العبودية في العصر الحديث

د. إيمان حريفشة

 

          

 

هذه الدراسة تستهدف تتبع بدايات هذا الشكل من أشكال العبودية الحديثة، والفترات التي وصل فيها إلى ذروته ثم فترات أفوله، وذلك من خلال إبراز الملامح المحددة للعبودية، سواء في طرائقها القديمة أم في أشكالها المعاصرة.



في الفصل الأول من الكتاب "من العبودية القديمة إلى العبودية الحديثة"، بدأته باتريسا بفكرة مفادها أنه لا يمكن الحديث عن مجتمعات استعباد حقيقية إلا إذا كان استخدام العبيد يؤثر على المسار الاقتصادي فيها، ذلك أن عدد العبيد ليس وحده العامل الذي يميز بين مجتمع وآخر، وإنما الدور الرئيس الذي يلعبه هؤلاء العبيد في دفع عجلة الإنتاج الاقتصادي.

في هذا السَّياقِ تؤكد باتريسا على أن اليونان والرومان حولا تجارة الرقيق وهي: "نشاط تجاري بدائي" في طابعه، إلى مؤسسة منظمة للتوظيف تهدف إلى توفير الخدم على مستوى كبير، سواء في الريف أم في المدنية. هنا تعلق باتريسا "لقد أثرت العبودية، إذن، تأثيراً كبيراً على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في فترة سيادة الحضارة اليونانية الرومانية (500م-500م)، بل وترك القانون الروماني بصفة خاصة مبدأ شرعية العبودية ميراثاً للغرب"، من هذه الفكرة يمكن القول إنه لا بد من القضاء على الأسطورة، التي تدّعي اختفاء العبودية من العالم الغربي عند سقوط الإمبراطورية الرومانية (446م) تضيف باتريسا.

وتؤصل باتريسا لذلك عبر أماكن عدة منها، وترى مثلاً أنه لتفسير ظهور العبودية عبر الأطلسي، لابد وأن نضع في الاعتبار ظاهرتين تميزان القرن الخامس عشر. أولاهما بداية الاستعمار الأوروبي، حيث بدأت شبه جزيرة إيبيريا تجارة الرقيق التي أصبحت شرعية ضمن سياستها الاستعمارية، وذلك نتيجة سلسلة من الأسباب منها تقاليده البحرية. والظاهرة الثانية هي إعادة توجيه تجارة العبيد عبر الأطلسي لتحل محل النقل التجاري، وهو الشيء الذي حدث في أعقاب استيلاء الأتراك على قسطنطينية عام 1453م.

وفي أعقاب انتقال العبودية إلى أمريكا ازداد الأمر سوءاً، بعد مرحلة أولية لتتخذ مساراً عنصرياً واضحاً، أصبحت بموجبه مقتصرة تماماً على الأفارقة على نحو أشبه باستعباد جماعي فُرض على السود. لكن هذا التحول حسب باتريسا لم يكن فورياً بل فُرض بطريقةٍ تدريجية. في مرحلة أولى تم استغلال الشعوب الأصلية حيث أدخل الاستيطان الإسباني "نظام العهدة الذي على أساسه يتم توكيل مستوطن واحد بعدد معين من سكان أمريكا الأصليين. يلتزم بتحويلهم إلى المسيحية، بالإضافة إلى توفير الحماية العسكرية لهم، وفي المقابل يُجبر السكان الأصليون على تقديم خدمات إلزامية لهذا المستوطن بلا مقابل في مجالات الزراعة والأعمال الحرفية.

الفصل الثاني تناولت باتريسا "حقبة تجار الزنوج"، ولاحظت أنه بداية من منتصف القرن السابع عشر، تجاوز عدد العبيد عدد العاملين بالعقود في العديد من مستعمرات العالم الجديد. بدأ تسجيل الزيادة الإجمالية لتجارة الرقيق بصفة ملحوظة منذ عام 1670، عندما استقر تنظيم إمداد السود وتوزيعهم بين أوروبا وأفريقيا وأمريكا. تقول باتريسا: "لا بد من الإشارة إلى أن التجارة كانت منتظمة حول ثلاثة مسارات. إن فكرة التجارة المثلثة التي تديرها أوروبا، والمعروفة بتجارة الرقيق عبر الأطلسي، لا تعني تماماً تورط القارات الثلاث كلِّها، حيث لم يكن الأمر يتضمن الأوروبيين فقط. إذ كان تجار الرقيق يبحرون في رحلات مباشرة من الأمريكتين أيضاً في اتجاه القارة السوداء. لقد شهد المجتمع الأفريقي داخلياً التواجد المزدوج، سواء للضحايا من مجموعات العبيد أو الأشخاص الذين لعبوا دوراً رئيساً ممن يدعون "تجار الرقيق السود".

يبدو الأمر جد مهول عندما نتأمل في الأرقام حقّاً نصاب بالصدمة، إذ تذكر باتريسا أن الموانئ الرئيسة لتجار الزنوج كانت تقع على المحيط الأطلسي، مُركزة في المثلث المكون من الساحل الهولندي وليفربول وبوردو. في بريطانيا العظمى، الدولة التي كانت تمد مستعمرات أخرى بالعبيد أيضاً، وخاصةً تلك الإسبانية، كانت ليفربول ولندن وبريستول تقوم بدور رئيس، حيث انطلق منها 9.663 حمولة من العبيد في الفترة ما بين 1500-1815 (نظمت منها ليفربول وحدها 4.894 رحلة)، أما بالنسبة لفرنسا فقد ظل الميناء الرئيس في كل الحقبة الحديثة هو ميناء نانت، الذي ظل نشِطاً إلى نهاية القرن السابع عشر. كان عدد الرحلات في الفترة الزمنية نفسها 1.714، ويأتي بعده في الأهمية ميناء لوهافر 451 رحلة.

هذه الأرقام المهولة لها نتيجتين الأولى، هي أن تجارة العبيد كانت أحد عوامل التطور الاقتصادي للغرب، والثانية أن تأثيرها على إفريقيا ذو طبيعة مختلفة تماماً. وبسبب تلك التجارة ضاع مستقبل إفريقيا وضاعت معه نساء إفريقيا بسبب العنوسة وبقيت متأخرة إلى اليوم.

وأما بالنسبة للفصل الثالث فتعالج فيه باتريسا "الجدل الفكري"، ترى باتريسا أن الإدانة الرسمية عبر عنها جون بودان، والذي انطلق من تحليل العبودية القديمة اليونانية والرومانية، وتلك المعاصرة له والمتعلقة بالهنود الحمر والسود. تقول باتريسا: "بالنسبة إلى بودان، الذي يعتبره بعض الدارسين مؤسس النزعة العلمانية المناهضة للعبودية، تُعد ممارسة العبودية نقيضاً لقانون الله، وليست مشروعة حتى في حقوق الحرب العادلة: فقط المنافقون يسمحون لأنفسهم بالعثور على تبريرات دينية لممارسة من شأنها أن تدفع إلى الانتفاضات، وأن تكون مصدر خطر على استقرار النظام السياسي".

وترى باتريسا أن إعادة المواقف المتبناة داخل الثقافة المسيحية، ذات الاتجاه البروتستانتي بصفة خاصة، تقودنا إلى الاعتراف بأنها بالفعل كانت أساس الحركة المناهضة للعبودية من خلال المنظور الذي وعدت به رسالة الإنجيل المؤيدة للمساواة، وبالتالي قادت إلى العتق.

ومن الموقف المسيحي البروتستانتي، انتقلت باتريسا إلى الحديث عن موقف التنوريين، وذكرت هنا أن المؤرخين اتفقوا فيما بينهم على أن القرن الثامن عشر كان القرن الذي شهد تفجر الجدل، ولكنهم لم يتفقوا على تفسير العلاقة بين التنوير والعبودية.

هنا تذكر باتريسا بعض المواقف من العبودية كي توضح العلاقة بين التنوير والعبودية، حيث انطلقت من مونتسكيو الذي عبر في كتابه الخامس عشر حول "روح القوانين"، عن إدانة واضحة للعبودية "من المستحيل بالنسبة إلينا أن نتحمل كون هؤلاء بشر؛ لأنه إذا افترضنا آدميتهم، سيحملنا ذلك على الاعتقاد بأننا لسنا مسيحيين". ونفس الموقف اتخذه جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي" عام 1762، حيث كانت إدانته صريحة "إن التخلي عن الحرية يعني التخلي عن الصفة الآدمية للشخص، وعن حقوق الإنسان بل وعن الواجبات الشخصية... لا يوجد شيء يدعى حق العبودية، ليس فقط لأن هذا غير شرعي، ولكن لأنه أمر عبثي أيضاً ولا معنى له. هاتان الكلمتان: عبودية وحق، كلمتان متناقضتان، فكل منهما تلغي الأخرى".

وكما تذكر باتريسا أيضاً، أن ماري- جان دو كوندورسي استخدمت كلمات قاسية جدّاً ضد تجارة الرقيق والعبودية في "تأملات حول عبودية الزنوج"، الذي نشرته دار نشر مجهولة عام 1781، "إن تحويل إنسان إلى عبد من خلال بيعه وشرائه والاحتفاظ به رهن العبودية هي جرائم حقيقة وفعلية، جرائم أسوأ بكثير من السرقة".

تخلص باتريسا هنا إلى أنه يمكن من خلال محاولة الوصول إلى موازنة إجمالية بشأن الحوار التنويري حول العبودية، أن نستنتج أن هذا الحوار نضج تدريجياً في القرن الثامن عشر، وأنه، بغض النظر عن الإدانة العامة، كان يتراوح بين اقتراحات مختلفة: الإلغاء التدريجي، الذي كان يميل إليه التنويريون بصفة عامة أكثر من الإلغاء الفوري في محاولة للاحتفاظ بالسيطرة على المستعمرات.

إن التفكير التنويري حول العبودية في رأي باتريسا شكل تحولاً في تاريخ الفكر الغربي. ليس فقط لأن الإدانة الجذرية للعبودية على المستوى النظري قد نضجت داخل الثقافة الفلسفية، أو لأن التحول من مجرد رفض أخلاقي إلى رفض ذي طابع سياسي قد تم في هذه الأجواء، بل، وهو الأهم؛ لأن إعلان تلك الإدانة جاء ليس باسم خلاص النفوس، ولكن باسم حق الحرية لمن يعمرون البسيطة، في إطار العدالة الأرضية للإنسانية دون استثناء.

وفي الفصل الرابع "نحو عتق القرن التاسع عشر"، إذ بدأت المسيرة التي قادت الدول الأوروبية المتورطة في ممارسة العبودية إلى إصدار قانون العتق النهائي أثناء القرن التاسع عشر، وتم تفسيرها بطرق متنوعة على المستوى التاريخي. فعلى سبيل المثال، تذكر باتريسا أنه قد سادت فكرة منذ بداية القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتشرت انطلاقاً من النموذج الإنجليزي بأن ما حدث كان نتيجة انتشار التيارات الإنسانية والخيّرة. دشّن انطلاق تلك المناقشة المؤرخ الماركسي إيريك ويليامز الذي لفت الانتباه، في كتابه "الرأسمالية والعبودية" (1944)، إلى التغيرات الاقتصادية ليشير إلى أن العبودية أُبطِلت إما بسبب أنها لم تعد تدرُّ ربحاً في مرحلة تدهور مزارع جزر الكارييب، أو بسبب أنها لم تعد ضرورية في إطار التطور الصناعي الذي نقل مركز الجاذبية من المستعمرات إلى الوطن الأم. أعتقد أن قراءة ويليامز قراءة غير دقيقة ومتجاهلة الواقع؛ فالعتق ليس بسبب ما ذهب إليه، بل هو نتيجة حدوث وعي بضرورة القطع مع العبودية وإنهاء استغلال البشر.

وفيما يتعلق بطريقة التوصل في وقت لاحق إلى قمع العبودية يمكن الاعتراف، على المستوى الغربي، بوجود نموذج أنجلو- أمريكي تميز بدعاية جماهيرية وبمشاركة واسعة للرأي العام، فضلاً عن وجود نموذج القارة الأوروبية التي يبدو فيها العتق ثمرة التزام مجموعة مختارة قائمة على السلطة، أي نتاج الجدل والاختيارات البرلمانية. وترى باتريسا أنه لا بد من الإشارة إلى أن العتق في بريطانيا، الذي شرَّعه "قانون إلغاء العبودية" الصادر في 28 أغسطس 1833، كان بالفعل الثمرة المبكرة للحركة المناهضة للعبودية وبشكل منظم، تلك الحركة التي عملت في بيئة تميزت بوجود تراث طويل من حرية الصحافة.
 

وفي الخاتمة خلصت باتريسا إلى الإجراء الذي قاد الغرب إلى القضاء على العبودية في غضون القرن التاسع عشر نتيجة عوامل متنوعة: منها التغيرات الاقتصادية التي تضمنت انتقال سياسات الاستعمار نحو عوالم جديدة، وبصفة خاصة نحو قارة آسيا، حيث كان يمكن العثور على أيد عاملة حرة من الناحية القانونية أجرها ضئيل وتعمل بالتعاقد، ومنها التطورات الحادثة في مسار النزعة التحريرية أيضاً، ومن ثم نحو الديمقراطية التي زادت من تناقض وجود عبودية على أسس عرقية. ونضيف نشوء وعي شبه جماعي، لم يطق رؤية الإنسان وهو محروم من الحرية ومن أبسط ظروف العيش الكريم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها