة.. أنا لا أتذكر أي عرض رسميّ للمصور الرائد سولومون د. بُتشر (Solomon D. Butcher) لكن عمله كان في كل مكان من طفولتي، دائماً على الجدران في منزل أو في آخر. في الواقع ولوقتٍ طويلٍ، لم أكن أنظر في اليد الكامنة وراء هذه الصور على الإطلاق. فقط، كانت الصور هناك ومع ذلك، فإن أي شعور لديّ نحو تاريخ بلدي على ما يبدو باهت جداً.. تم تصفية المناطق وسط نبراسكا من خلال انتقاء المصور غير المدرب وعدسته حتى يومنا هذا، عندما أتخيل تلك المنازل الغارقة في قاع الهامشية والفقر، أتخيل صور "سولمون" لهم. عندما أتصور روَّاد مقاطعة كستر، أنا أراهم من خلال عيون المصور. مع ذلك، ثمة شيء ساحر حول عمله، سوف يأسرك حتماً. إنه صريحٌ وجريء؛ يحكي قصةً في كل إطار.
 


هارفي أندراوس وعائلته


صور بلون العُشب

وُلد "دي بُتشَر" في 24 يناير عام 1856، هبط في مقاطعة كستر في عام 1880، عن طريق ولاية فرجينيا الغربية وإلينوي: لقد وجد سوء معاملة من البداية. قدَّم كل من "سولومون" ووالده طلبات إقامة، وعلى الفور نَدِمَا على ذلك تقريباً، "وسرعان ما اهتديتُ إلى الاستنتاج"، كما كتب، "إن أي رجل من شأنه أن يترك الكماليات في دار داخلية، حيث كان لديهم لحماً مقدداً كل يوم وراتب 125 دولاراً في الشهر. "لكي تقيم في المنزل، يتطلب قانون الأسرة الاشغال لمدة خمس سنوات "لتثبيت الإقامة". استمر "سولومون دي بتشر" يشعر بالملل لمدة أسبوعين متتاليين، وكان تصرفه المتقلب غير متناسب تماماً مع الحياة على الحدود.. بعد عام واحد فقط في كلية طب ولاية مينيسوتا، في مينيابوليس، حيث انطوى على نفسه، غنَّت نبراسكا له مرة أخرى. "كنت قد رأيت ما يكفي من الغرب المتوحش"، كما كتب، "كي أصبح غير مُهيأ للعيش باقتدارٍ في الشرق".

عاد إلى مقاطعة كيستر في أكتوبر 1882، وهذه المرة مع العروس. عاشا مع والده خلال فصل الشتاء، وبعد فترة من التدريس، اشترى معدات التصوير واستوديو، ثم افتتح أول معرض للصور في مقاطعة كيستر.. نحن لا نعرف ما الذي جذب الرجل إلى هذه الحرفة لأنها بالنسبة له كانت حرفةً بكل تأكيد.

الفن -بعيداً عما يمكن أن يقوله النقاد والمؤرخون- لم يؤثر في عمل الرجل. إنه -على الأرجح، بدلًا من ذلك- استنشق عن طريق الخطأ المال السهل للتجارة. بعد سنوات؛ بعد ولادة طفله الثاني وفشل معرضه الثاني، شرع في أول مشروعٍ إبداعيّ مُربح في حياته: (تاريخ التصوير الفوتوغرافي لمقاطعة كيستر)، بعد أن أخذ صوراً فوتوغرافية لما يقرب من خمسة وسبعين من مزارعي المنطقة في غضون أسبوعين فقط -تقويةً لطلبه- وافق والده على المساعدة في تمويل المشروع؛ شيء بعيد جداً عن موارده المالية الخاصة.

إذا كان "دي بُتشر" قد وقف للاستفادة من التاريخ، فإن ذلك لم يتحقق حتى بعد ذيوع صيته عندما تم بيع (نأمل ذلك) الكتاب أخيراً، فيما بين عاميّ 1886 – 1901، أخذ "دي بُتشر" أكثر من ألف وخمسمائة صورة في مقاطعة كيستر وحدها بطرقها البدائية للسفر بالعربة ذات الخيول، وامتلأ منزله بالألواح الزجاجية السلبية (النيجاتيف) للصور.


المصوِّر سولومون دي بتشر، الجمعية التاريخية لولاية نبراسكا.
 

جماليات "دي بوتشر"، ربما يكون قد قال ذلك، لكي يعرفوا أن لديهم مصوراً واحداً فقط، يتميز بتأطير الصور، إن صوره تحتضن المنزل وما يحيط به كاملاً، وليست حكراً على السكان فقط. "إن حالات الوجود، هي ما تتعامل معه صور الرجل حقاً"، "كتب كارتر (Carter)"، إن صور سولومون دي بُتشر: بمثابة تصوير للحلم الأميركي. "تعتبر البيوت والممتلكات الشخصية أكثر من مجرد دعائم للاستوديو، وهي عناصر سردية تصنع بياناً واعياً من قبل كلّ من المصور ورعاياه، عن الحياة التي يعيشها المواطنون".

"كان ذلك ثابتاً قبل مُزحة الرواد الأوائل حيث أطلقوا على نبراسكا اسم المنزل الرخاميّ. ممتلكاتهم القليلة انتشرت حول الملكيات -حيواناتهم الأليفة، وأدواتهم، أعزّ إرث يخصهم- مواضيع "بُتشر" تنبثق من ذلك الملل وتلك الرتابة، من هذه الجرأة نحو الأرض والسماء. مصير مُغرٍ، على الرغم من الرياح والبَرد والجفاف، على الرغم من النضال الذي كان من قبل، وسوف يأتي بالتأكيد مرة أخرى.

لقد صوَّر "جون كاري" (John Curry) وزوجته يقفان جنباً إلى جنب بجوار منزلهما بقرب الغرب المتَّحِد ــــ نبراسكا، بقايا القوط الأمريكيين ــــ، جون كاري قابضاً على المذراة بحزم، قفص العصافير معلقاً عند عتبة الباب، القرون المائلة إلى البياض فوق السطح. كما صور "جيري شورز" (Jerry Shores) والعبيد السابقين، وعائلته والكلب الأبيض النحيل، مسنودًا باستقامة على كرسي كما لو كان كل جزء صغير آدمياً مثل الباقين.. صوَّر الأرامل والثكالى، وقدامى محاربي الحرب الأهلية، والدعاة، ومربي الماشية، وساكناً كان اسمه "عمر كيم" (Omer Kem)، ذلك المواطن النبراسكي الأول والوحيد المنتخب لمجلس نواب الولايات المتحدة بينما كان يعيش في منزل حقير. مع القليل من العمق في المجال وموضوعاته كانت الصور متناثرة في المقدمة كما لو تم عرضها للبيع في فناء. صور بُتشر مناسبة بشكل طبيعي من هذه الزاوية. لتلك الألعاب المختلفة التي تجدها في الحانات وعلى ظهور صناديق الحبوب. في السنوات الأخيرة، في الواقع، بدأت المحفوظات باستخدام التكنولوجيا الرقمية للكشف عن الأشياء الخفية التي كانت سابقاً في الظل.




عائلة شورز، بالقرب من ويسترفيل، مقاطعة كيستر، نبراسكا، 1887. كان جيري شورز واحدًا من بين العديد من العبيد السابقين، أخذ مطالبة الإقامة لأخيه،
وموسيس سبيس وهنري ويب(كل منهم أخذ اسم سيده السابق( الجمعية التاريخية بولاية نبراسكا.

 

لقد صَوَّر أقاربي أيضاً تلك الصورة الموجودة في الردهة، في واحدة من صورهِ الأكثر شهرة، وهي واحدة من بداياته أيضاً. لقد التقط صورة لأخوات "كريسمان" (Chrisman) الأربع، قريباتي من بعيد، المراهقات في وقت متأخر أو في أوائل العشرينات، وربما، وقوفاً أمام الباب الأمامي لمنزلهم الحقير، يحيطهن من كلا الجانبين حصان مُسرج، كن واقفات بفساتين طويلة من القطن -بأنماط مختلفة- ذوات أرضية بنفس لون عُشب البراري الهش، إنهن يقفن شامخات تجمعهن الصلابة والقوة. قام "بُتشر" بتصوير "هارفي أندراوس" (Harvey Andrews) وأسرته وأقاربه البعيدين أيضاً بينما يقفون إلى جانب قبر طفله الميّت وشتلتان صغيرتان من شجر الأَرز نشأتا خلف القبر، وأطفاله الصغار الآخرين الذين تجمعوا في معاطف صوف سميكة، إضافة إلى طفل حديث الولادة على ذراع الأم.

نحن لا نعرف سوى قشورٍ عن حياة المصوّر. فهو لم يحتفظ مثلًا بيوميات أو كتب مذكراته. كتاب كارتر هو النص النهائي للمصور الجوَّال، ومع أن تقديمه للصور لا يزيد عن عدة صفحات طويلة، فإنه يوفر لنا ما يكفي لنفترض أن "بُتشر" كان زميلًا غريب الأطوار. كان مؤرقاً. مشتت الذهن وغير راضٍ إلى حد بعيد. كان يعيش (راتب إلى راتب)، إذا جاز لنا التعبير. رجل متيم بالمناظر الطبيعية التي لا تكاد تناسبه.
 


واحدة من الصور الأكثر شهرة لبُتشر: الأخوات كريسمان 1886. قدَّمت ليتزي كريسمان أولى مطالبات أخواتها للإقامة في منزل وذلك في عام 1887،
ثم قدمت لوتي كريسمان في العام التالي. وكان على الأختين الأخريين، جيني روث وهاتي، الانتظار حتى بلوغهما سن التقدم، وقدمتا في عام 1892.
 

كثيراً ما كشفت هذه المراوغات عن نفسها في عمله، عندما لم يكن يستطيع التمكن من التقاط ما يريده بالضبط، وقال إنه ـــــ في كثير من الأحيان ـــــ يحفر العناصر المفقودة في اللوحات السلبية (النيجاتيف). كانت النتائج كوميدية، سواءً في ذلك الوقت، أو الآن بشكلٍ خاص. لالتقاط صورة لرجل يطلق النار على البط في بحيرة مارش (Marsh)، في مقاطعة الكرز(Cherry)، كان الرجل في زورقه، محاطاً بأعشاب المستنقعات والبرك، بينما رُفِعَت بندقيته إلى كتفه. وفي وقت لاحق، خمش اللهب الخام -أو الدخان، وربما من الصعب أن أقول- إطلاق النار من برميل، بينما سربٌ من البط يحلق فوق رأسه. كانت معالجة "بُتشر" البارعة للصور، على حد سواء، جادة وسخيفة، كما لو كان طفلًا صغيراً يتعلم المشي حديثاً، قد وجد علامة أو دليلًا ومشى يملأ الفراغات.. معالجة قذرة، لكن ساحرة أيضًا. يعجبني أن أصوره بينما ينتهي من لوحاته السلبية أمام الضوء فخوراً بعملٍ أداه على أكمل وجه.

ذلك يجعلني أكثر إعجاباً به، وليس أقل من ذلك.. يا لها من متعة، أرى شيئاً قليلاً من ملامح جدي في هذه المعالجة البسيطة، يمكن أن أتصوّره هابطاً في نفس السرداب القديم العفن؛ فأرى قليلاً من نفسي. 

كتب كارتر: "هناك روح من الدعابة وعدم وجود المغالاة في صور" دي بُتشر"، التي أجدها مُمتعة، وبعد، فإن هذه الصفات والمقاييس ذاتها ربما تستبعد أعماله من دراسة جادة من قبل مؤرخي الفن". وأضاف: "أعتقد أن الأمر يتعلق أيضاً بأن المصوِّر نفسه لم يكن يشعر بارتياحٍ إزاء شراكة كهذه".



صيد البط، الجمعية التاريخية لولاية نبراسكا.
 

توفي "سولومون دي بُتشر" في عام 1927، ولم يذق شهرة أو ثروة. لقد أمضى السنوات الأخيرة من حياته يبيع جُرعات الأدوية والاختراعات المُشعوذة مثل "كاشف النفط الكهرومغناطيسي".. اليوم، تظهر العديد من صوره في الكتب والأفلام التي توضح بالتفصيل السهول الشاسعة الكبرى. عُلق عدد من صوره وبورتريهاته الخاصة بحياة المستعمرين الأوائل على جدران متحف الفن الحديث، وتم بثها على شاشة التلفزيون الوطني، وبالأخص على شاشة كين بيرنز (Ken-Burns) عام 1996 (PBS)؛ قناة الغرب الوثائقية.

وفي حين كان عمل "دي بُتشر" ينتشر كمبدع على الصعيد الوطنيّ -كارتباطه بحياة الرواد مثلما ارتبط عمل إدوارد كورتِس (Edward Curtis) بالهنود الحمر، أو دوروثيالانج (Dorothea Lange) بمزرعة العمال المهاجرين-، بالنسبة لي، أصبح شيئاً أكثر شخصية: مرتبطاً بتراث أجدادي.. في هذه الصور، ألمح قصة في كل وجه وفي كل منزل أكثر شجاعة وتعقيداً، تعبر عن القمم العالية والوديان، الأمل والحزن، الفكاهة والرزانة، والأخطاء والانتصارات.. أرى قصة تستحق أن تروى مراراً وتكراراً، حتى أصواتهم، التي فُقدت في الغالب، أصبحت محفورة في ألواح الصور السلبية.



الإحالات من وضع المترجم
(*). كتبت كارسون فوجان Carson Vaughan، هذا المقال في مجلة باريس ريفيو، وهي كاتبة من ولاية نبراسكا، ظهرت كتاباتها في مجلة نيويوركر، ونيويورك تايمز وغيرها.
(**). كان سولومون دي بُتشر Solomon D. Butcher (24 يناير 1856: 18 مارس 1927)، مصوِّراً متجوِّلاً أمضى غالبية حياته في وسط نبراسكا، بمنطقة السهول الكبرى في الولايات المتحدة. بدأ مستوطناً بموجب قانون العوائل، وفي عام 1886 بدأ في إنتاج سجل تصويري لتاريخ المستوطنة البيضاء في المنطقة. بقيت أكثر من 3000 لوحة "نيجاتيف" من تصويره، على قيد الحياة، من بينها أكثر من 1000 لوحة تصوِّر منازل هامشية فقيرة. كتب "بُتشر" كتابين يحتويان كل صوره أولهما (المستوطنون الأوائل، تاريخ مقاطعة كيستر ورسومات قصيرة من الأيام المبكرة في نبراسكا) عام 1901، وثانيهما كان كتاب (منازل حقيرة، أو تطوير السهول الأمريكية الكبرى) وذلك في العام (1904). لم يتمكن بُتشر من تحقيق النجاح الماليّ كمزارع، كمصور، أو في عددٍ من المخططات الأخرى في وقت لاحق من حياته، وفي وقت وفاته شعر بأنه فشل تماماً. مع ذلك، فإن عدد ونطاق صوره لحياة الأوائل في نبراسكا جعلت منها مصدراً قيماً للطلاب، لتلك الفترة من التاريخ، كما أنها أصبحت عنصراً أساسياً من النصوص التاريخية والأعمال الشعبية على حد سواء. وقد وصفت أعماله بأنها "وقائع أهم قصة ملحمية في أمريكا".
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها