من‭ ‬أوائل‭ ‬المواقع‭ ‬الـمُدرجة‭ ‬ضمن‭ ‬التراث‭ ‬العالمي

منارة‭ ‬إشبيلية "الجيرالدا"‭ ‬‭.. ‬درة‭ ‬فـي‭ ‬تاج‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية

حسني عبد الحافظ

يُعد فن العمارة، أحد أهم الفنون التي برع فيها طائفة كبيرة من مُهندسي الحضارة الإسلامية، ولعل ما تركوه من معالم وآثار، ما زال كثير منها قائماً إلى الآن، خير شاهد على ذلك.. ففي الشرق، انظر وتدبر في عظمة بناء تاج محل، وقصور الهند العتيقة، وفي الغرب تأمل في حمراء غرناطة، وقصور وحدائق الزهراء، وقرطبة..ومن المعالم التي يُشار إليها بالبنان، منارة إشبيلية "الجيرالدا La Giralda"، التي تصنف ضمن روائع العمارة الإسلامية، بل والإنسانية قاطبة، حيث أُدرجت ضمن مواقع التراث العالمي.. وقد وصفها إلفونسو العاشر، في المصنف الموسوم (تـاريخ إسبـانيـا العـام)، بقوله «هي كبيرة الجرم، بديعة العمل، عظيمة الصنعة، لا مثيل لـعظمتها في العـالـم».

وصلنا إلى إشبيلية Sevilla، قبل انتصاف الشمس في كبد السماء..إنها مدينة رائعة، تتنسَّم وأنت تتجوَّل فيها، عبق التاريخ والحضارة.. أصل تسميتها «إشبالي» Hispalis، التي تعني «المدينة ذات الأرض المنبسطة».. فتحها موسى بن نصير عام 93هـ.. ذكرها ابن حيان قائلاً: «هي من أعظم مدائن الأندلس شأناً، وأكثرها آثاراً».. اتخذها الموحدون عاصمة لهم.
من وسط المدينة، سلكنا طريقاً، لم نواصل فيه السير طويلاً، حيث بدت لنا المنارة الرائعة، بقامتها الرشيقة الشاهقة. إنها تحتل موقعـاً استراتيجياً، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث تُشرف على مدينة إشبيلية، من نواحيها الأربع، كما تُشرف على نهر الوادي الكبير، الذي يمر قريباً منها.

 

نظرة.. من البداية 

ما صار الجامع الصغير، الذي بناه الموحدون، في بدء عهدهم بإشبيلية، غير قادر على استيعاب جموع المصلِّين، وكذا جامع عمر بن عدبس.. أمر الخليفة الموحدي الثاني، يوسف بن عبد المؤمن، ببناء مسجد جامع، يُنافس جامع قرطبة الكبير، كان ذلك في شهر رمضان عام 567هـ/ 1172م، حسب ما أورده المؤرخ ابن صاحب الصلاة، في مُصنفه (المن بالإمامة)، لقد استدعى الخليفة، لمباشرة أعمال البناء، «شيخ العُرفاء أحمد بن باسه، وأصحابه العرفاء البناؤون، من أهل إشبيلية، وجمع من عُرفاء أهل الأندلس، ومعهم عرفاء البنائين من أهل مراكش، ومدينة فاس، وأهل العدوة».
إلاَّ أن الخليفة، الذي كان حريصاً على مُداومة الحضور، لمتابعة أعمال الإنشاء، قد غادر إشبيلية، على رأس حملة عسكرية، لمُحاصرة مدينة شنترين، في البرتغال، وكلَّف أبا داوود بادل بن جلداس، بمُتابعة التنفيذ، ولما عاد يوسف بن عبد المؤمن من غزوته، لم يمكث طويلاً في إشبيلية، حيث وافته المنية، مُتأثراً بإصابة كانت قد لحقته إبان غزوته..وبعد أشهر قليلة، توفي وليِّه أبو داوود، وتوقف البناء.. إلى أن بويع يعقوب بن يوسف بالخلافة، وتلقَّب بالخليفة المنصور، وكان من أوائل القرارات، التي اتخذها الخليفة الجديد، مواصلة العمل في بناء المسجد، ومنارته (صومعته).
وبالفعل بدأ كبير العرفاء ابن باسه، في مواصلة البناء، حتى فرغ من إتمام المسجد، ليبدأ في العام 584هـ / 1188م، تشييد المنارة، ولكن الموت لم يُسعفه بإكمالها..فأخذ مكانه العريف علي الغماري، الذي لم يكن على عجل في الانتهاء من بنائها، بل كان مُتأنياً لفترة طويلة، دامت نحو عشر سنوات، لتخرج في أبهى صورة، تسر الناظرين. 

 

التفاتيح الذهبية 

وبحسب المصادر التأريخية، فإن يعقوب بن يوسف، لما عاد من موقعة الأرك، مُنتصراً على القشتاليين، عام 593هـ / 1196م، أمر بإضفاء المزيد من الأُبهة والجمال على المنارة، من خلال التفاتيح الذهبية البديعة الصنعة، التي رُفِعت إلى أعلى المنارة، في حفل كبير، كان من بين حضوره، المؤرخ ابن صاحب الصلاة، الذي سجَّل هذه الواقعة، قائلاً: «لـمَّـا وصل أمير المؤمنين، وهزم الله له أذفونش الطاغية، أمر في مُدَّة إقامته بإشبيلية، بعمل التفاتيح الغريبة الصنعة، العظيمة الرفعة، الكبيرة الجرم، المذهَّبة الرسم، الرفيعة الاسم والجسم، فرُفعت في منازلها، بمحضره، وحضر المهندسون في إعلائها على رأيه، وبلوغ وطره، مُركَّبة في عمود عظيم من الحديد، مرسى أصله في بنيان أعلى الصومعة، أعلاها زنة العمود مئة وأربعون ربعاً من الحديد، موثقـاً هناك في تلاحم البنيان، بارز طرفه الحامل لهذه الأشكال المسماة بالتفاتيح إلى الهواء، يكابد من زعازع الرياح، وصدمات الأمطار، ما يطول التعجب منه من مقاومته وثباته، وكان عدد الذهب، الذي طُليت به هذه التفاتيح الثلاث الكبار، والرابعة الصغرى، سبعة آلاف مثقال كباراً يعقوبية، عملها الصياغ، بين يدي أمير المؤمنين وحضوره، ولما كُمِلت سترت بالأغشية، من شقاق الكتان، لئلا ينالها الدنس، من الأيدي والغبار، وحملت على العَجل، مجرورة حتى الصومعة (المنارة)، بالتكبير عليها والتهليل، ورفُعِت بالمسدسة (آلة رفع عربية الصُنع)، إلى أعلى الصومعة، ووضعت في العمود، وحصلت فيه، بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور، وبمحضر ابنه وولي عهده أبي عبد الله السعيد الناصر لدين الله، وجميع بنيه، وأشياخ الموحدين، والقاضي، وطلبة الحَضر، وأهل الوجاهة من الناس، وذلك في يوم الأربعاء، عقب ربيع الآخر، بموافقة التاسع عشر من مارس العجمي، عام أربعة وتسعين وخمسمئة، (594هـ/1197م)، ثم كشف عن أغشيتها، فكادت تغشي الأبصار، من تألقها بالذهب الخالص، وبشعاع رونقها».
وجدير بالإشارة، أن صانع هذه التفاتيح، والمشرف على رفعها إلى أعلى المنارة، هو أحد كبار مُهندسي العمارة في العالم الإسلامي آنذاك، أبو الليث الصقلي، أما نفقات التذهيب، فوصلت إلى ما يزيد على المئة ألف دينار، كما أورد ابن أبي زرع، في مصنفه (روض القرطاس)، إلاَّ أن جلّ هذه التفاتيح، سقطت إثر الزلزال المروع، الذي ضرب إشبيلية عام 756هـ / 1355م، ليُقيم الإسبان مكانها، قُبَّة بصليب، وغُرفة أجراس، وذلك عام 801هـ/1400م، ولكن صاعقة ضربت القبة، وتهدَّمت أجزاء منها، وذلك عام 900هـ/ 1494م، وسقطت الأجزاء الباقية، إبان زلزال عام 910هـ/1504م، ليُبنى مكانها غُرفة أجراس، من تصميم المهندس القرطبي هرمان رويث Herman Ruiz، يعلوها تمثال برونزي، ارتفاعه نحو 4 أمتار، سنأتي على ذكره لاحقاً، مـن تصميم برتولومي موريل.. وتظل جلّ أجزاء المنارة الأصلية، كما بناهـا الموحدون، صامدة ومحفوظة إلى الآن.

 

زخارف وفنـون

إن كثيراً من الزخارف والفنون، التي ما زال بعضها يحتفظ بجماله، محفورة في الآجر كالمخرَّمات، موزَّعة في تناسق واتزان، مع دِقَّة وبساطة، تنطقان بروعة البيان..وثمة أقواس تحيط بالنوافذ، وهذه مُتباعدة أو متجمعة بشكل طبقات زخرفيه، وألواح من المشبكات.
إن نظام الزخارف «الذي اتُّبع في الجيرالدا، سواء في جسمها الخارجي، أو نواتها الداخلية، يكشف عن مدى التأثير البالغ، الذي انعكس على الفن الموحدي، من الفن الأندلسي..وكان لكثرة عدد العُرفاء والمهندسين وتنوعهم، أثر في غنى الزخرفة، وتعدد مصادرها، فنحن نرى فيها أثر جامع قرطبة، ومباني سرقسطة، والمرية، ومالقة، ذلك الأثر المتمثل في الإفراط بالزخارف الدقيقة، المتناسقة المتوازية، والذي سنراه في قصور الحمراء، بعد قرنين من الزمن».. ومن المظاهر التي تنطق بالإبداع الفني، وروعة الصنعة في الجيرالدا، اتفاق الشكل الخارجي، مع النظام الداخلي، كما لو كان ثمة مرآة تعكس صورتها. 

 

الصعود من الانحدار..!!

ومن الناحية الهندسية، فإن منارة المسجد الجامع بإشبيلية، ترتكز على قاعدة مُربَّعة الشكل، طول ضلعها 6,25 متر، تم بناؤها من الحجر المسمي «طجون»، أُخذ جله من سور قصر ابن عباد، والمنارة ليست ذات أدراج، بل يُصعَد إلى مصطبتها العُليا، عن طريق انحدار مُتدِّرج، يتألف من 35 مقطعاً، يدور حول نواة داخلية، تتكوَّن من سبع غُرف، مُنشأة فوق بعضها بعضاً، سُقِّفت الخمس السفلى منها، بقباب نصف كروية.. والجسم المركزي، يتصل في الأعلى، بتاج قنديلي مربع.
وفي الوقت الحاضر، ترتفع المنارة إلى نحو 97,5 متر، كانت في الأصل 91 متراً، ركَّب عليها الإسبان، في العام 1568م، تمثالاً برونزيـاً رمزاً للنصرانية، يدور عندما تهب الرياح، اشتهر بـ (جيرالديلو) Giraldillo، وهي كلمة إسبانية تعني الدوَّار، اشتُقت من الفعل girar، أي (دار)..ومُنذ مطلع القرن الثاني عشر الهجري، صارت المنارة بالكامل، تشتهر باسم (جيرالدا).

وجدير بالإشارة، أن فرديناند الثالث، عندما أخضع إشبيلية لسُلطته، في العام 646هـ/1248م، كان قد أمر بتحويل جلّ مساحة مسجدها الكبير، إلى كاتدرائية، أطلق عليها اسم «سانتا ماريا».. وما هو قائم الآن من المسجد، والذي يُعادل ربع مساحته الأصلية، هو صحن المسجد، أو البهو الكبير (المصلى)، وموقعه إلى الشمال من الكاتدرائية، وفي منتصفه ثمة نافورة أندلسية، وما زالت عقود الصحن قائمة، في الناحيتين الشمالية والغربية، وكذلك الباب الرئيسي للجامع، والذي يبلغ عرضه نحو خمسة أمتار، وارتفاعه نحو عشرة أمتار، وموقعه في شمال الصحن، وهو مزين بعقود وزخارف، رائعة المنظر، مُتقنة الصنعة، وأقواس برونزية عربية، ومنقوش على قبضتيه الضخمتين (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد)، إضافة إلى ستة أبواب، صغيرة نسبياً، موقعها في الجهتين الشمالية والشرقية، وكلها تعود إلى المسجد الأعظم القديم، وهي مُصفَّحة بالنحاس، ومزينة بالنقوش العربية، والآيات القرآنية الكريمة.

 

في التراث العالمي 

يقول الأثري الإسباني الشهير كونتر براس: «إن الجيرالدا، تبدو صرحاً كاملاً من الطراز العربي، وفيها تتشكَّل مظاهر الفن الزخرفي الحقيقي، ومن المؤسف أن هذا البُرج الجميل، قد توِّج بجسم غريب عنه جداً، إن طراز الجيرالدا، وجماله، وإتقانه، له أثر بالغ الوضوح، في تطور الفن المعماري الكنسي، المتعلِّق بالأبراج الكنسية، فنرى في إشبيلية، وفي كثير من المدن الإسبانية الأخرى، العديد من الأبراج الكنسية، قد أُقيم على طراز شبيه بطراز الجيرالدا، وزخارفها، وتقاسيمها الأندلسية».. ولقيمتها، وأهميتها التاريخية، فقد أُدرِجت منارة إشبيلية (الجيرالدا)، ضمن مواقع التراث العالمي، في 29 ديسمبر 1926م.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 96)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها