اللغة الإعلامية .. فصحى أم لهجات عامية

د. هشام الدباغ

لا بد بداية من طرح سؤال مهم حول قضية الفصحى والعاميات فـي الإعلام الإذاعي والتلفازي على وجه التحديد، لأن الفصحى فـي المطبوع لم تزل لغة مهيمنة حتى الآن: 

لمـاذا اقترن ظهور وتطور وسائل البث الإلكتروني بجنوح اللغة الإعلامية إلـى الاستعانة بالعاميات فـي العديد من موادها فـي أغلب موادها أحياناً، ولماذا تشهد الفصحى تراجعاً مطرداً في جميع البرامج الإذاعية والتلفازية، باستثناء البرامج الإخبارية التي لم تسلم هي الأخرى من غزو العاميات؟

يقول بعضهم: إن طبيعة هذه الوسائل التي انبعث فيها الصوت الإنساني بعد قرون طويلة من الإعلام الجماهيري الصامت، والتي قرنت هذا الصوت بالصورة المتحركة والملونة، والتي اخترقت المكان وابتلعت الزمان، قد صنعت جمهوراً إعلامياً يحتوي شرائح أمية وشبه أمية أبجدياً ومعرفياً وثقافياً، مما جعل الفصحى تشكل حائلاً اصطلاحياً وتواصلياً وتأثيرياً لا يمكن تخطيه إلا باللجوء إلى العاميات التي تضفي على العملية الاتصالية للإعلام المسموع والمتلفز وضوحاً وحميمية وفعالية تحقق الأهداف الجوهرية للإعلام الجماهيري. 

إن أكثرية الإذاعات والتلفازات التي تدخل العاميات إلى أغلب موادها تعتقد أن استخدامها هي الوسيلة الأفضل لاستقطاب مزيد من الجمهور الإعلامي العربي في الأوساط التعليمية والثقافية الدنيا. ولعل مصر ولبنان هما البلدان العربيان الأكثر استخداماً للعاميات الموجودة لديهما، الأولى في محاولة لتعليم لهجتها واستبدالها باللغة الفصحى استناداً إلى تراث سينمائي عريق استطاع نشر هذه اللهجة في جميع العالم العربي، والثانية لاعتقادها أن العصرنة والتطور ومحاكاة الأمم الأكثر تقدماً تستوجب الابتعاد عن الفصحى واللجوء إلى العاميات، رغم أن جميع البلدان المتقدمة تستخدم لغاتها الفصحى فحسب في موادها الإذاعية والتلفازية، بما فيها الأعمال الفنية كالدراما والمسلسلات والبرامج الترفيهية.

ويعتقد البعض أن محاولة تسييد العاميات في الإذاعة والتلفزيون ينطوي على مؤامرة يحيكها أعداء العرب والمسلمين لتبديد اللغة العربية الفصحى التي تعدّ عاملاً تاريخياً وتراثياً أساسياً في دفع العالمين العربي والإسلامي نحو التوحيد والانصهار. ولكن بعيد عن نظرية المؤامرة وما تنتجه من طروحات اتكالية وذرائعية، فإن ثمة محطات إذاعية وتلفزية عربية تتعمد ترويج العاميات على حساب الفصحى، انطلاقاً من خلفيات سياسية وفكرية وعقائدية مناوئة للأطر القومية والإسلامية بصورة عامة. ولكن هذه المحطات تشكل قلة في المنطقة وخارجها.

لا ريب أن تواصلاً بهذا المعنى والاتجاه بين العاميات والفصحى سيؤدي إلى تفاقم معضلة اللغة الإعلامية وإلى خلق مشكلات جديدة على صعيد اللغة بشكل عام، لأن العاميات ستحافظ على بقائها بقوة استمرارية العلاقات الإنسانية الأولية، ولأن اللغة العربية الفصحى ستصبح «لغات عربية فصحى» لا قواعد لها ولا أطر.

ـ تكمن خطورة دخول العاميات إلى قلب اللغة العربية في أن ذلك يبدو لأول وهلة، حلاً توفيقياً معقولاً، لا سيما أن الموضوع يطرح وكأن هناك عامية واحدة في العالم العربي، إلا أن التمعن في هذه التوفيقية يجعلنا ندرك محاذيرها، خاصة أنها تعرض استناداً إلى معطيات غير واقعية، وتقدم ببساطة لا تتناسب وحجم المشكلة ولا تقدر عواقبها.

فمصر هي أكثر الأقطار العربية غزارة وتدفقاً في إنتاج مثل هذه الأعمال الفنية وإعدادها غير أن أقطاراً عربية أخرى أخذت في الآونة الأخيرة تنتج للتلفزة وتوزع عربياً أعمالاً فنية متنوعة بكميات لا يستهان بها مستخدمة عاميتها، وهذا ما يزيد المشكلة اللغوية تعقيداً. لقد حاول بعض الفنانين الرواد في مصر إدخال عدد من مفردات اللغة الفصحى إلى سيناريو بعض الأفلام السينمائية خلال الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن، إلا أن التجربة لم تستمر وبدا وكأنها لم تحقق نجاحاً. من الضروري طرح هذا الموضوع على بساط البحث من جديد في محاولة لدراسة إمكان تطعيم العاميات بمفردات من اللغة العربية الفصحى دون الإخلال بالشروط الفنية والتقنية للعمل، بهدف إيجاد لغة عربية مشتركة صالحة لمثل هذا النوع من الأعمال الفنية. ويزداد هذا الموضوع أهمية وإلحاحاً في الوقت الراهن، لأن الإسفاف والانحدار الذي وصلت إليه اللغة المستخدمة في عدد كبير من هذه الأنشطة الفنية جعل الكلمة المنطوقة تهبط إلى الحضيض، فالعاميات تبقى مرتعاً خصباً للرداءة في غياب الفصحى التي تستطيع على الأقل أن تضمن حدّاً أدنى من الحصانة اللغوية والأخلاقية. صحيح أن هذا الانحطاط ما هو إلا إفرازات لواقع حياتي تعيشه المجتمعات العربية، وصحيح أن الأمر يتطلب معالجة الانحطاط العام معالجة شمولية، إلا أن الإعلام الجماهيري معنيّ مباشرة بالمشاركة في وضع حدّ لهذه الظاهرة المتفاقمة، لأن تلك الأعمال الفنية لم تعد محصورة في مسرح أو صالة سينما أو قاعة أو مدرج، بل أصبحت تتمتع بفضل الإذاعة والتلفزة بانتشار واسع وجمهور عريض. هناك بطبيعة الحال أعمال فنية جيدة ومتطورة، إلا أنها استثناءات تؤكد القاعدة. المهم في هذا الموضوع كله أن يحاول الإعلام باستمرار التعامل مع اللغة العربية الفصحى في مجالاته كافة، ضمن إطار خصوصيته وإمكاناته التطويرية، وذلك للأسباب التي تمت الإشارة إليها، ولكي يحقق أيضاً شيئاً من التوازن مع تلك الأعمال الفنية العامية التي يحتضنها الإعلام الجماهيري والتي تشكل جانباً لا يستهان به من البرامج اليومية للراديو والتلفزيون.

وفي الوطن العربي الآن عشرات الفضائيات ومثلها الإذاعات، وما لا يحصى من الصحف والمجلات، وكلها تكتب وتنطق بالعربية، إلاَّ أن الأمة التي تعاني التفتت والشتات لا تستثمر الإمكانات التي توفرها هذه الوسائل وفقاً للطموح القومي. كما أن المنظمات المعنية كالجامعة العربية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمجامع العربية والجامعات واتحادات الكتّاب والأدباء لا تقوم بدورها على الوجه المطلوب، أو أنه لا يتاح لها القيام بدور المتابعة والربط بين الجهود المتعددة لحماية الفصحى وتهميش اللهجات . ولعل أخطر ما تعرض له العرب من تحديات في القرنين الماضيين (التاسع عشر والعشرين) هو ذلك التحدي الذي عانته اللغة العربية بوصفها العنصر الأول والمهم بين كل العناصر المكونة للأمم، فقد أدرك الغزاة، الذين طمحوا إلى احتلال الوطن العربي وتمزيق أوصاله، أن نجاحهم في هذا يعتمد على إيجاد قطيعة تامة بين العرب ولغتهم الفصحى واستبدالهم بها لغات الغزاة أو اللهجات العامية. وكادت تلك المحاولات أن تنجح في تحقيق أهدافها نظراً للجهل الذي كان سائداً في معظم الأقطار العربية من جهة، ولبطء حركة التحديث الشامل من جهة ثانية . وبوسع الباحث- أي باحث- أن يتتبع أنماطاً ونماذج عديدة من المحاولات التي تمت في مصر والشام والمغرب العربي بأقطاره الثلاثة، تونس والجزائر والمغرب، حيث نشطت الدعوات الأجنبية في التغريب وسعت إلى الحض على تبني لغة المستعمر جنباً إلى جنب مع إحياء اللهجات الميتة.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 246 (صفحة 6)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها