البردوني.. شاعر العصر

ترحال في جدار الذكريات ورواق الخيال

عبد الوهاب عبدالله

في يوم غابر في صنعاء اليمن، رأيت الأستاذ البردوني في أحد أحيائها القديمة، وكان يجلس في زاوية منفرداً شاردَ الفكر، وقطعت عليه خلوته واستأذنت بالجلوس معه، فأذن لي، وسمعتُ منه بدائع المعرفة؛ فالبردوني وعاءٌ ممتلئٌ علماً وأدباً وشعراً، وكأن كلماته وبنات أفكاره تنثال من شلال لا ينضب، وطلبت منه أن يسمح لي أن أحلق به إلى معرة النعمان عبر رواق من أروقة الخيال، ورحب الأستاذ بتلك الفكرة، وفي الفجر الأبلج، طوحت بنا طوائح الزمن، حتى وصلنا معرة النعمان بسلام، وعند الوصول كانت السماء تسبل نميرها العذب بغزارة، وكانت تلك القطرات الدافئة تعانق الأرض معانقة المشتاق، وهناك أخذنا جوادين، وذهبنا إلى دار شيخ المعرة، ودخلت إلى فناء الدار، ووجدت شيخ المعرة أحمد بن سليمان المعري، يملي على غلامه رسالة الغفران، وبعد الانتهاء، القيت السلام على أبي العلاء، وقال: كأني أسمع صوتاً مألوفاً.
 

قلت: يا أبا العلاء، هذا أنا عبد الوهاب جئتك من اليمن بصحبة من راق لك شعره،، جئتك بصحبة شاعر قلّ أن تجود اليمن بمثله.
قال أبو العلاء: أهو البردوني؟
قلت: نعم
قال: أين هو شاعر اليمن الملهم؟
قلت: يستأذن الدخول

قال أبو العلاء: وهل ينتظر مثل هذا الباقعة، الإذن عندما كنت يا عبدالوهاب بصحبتي قبل عشرات السنين، وأنشدتني من شعر البردوني، طلبت من جن عبقر إحضار ديوان البردوني، وأصبح ديوانه زاداً لطلبة العلم، أدخله في الحال، فهو ضرير مثلي، وقد أصابه ما أصابني ويحتاج للمساعدة، ودخل البردوني على أبي العلاء واحتضنه، وعرف قدره، وأكرم وفادته، وهناك تساجلا الشعر، وخاضا بحر الفكر، وكأنهما صنوان لا يفترقان، وقال أبو العلاء للبردوني: أيها الشاعر الأسيف العفيف، الذي لم يقرع باب سلطان قط، ولم تداهن من أجل المال، رغم الفاقة التي عشتها، والضيم والحرمان، فشعرك كنز لم تستخرج جواهره، هلاَّ أسمعتني أيها الشاعر الآسر شعراً تجود به قريحتك.

قال البردوني: أعرني سمعك يا أبا العلاء:
مِنْ تَلظَّى لُمُوعِهِ كادَ يَعْمى
                                كادَ مِنْ شُهرةِ اسْمِهِ لا يُسمَّى

جاءَ مِنْ نفسِهِ إليها وحيداً
                                رامياً أصلَهُ غُباراً وَرَسْما

حاملاً عُمْرَهُ بكفَّيْهِ رُمحاً
                                ناقشاً نَهْجَهُ على القلبِ وَشْما  

خالعاً ذاتَهُ لريحِ الفيافي
                                مُلحَقاً بالملوكِ والدَّهرِ وَصْما

ارتضاها أُبوَّةَ السَّيفِ طِفْلاً
                                أرْضَعتْهُ حقيقةَ الموتِ حُلْما

قال أبو العلاء: آهٍ أيها الشاعر... أنت تقصد المتنبي؟

قال البردوني: نعم هذه الأبيات من قصيدة طويلة أسميتها "وردةٌ من دم المتنبي".

قال أبو العلاء: لله درُّك يا بردوني، فشعرك قوي الديباجة، جميل الشارة، عذب الإشارة، هلاَّ أسمعتني أخرى؟

قال البردوني حباً وكرامة أنتزع من لفائف قلبي هذه الأبيات أقول فيها:
وهل تُنْبِتُ الكَرم وديانُنا
                                ويخضرُّ في كرمنا الموسمُ؟

وهل يلتقي الريّ والظّامئو
                                نَ، ويعتنق الكاسُ والمبسمُ؟

لنا موعد نحن نسعى إليهِ
                                ويعتاقنا جرحُنَا المؤلمُ

فنمشي على دمنا والطريق
                                يضيُّعنا والدُّجى معتمُ

فمنّا على كلِّ شبر نجيعٌ
                                تقبله الشّمسُ والأنجمُ

قال أبو العلاء: إني أسمع في صوتك الحزن ينثال بين أبيات شعرك، وإنى أجد الألم قد أثقل كاهلك، فهلاَّ أخبرتني عن ذلك نعم عوفك وطاب أنسك؟

قال البردوني:
لا تسلْ عني ولا عن ألمي
                                فلقد جلَّ الأسى عن كلمي

وتعايا صوتي المجروحُ في
                                عنفوان الألم المضطرمِ

ضقتُ بالصمتَ وضاقَ الصمتُ بي
                                بعدَ ما ضاقَت عروقي بدمِ

قال أبو العلاء: يا عبدالوهاب شاعركم اللوذعي ما هو إلا واحد من شعراء العرب البواقع، الذين ذاع صيتهم شرقاً وغرباً، ولكن البردوني لم ينلْ حقه من الإنصاف، ولابد أن يأتي من يعرف قدره وينصفه، ولوكان البردوني في عصرنا، لقدمناه على الكثير من شعرائنا، فما أنت أيها البردوني إلا أحد الجبال الرواسي فكراً وشعراً وعلماً.

وبعد رحلة ماتعة بصحبة المعري والبردوني، عدت برواقي إلى أحضان أمي الجريحة اليمن، تاركاً البردوني في ضيافة أبي العلاء، وفي طريق العودة، التقيت بصديق شغوف بالأدب، ومكثت عنده حتى الفجر، نتجاذب الحديث حول البردوني وتراث البردوني، وبعد أداء الفريضة، ظهر الضوء الآسر من خلال النوافذ، ولكن رغم جمال الصباح، كانت أزهار الربيع حزينة، وشق ذلك الضوء حجب السماء، وأرسل نوره يغازل أشجار البن، وتلبدت السماء بالغيوم، وأرسلت مزنها العذب يعانق الأغصان الذابلة، وأنا أنظر من أعلى شرفة في الدار، رأيت شجرة النخيل المتقادمة، ما تزال على عهدها سامقة. قد تجاوزت أعمار الأجداد، كل يوم، كل عام يمضي نشيخ فيه، ولم تزل شجرة النخيل المتقادمة شابة سامقة تتجاوز أعمارنا المنسية كالأرض اليباب، التي يملؤها الحزن ويطبق عليها الضيم، ومع ذلك يوماً ما سيرفع الحزن ظله الثقيل، وتعود البسمة، التي لا وجود لها سوى في جدار الذكريات.

ولك أيها القارئ العزيز أن تنعم النظر في تراث البردوني، وستجد شاعراً يأسرك أسراً، ومفكراً عبقرياً، وناقداً لوذعياً، ذهب البردوني عن هذه الحياة المتضرمة بالقسوة، رحل عن الدنيا، وليس له عقب، سوى ما تركه من آثار وتواليف حسان، ستظل عزاءً نتداوله، وزاداً مرياً، وشراباً سائغاً لكل من يحب الأدب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها