صورة الشعراء الصعاليك من خلال المخيال الاجتماعي الثقافي العربي

د. الخامس مفيد

يعد الصعاليك بمثابة جماعة من الفقراء انتشروا في الجزيرة العربية وخرجوا عن طاعة رؤساء وملوك قبائلهم، ولم يخضعوا للأعراف القبلية، بل تمردوا ولم يتقيدوا بالتزام القبيلة أو محالفتها لقبائل أخرى، أو تعرض القبيلة لأخطار جسيمة. وقد نشأت ظاهرة الصعلكة نتيجة لمعاناة الصعاليك من اضطهاد وعبودية، وما رافقهما من ظلم وقتل وتشريد وتمايز قبلي، وقد اتصف الصعاليك بقلة نومهم وسهرهم طوال الليل بسبب قلقهم النفسي وأعمالهم، التي كانت معظمها طوال الليل وعدم راحتهم كما تجاوزوا الوقفة الطللية، حيث لم يكن لديهم وقت للوقوف على الأطلال، وكذلك من عوامل خروجهم عن هيكل القصيدة كونهم خرجوا من القبيلة، وحالتهم النفسية التي تسوء من فترة إلى أخرى.
 

لقد أراد الصعاليك تأكيد عمق إحساسهم بالهوى التي أصبحت تفصل بينهم وبين بني قومهم، ومن هنا فقد اختار الصعلوك قوماً ليسوا من بني جلده، ليوحي من وراء ذلك بمدى المعاناة النفسية، التي جعلت الصعلوك لا يفضل التشرد في أعماق الصحراء فحسب، بل إنه يصبو إلى البديل فاختار أصدقاءه من وحوش الفلاة، وفي ذلك دلالة قوية على الرغبة في المقاطعة النهائية من جهة، ولما تتميز به هذه الكائنات من خصال قد لا تتوفر لدى بني جنسه من جهة أخرى.
 

الصعاليك الفقراء البائسون

تردد مصطلح الصعاليك بشكل كثير في أخبار العصر الجاهلي قبل الإسلام في الجزيرة العربية، ويدور المصطلح حول مجموعة من العرب انقطعوا للإغارة وقطع الطرق من أجل توزيعها على الفقراء، وبالتالي سيادة العدل داخل القبيلة. 

وقد ميز الباحثون في تاريخ العرب قبل الإسلام بين ثلاث مجموعات منهم: مجموعة من الخلعاء الشذاذ، الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائرهم مثل: حاجز الأزدي، وقيس بن الحدادية، وأبي الطحان القيني. ومجموعة من أبناء الحبشيات السود، ممن نبذهم آباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار ولادتهم مثل: السليك بن السلكة، وتأبط شراً، والشَّنْفَرى. ومجموعة ثالثة احترفت الصعلكة احترافاً، وحينئذ قد تكون أفراداً مثل: عروة بن الورد العبسي، وقد تكون قبيلة برمتها مثل: قبيلتي هذيل وفهم اللتين كانتا تنزلان بالقرب من مكة والطائف على التوالي[1].

لقد كان الصعلوك يصطدم بمجتمعه الذي يرى فيه الفوضوية الفردية مظهراً من مظاهر التمرد، وتنقطع الصلة بينه وبين مجتمعه، حيث يتخلى عنه ويحرم من الحماية من لدن قبيلته.

فلسفة الصعاليك

لقد كان الصعلوك على هذا النحو من الأخبار التاريخية والمعاني اللغوية، يبدأ فقيراً ثم يحاول أن يتغلب على الفقر الذي فرضته عليه أوضاع اجتماعية أو ظروف اقتصادية، وأن يخرج من نطاقه ليتساوى مع سائر أفراد مجتمعه، ولكنه -من أجل هذه الغاية- لا يسلك السبيل التعاوني، وإنما يدفعه موقفه البائس، وشخصيته غير المتعاونة إلى سلوك سبيل الصدام والصراع.

إن الصعلوك كان يصطدم بمجتمعه الذي يرى في هذه الفوضوية الفردية مظهراً من مظاهر التمرد، وتنقطع الصلة بين المجتمع والصعلوك، فيتخلى المجتمع عنه، وتحرمه قبيلته حمايتها، ويعيش الصعلوك خليعاً مشرّداً، أو طريداً متمرداً، حتى يلقى مصرعه، أما أعداؤه فقد استراحوا من هذا الفزع الذي كانوا يترقبونه كل حين كما يترقب غائبا "منتظرا أهلُه" على حد تعبير زعيم الصعاليك عروة بن الورد[2].

لا عجب أن تجد في شعر العرب عامة، والصعاليك خاصة ما يصور لنا جانباً من طبيعة البيئة القاسية التي كانوا يحيون فيها، فتارة يصفون شدة البرودة، وتارة شدة الحر والهجير والرمضاء. 

لقد استمرت مشكلة الصعاليك لفترة طويلة، يغيرون ويأكلون وينفقون على أنفسهم ومن يرونه فقيراً مثلهم من مال الأغنياء الأشحاء، ثم في أوقات الصفاء أو الكدر والعناء يبرعون فيما يبرع فيه العربي القديم، في الشعر، وقد ساعدهم على استمرار وجودهم طبيعة الجزيرة العربية القاسية، حيث الجبال والوديان الوعرة، وصعوبة اللحاق بهم، أو العثور عليهم بسهولة. 

ولذلك لا عجب أن تجد في شعر العرب عامة، والصعاليك خاصة ما يصور لنا جانباً من طبيعة البيئة القاسية التي كانوا يحيون فيها، فتارة يصفون شدة البرودة، وتارة شدة الحر والهجير والرمضاء، فهذا أحدهم يقول:

ويوم من الشّعرى يذوبُ لعابه
                                                                                                 أفاعيه في رمضائه تتململُ

كلُّ شيء في هذه الصحراء إذن قاس وعنيف، فلا عجب أن تنجب أبناء قساة أشداء يألفونها، ويحيون فيها، لما تُيسّره لهم من الاختفاء في مجاهلها، وجبالها ومتاهاتها، لذلك نجد أن الصعاليك على الرغم من نشأتهم في أماكن قريبة من الخصب، إلا أنهم يفضلون دائماً أن يكونوا في كنف هذه الطبيعة صعبة المنال، فنجدهم يألفون الجبال والقفار والأماكن التي يخشى غيرهم ارتيادها[3].

وحين ننظر إلى شعرهم نجده حافلا بذكر هذه الأماكن الوحشية الموغلة في الوحشة والامتناع، فالصعلوك الشاعر تأبّط شراً يتحدّث عن موضع كان يخافه العرب لاعتقادهم أنه لا يخلو من الغول والأفاعي هذا المكان يسمى "رحى بطان"، ولكن تأبّط يألف هذا المكان ولا يخاف غيلانه وسعاليه، بل يتحدث بفخر في شعر عن قتله إحداها قائلاً[4]:

ألا من مُبلّغ فتيان فَهْم
                                                                                                      بما لاقيتُ عند رحى بَطان
بأني قد لقيتُ الغول تهوي
                                                                                                 بسهبٍ كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت
                                                                                                              صريعاً لليدينِ والجرانِ

لقد كان الصعلوك يفارق قومه، ويعارض عشيرته؛ لأنها تقيم على ضيم، وهو يأبى الضيم، ولأنها تذيع السر، وهو يحفظ السر، ولأنها تخذل الجاني بما ارتكب من جنايات، وهو ينفر من هذا الخذلان. ولذا فهو يلتمس له مضطربا في الأرض ينأى به عن الأذى، ومنعزلا فيها يشعره بالحرية والكرامة، ويقيه أسباب القلى والبغض، وهو يستبدل بأهله وعشيرته أهلا وعشيرة من الحيوان والوحش، هذه المخلوقات التي لا تذيع سراً ولا تخذل صديقاً أيا كانت جريرته[5].

الصعلكة مواقف اجتماعية

كان للصعلكة قادة وأنصار، وضعوا أسسها ومبادئها العامة، ودعوا إليها والاستعداد للموت في سبيلها، وللانتفاض على الظلم الذي يعانونه، ولذلك كانوا معنيين بالتنظير والتبرير لحركتهم، وسلوكهم، المناقض لما هو سائد في مجتمعاتهم، يقول عمرو بن براقة: 

وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم
                                                                                                فهل أنا في ذا، يالهمدان ظالم

وكان طلبهم للمال والغنى من أجل توزيعه على الفقراء والمحتاجين، ووضعوا لأنفسهم معياراً للتفاضل غير معيار النسب، فالتمييز بين الأفراد يجب أن يكون على أساس أعمالهم وأفعالهم، لا على أساس أنسابهم وأحسابهم. حيث يعلن عروة بن الورد، رفضه لأسس السيادة والشرف والحكم، التي كان يتبعها المجتمع القبلي:

ما بالثراء يسودُ كلُّ مسوَّد
                                                                                               مثر ولكن بالفعال يسود

ورسموا لأنفسهم سبيلاً يخصهم، فإما حياة كريمة أو موت كريم. ويؤكد هذا قول عروة:

فقلت له ألا أحيَ وأنت حرّ
                                                                                           ستشبع في حياتك أو تموت

إن دراسة الأوضاع الاجتماعية القبلية في الجاهلية وصدر الإسلام، تبدأ من البحث في الآثار الشعرية الهائلة التي خلفها الصعاليك، فهؤلاء كانوا بالفعل يمثلون حركة التمرد الثورية على البناء الطبقي العرقي والاجتماعي للقبيلة. فنحن لا نستطيع أن نأخذ صورة عن الحياة الاجتماعية لعرب يعيشون باطمئنان داخل البناء والجهاز التقليدي للقبيلة، والذين كانوا يرون فيه نموذجاً لا يمسه الباطل ولا النقد.

صحيح أنه كتب الكثير عن الصعاليك ولكن هذه الكتابة كانت شيئاً يشبه تاريخ إذاعة بيروت من لبنان لحركة الثورة في فيتنام، أو تأريخ هوليوود عن الهنود الحمر. فقد انصب التقليديون على تشويه الصعاليك والنيل منهم، واعتبارهم مجرد قطاع طرق لا يمثلون على الإطلاق ظاهرة أعمق من ذلك بكثير، على صعيد طبقي واجتماعي وقبلي. ومن وجهة نظري إن الشعراء الصعاليك كانوا صوت الضمير الحي، كانوا يمثلون رفض المضطهدين للاضطهاد وثورة المسحوقين اقتصادياً واجتماعياً وعرقياً، على الطبقة الارستقراطية المتحكمة بالرزق والدم، وبسطوة التقاليد المتهرئة والتحكم الطبقي.

لقد تمرد هؤلاء الرجال على البنيان الاقتصادي والطبقي وأحياناً العنصري في القبيلة، وبالرغم من ذلك كانت القبيلة هي القانون والحماية الوحيدة للإنسان في الصحراء الوحشية الخالية المخيفة، فإنهم لم يختاروا أن يستبدلوا موقفهم العقائدي بالاطمئنان القبلي. وتمردوا على القبيلة وخُلِعوا منها ومن حمايتها، وطُردوا من إطارها فانطلقوا إلى الصحراء العميقة الموحشة كل منهم بحصان وموقف وسيف. وأحياناً بسيف وموقف فقط ليظلوا قادرين على الالتزام بإيمانهم والتعبير عنه بالقوة. فوراءهم كانت توجد قضية: قضية طبقة، أو قضية لون، أو قضية رأي، وكان التزامهم بهذه القضية يدفعهم للقتال من أجلها. 

الصعاليك اختلاف الطريقة ووحدة في الهدف

لقد انقسم الصعاليك من ناحية النوازع الداخلية إلى فريقين، فهناك الشخصية المتمردة التي رأت في هذه الحركة فرصة سانحة تظهر فيها بطولتها الفردية، وتستغلها إلى أبعد حد في إرضاء ما في نفسها من نزعة شريرة تصبغ حياتها كلها بلون من الدم الأحمر القاني محبب إليها لا يرضيها إلا أن ترى تلك الرؤوس اليانعة، ورؤس الأغنياء المترفين تتطاير تحت ضربات سيوفها، ولا يبالون كذلك بأن يوجهوا حركتهم هذه ضد أية جماعة من الناس لا ترضى عنهم.

لكن هناك نوع آخر من الصعاليك رأى أن يكون تمرده وسيلة لغاية معينة، وهي رفع الظلم عن المظلومين، وتهيئة الفرصة للفقراء المهضومة حقوقهم، ليشاركوا سائر أفراد مجتمعهم في حياة اجتماعية كريمة، عن طريق إحداث نوع من المساواة، وإلى هؤلاء ينتمي أمير الصعاليك عروة بن الورد العبسي[6].

لقد سُمي عروة بن الورد العبسي، بعروة الصعاليك كما يقول بعض المؤرخين؛ لأنه "كانَ إِذا شكا إِليه فَتى من فتيَان قومه الفقر أعطَاهُ فرساً ورمحاً وقال لهُ: إِن لم تستغنِ بهما فلَا أَغنَاك الله"[7].

 لذا كان عروةُ فارساً لا يرى نفسه إلا مع الفقراء، ولا يحبّ إلا أن يكون الفقراء أقوياء، حتى ولو أغاروا على قبائلهم أو أعدائهم، وكان يجمعُهم ويقومُ على أمرهم ويعطيهم إذا أخفقوا في غزواتهم. 

ومع ذلك كان عروةُ يكره الفقر، ويرى مآسيه في الناس والقبائل مِن حوله، لقد كان يأنف من أن ينظر الناس إليه بمنقصةٍ أو ازدراء، ولم يكن يمكث في بيته إلا قليلا، يحبّ أن يملك المال والطعام دوما، يقود الصعاليك من الشعراء والفرسان ويغير بهم على أحياء العرب، وحين سألته زوجته ذات مرة عن وجهته رد عليها قائلاً:

ذريني للغنى أسعى فإنّي
                                               رأيتُ الناسَ شرّهم الفقيرُ
وأبعدُهم وأهونُهم عليهم
                                               وإن أمسى له حَسب وخيرُ
ويُقصيه النّديّ وتزدريه
                                               حليلتُه وينهرُه الصغيرُ
وتلقى ذا الغِنى وله جلال
                                               يكادُ فؤادُ صاحبِه يطيرُ
قليلٌ ذنبُه والذنبُ جمّ
                                               ولكنّ الغني ربّ غفورُ
[8]

لقد كان عروة أميراً للصعاليك، محباً للصحراء والغزو، وقد كان من كبار فرسان عبس مثل عنترة ثم من كبار فرسان العرب، وقد اعترف القريب والبعيد بفروسيته وتميزه، بل حين طلق عروة زوجته، قامت في جمع الناس تعترف بخصاله قائلة: "أما أنك والله الضّحوكُ مُقبلاً، السَّكوت مدبراً، خفيفٌ على ظهر الفرس، ثقيلٌ على مَتن العدوّ، رفيع العماد، كثير الرماد (كريم)، تُرضي الأهل والأجانبَ"[9]

الخلاصة

هكذا كان الصعاليك، مجموعة من العرب طحنهم الفقر، وكونوا لأنفسهم مجتمعاً موازياً بقوانين خاصة بهم، ساعدهم عليها اتساع الجزيرة العربية، ووعورة مسالكها التي اتخذوها مسكناً وملجئاً، وفوق ذلك وجود الظلم الطبقي الذي كان يرفع الناس على أصول من الحسب والنسب والمال، فكانت إغارتهم مقاومة وغصباً في آن واحد.



الهوامش
1 - يوسف، خليف، الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، ص.24.
2 - نفسه، ص.26.
3 - شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي ص.375.
4 - نفسه ص.380.
5 - الأصفهاني، الأغاني، ص.210.
6 - أحمد سلمان، مهنا: المرأة في شعر الصعاليك، ص.8.
7 - الجاحظ: كتاب الحيوان، ص.438.
8 - الثعالبي: ثمار القلوب في المضاف والمنصوب، ص.103
9 - أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص.64.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها