الغذاء عامل حاسم في انهيار الدول عبر التاريخ

د. مصطفى وجيه مصطفى إبراهيم

كثيرة هي الأقاليم الجغرافية التي شهدت أزمات وكوارث، عرفت على إثرها سلسلة من التحولات الكبرى والانعطافات الحاسمة في مسارها التاريخي، ومن هذه الكوارث كانت "المجاعات" أو "أزمات الغذاء" أو "الغلاء" وهي من أشد البلايا وقعاً على حياة المجتمع، وبخاصة أن بعضها كان يفرز واقعاً مريراً تصعب على فئات المجتمع معايشته، فكانت قلة الغذاء أو انعدامه -ولا يزال- هي بيت القصيد في كل المناقشات السياسية والصراعات المحتدمة بين النظام السياسي الحاكم والشعب، وكان الشعب دائماً ومن يمثله من قوى سياسية شعبية تُحمِّل شخصية الحاكم، وطريقة إدارته للدولة ومواردها العبء الأكبر في كل هذه الشؤون وتلك الشجون.
 

 وكُلَّما نقص الغذاء واشتدت وطأة الجوع  كان حلم الخلاص من الحاكم هو الهدف، إذ إنَّ المخيلة الشعبية في العصور السالفة –وربما الحالية- كانت تؤمن أن الخلاص من مصيدة الجوع مرتهن بالخلاص من الحاكم، فنقص الغذاء والفقر ومن ثم الجوع حميم لعامل اللامساواة، وغياب العدل والعدالة الاجتماعية والجنائية، وفي ذلك نجد الجوع والغلاء أو الغلاء والجوع مثلاً وجهان لعملة رديئة واحدة، عانت منها المجتمعات بين الحين والاَخر على مر تاريخها الطويل، ولكنها كانت أكثر شيوعاً عندما تعجز السلطة عن مواجهة الأزمات لضعف فيها، أو صراع داخلها، أو لسقوط هيبتها، وقلة حيلتها، وكان مثار الأزمات دائماً يعود إلى حدوث ندرة مفاجئة في الموارد1، ومن ثم تؤثر على الغذاء الضروري المتاح بالأسواق، وغالباً ما كانت تحل المجاعة حتى تجر في أذيالها الوباء، أو يحل الوباء حتى يعصف بقوة العمل فيشح الغذاء ويظهر الغلاء وتقع الأزمة الغذائية2. فإذا قُدِّرَ للبلادِ أن يتولى زِمامَ أُمُوِرها حاكم هُمَام، كان بالإمكان احتواء الأزمة ومعالجة آثارها، أما إذا كانت الإدارة عاجزة عن إدارة الأزمة، فالهلاك والخراب، وسقوط النظام الحاكم وتدهور الأحوال نتيجة اتساع دائرة الأزمة زماناً ومكاناً واقع لا محالة3. وهذا ما يلاحظه الدارس للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة العربية في عصور السيادة الإسلامية بالخصوص. فالمعاصرون من المؤرخين يشعرون بالمرارة والأسف لما تعرضت له جماهير الشعب من حوادث المجاعات، التي كانت نتيجة لنقص الإنتاج الغذائي؛ بسبب عامل من العوامل، فأخبار القحط والمجاعات والطواعين التي يرصدها كتاب الحوليات ليست سوى كوارث تعكس صراع الناس ضد الجوع وأمراض سوء التغذية بسبب نقص الغذاء.

وإليك صُوَّراً من الحالات التي كان فيها الغذاء عاملاً حاسماً في انهيار الدول عبر التاريخ.

في مصر: نجد أن كوارث الغذاء تاريخياً جاءت في نهاية عهود، فهي نتيجة للفساد السياسي، وعلامة النهاية لأنظمةٍ لا تتحمل مسئولياتها في توفير كسرة الخبر وشربة الماء لمواطنيها، فالمجاعة أنهت الحكم الإخشيدي وكانت سبباً في فتح الباب أمام الفاطميين الذين رحب بهم الشعب المصري لإنقاذه من ويلات الغلاء ونقص الغذاء، وتكرر ذات الأمر في نهاية العهد الفاطمي فكانت سبباً في زوال الفاطميين، ويقول المقريزي عن إحدى هذه الحالات في العصر الفاطمي: "ثم وقع في أيام المستنصر الغلاء الذي فحش أمره وشنع ذكره وكان أمده سبع سنين، وسببه ضعف السلطنة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن بين العربان وقصور النيل وعدم من يزرع ما شمله الري" (إغاثة الأمة).

وتكررت حالات نقص الغذاء في الدولة الفاطمية مما أدى إلى فتح الطريق أمام الأيوبيين الذين ذاقوا من نفس الكأس، بسبب المجاعة، ويروي ذلك المقريزي في السلوك فيقول عن نقص الطعام وحدوث مجاعة فى سلطنة العزيز عثمان ابن صلاح الدين الأيوبي: (كثرت الطرحى من الأموات على الطرقات، وزادت عدتهم بمصر والقاهرة في كل يوم عن مائتي نفس، وبقي بمصر من لم يوجد من يكفنه، وأكثرهم يموت جوعاً... وعمد الضعفاء إلى شراء الجرار، وغدوا إلى البحر وترددوا إليه، ليستقوا منه في الجرار، ويبيعوها بثمن درهم الجرة، وقد لا يجدون من يشتريها منهم، فيصيحون: من يتصدق علينا بثمن هذه الجرة، ومن يشتريها منا بكسرة (خبز)؟. وزاد السعر، وضاق الخناق، وهلك الضعفاء، وفشا الموت، وأكثره في الجياع. وصارت الأقفاص التي يحمل فيها الطعام يحمل فيها الأموات، ولا يقدر على النعوش إلا بالنوبة، وامتدت الأيدي إلى خطف ألواح الخبز ويضرب من ينهب، ويشج رأسه، ويسيل دمه، ولا ينتهي ولا يرمي ما في يده مما خطفه... وكثرت بمصر والقاهرة الأمراض الحادة والحميات المحرقة، وزادت وأفرطت. وغلت الأشربة والسكر وعقاقير العطار، وبيعت بطيخة بأربعة وعشرين درهماً، وصار الدجاج لا يُقدر عليه، وانتهى سعر القمح إلى مائتي دينار كل مائة أردب، وغلظ الأمر في الغلاء، وعدم القوت، وكثر السؤال، وكثرت الموتى بالجوع. وخطف الخبز متى ظهر، وشوهد من يستف التراب، ومن يأكل الزبل... وكثرت الأموات أيضاً بالإسكندرية، وتزايد وجود الطرحى بها على الطرقات، وعدمت المواساة، وعظم هلاك الأغنياء والفقراء وانكشاف الأحوال، وشوهد من يبحث المزابل القديمة على قشور الترمس، وعلى نقاضات الموائد وكناسات الآدر، ومن يقفل بابه ويموت، ومن عمي من الجوع ويقف على الحوانيت ويقول: أشموني رائحة الخبز.

 وفي شهر ربيع الآخر: وفيه كثر الموت، بحيث لم تبق دار إلا وفيها جنازة أو مناحة أو مريض، واشتد الأمر، وغلت العقاقير، وعدم الطبيب، وصار من يوجد من الأطباء لا يخلص إليه من شدة الزحام، وصار أمر الموتى أكثر أشغال الأحياء، وما ينقضي يوم إلا عن عدة جنائز من كل حارة. وعُدم من يحفر، وإذا وجد لم يعمق الحفر، فلا يلبث الميت أن تظهر له رائحة وصارت الجبانات لا يستطاع مقالتها، ولا زيارة قبورها). وقد زادت هذه المآسي وزادت حالات الجوع ونقص الغذاء وانعدامه؛ بسبب الاضطراب السياسي بين ورثة صلاح الدين الأيوبي، وانعكس تأثيره على حكمهم مصر حتى سقطت دولتهم.

وغاب ملكهم وجاء المماليك وسقطت دولة المماليك البحرية بسبب كثرة الجوع وكانت المجاعة التى حدثت في عصر الأشرف شعبان، والتي استمرت من (775هـ-777هـ) نموذجاً بالغ الدلالة على خطورة نقص الغذاء، حيث ارتفع سعر القمح 150% والشعير شرحه وعزت الأقوات وقلَّ وجودها، فمات الكثيرون من الجوع حتى امتلأت الطرقات وأعقب ذلك وباء مات فيه كثير من الناس ودام هذا الغلاء نحو سنتين4. مما تسبب في قتل السلطان الأشرف شعبان وسقوط دولة المماليك البحرية عقب ذلك، وقيام دولة المماليك الجراكسة.. التي سقطت هي الأخرى نتيجة كوارث نقص الطعام الكثيرة، والتي زادت في عهدهم، مما جعل الدولة تنهار عسكرياً بسبب الانهيار الاقتصادي وتصبح لقمة سائغة، التهمها العثمانيون في معركة واحدة. وقد رصد المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي 18 مجاعة ضربت مصر عبر التاريخ، وكشف المآسي التي عاشها المصريون بسبب الغلاء والجوع، وتحدث عن الأوبئة التي كانت تصاحب هذه المجاعات بسبب كثرة الموتى ورائحة الموت. وقد أرجع المقريزي في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" سبب المجاعات إلى "سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد".


وفي الأندلس: كان نقص الطعام سبباً مباشراً في سقوط النظم السياسية الحاكمة أيضاً: فعلى سبيل المثال في صفر من عام 609هـ كانت هزيمة المسلمين الثقيلة في العِقاب، ولم تكن فقط إيذاناً بأفول السلطة الموحدية في الأندلس، ولكن أيضاً كانت سبب خراب الأندلس على حد تعبير بعض المؤرخين المسلمين، وما يهمنا في هذا المقام أن هزيمة العقاب شدَّت من ساعد حركة الاسترداد، فسقط تباعا عدد من المدن الأندلسية، وكثيراً ما كان يتم حصار المدينة حتى يقع أهلها فريسة للجوع ثم تستسلم.
من ذلك أن بعد حوالي سنتين من العقاب ملك النصارى مدينة أفراغة Fraga صلحاً بعد حصار شديد "حتى أكل أهلها الجيف"5. ومرة أخرى عانت بلنسية الجوع، فقد حاصرها خايمه الأول Jaime Iفي يوم الخامس من رمضان سنة 635هـ قرابة أربعة أشهر، حتى استسلامها في 14 من صفر سنة 636هـ وخلال الحصار "نفدت الأقوات، واستولى الجوع، وضعفت القوى، وأكلت الجلود والزقوق" حسب نص ابن الخطيب6، وبعد قرابة عشر سنوات وقع شيء مماثل في حصار إشبيلية من قبل النصارى، الذي بدأ في جمادى الأولى سنة 645هـ فعانى أهلها الجوع، وحسب نص ابن عذاري: "ومات بالجوع خلق كثير، وعدمت الأطعمة من القمح والشعير، وأكل الناس الجلود"، والوباء والقتل حتى انتهى الأمر باستسلامها وخروج أهلها عنها في 27 رمضان سنة 646هـ بعد حصار دام مدة عام7. وهو ما يثبت أن للغذاء دوراً حاسماً في استمرارية الدول أو انهيارها وسقوطها.

ومن الطبيعي أن نوضح أن بعض أسباب نقص الغذاء تكون أحياناً نتائج في حد ذاتها، حيث تتشابك العوامل والنتائج بسبب استمرارية العملية التاريخية، ولا يمكننا حصر أسباب نقص الغذاء، في الدول في عناصر بعينها بصيغة الجامع المانع؛ لأن التدهور العام في بنية الدولة والمجتمع هو سبب من أسباب الأزمات الاقتصادية بقدر ما هو من نتائجها. والحقيقة أن التداخل بين الأسباب والنتائج واستمرارها في شكل حلزوني صاعد، بحيث تكون العوامل سبباً ثم تصبح نتيجة بحيث يصعب تحديد مدى تأثير السبب في النتيجة، التي لا تلبث أن تصبح بدورها سبباً... وهكذا -هذا التداخل واضح تماماً في فترات ضعف الدول-. فمثلا: نقص الإنتاج يكون سبباً في عدم كفاية العائد العيني من الغذاء، فيزيد الاعتماد على الرواتب النقدية، مع تضاؤل عائدات الدولة؛ يلجأ الحكام إلى تخفيض قيمة العملة مما يؤدي إلى حالة من التضخم "الغلاء"، كذلك كان التدهور السكاني والاختلال الاجتماعي الناتج عن الأزمات والمجاعات والأوبئة، من أسباب المزيد من التدهور الاقتصادي والسياسي، وانهيار الأمن، فضلا عن تضاؤل الإنتاج الزراعي والصناعي، وانحسار التجارة الداخلية والخارجية بسبب الضرائب، التي تزيد الدولة من فرضها لتعويض العجز في مواردها.

 كذلك فإن تدهور الإنتاج الغذائي/ الزراعي بسبب إهمال وسائل الري والصرف، يكون سبباً في تدهور الإنتاج الزراعي من ناحية، كما تتسبب السياسة الضريبية الظالمة، ثم الاحتكار التجاري لبعض البضائع، ونظام طرح البضائع في اختفاء صناعات كثيرة... هكذا تتفاعل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بل والثقافية بحيث تصل رحلة الغروب بالدول إلى نهايتها وتسقط.

كانت هذه بعض الملامح التي تؤكد على ما للغذاء من أهمية في حياة الدول واستقرارها.


 
الهوامش
1. C BORER , What become of The mameluks ?, designed and illustrated by Deniswrigley، Wheaton amember of the pergamon Group، 1969، p.24.
2. انظر بالتفصيل: مصطفى وجيه مصطف: الغذاء في مصر عصر سلاطين المماليك، القاهرة- دار عين للبحوث الإنسانية،2016م. ص: 209-247. J . W. BETHANY, “Agriculture as an economic barometer for late Mamluk Jordan”, M.S. R.، vol.11.no. 1، middle East university of Chicago، 2007، p. 185 and beyond.
3. W. MICHEAL and A. LEVANONI, The Mamluks in Egyptian and Syrian politics and society, Boston - Brill Leiden 2004، p.266.
4. المقريزي: إغاثة الأمة، ص: 40، السلوك، ج3، ص: 237؛ ابن إياس، بدائع، ج1 ق2، ص: 137.
5. مجهول: الذخيرة السنية ص: 49.
6. أعمال: ص: 273.
7. البيان: 5، ص: 380.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها