محنة طرد مسلمـي بلنسية الموريسكيين فـي سبع لوحات تشكيليـة

سعيد عبيد

التطهير الديني

إذا كانت السلطة الملكية والكنسية الإسبانية الغالبة قد اعتبرت طرد مسلمي شبه الجزيرة الإيبيرية بدايةَ القرن 17م أمراً إلهياً ضد «خونة الرب والـمَلك»، فإن أغلب المؤرخين المعاصرين يجمعون على أن ذلك الفعل كان أكبرَ تهجير قسري وتطهير ديني في التاريخ الوسيط؛ ورغم اختلاف المؤرخين والباحثين في أعداد المهجّرين، فإن الثابت أن ذلك التهجير قد استأصل شأفة المسلمين من تلك البلاد بشكل شبه نهائي، اللهم إلا من ثبت لدى محاكم التفتيش الرهيبة أنه تنصّر تنصّراً حقيقياً، وإن كان يمارس شعائر الإسلام سرّاً وتقية، في انتظار نجدة الأمة الإسلامية ممثلة في الدولة السعدية في المغرب جنوباً، أو الإمبراطورية العثمانية وإيالاتها في آسيا وإفريقيا، أو المماليك في مصر، وهي النجدة التي لم تأت، بسبب المشاكل الداخلية التي عانتها تلك الدول، ومنعتها من امتلاك زمام الصولة الدولية.

طرد الموريسكييـن في الآداب والفنـون

وإذا كان التراث الأدبي الذي كتبه المسلمون أنفسهم عن محنتهم، باللغة الأندلسية الأعجمية - وهي إسبانية رومنثية مكتوبة بالحرف العربي - قد بقي طيّ السر والكتمان، بسبب الاضطهاد الذي مارسته السلطات الحكومية والكنسية في حق من يوجد لديه شيء مكتوب بالعربية، فإن الكتابات التاريخية والأدبية الإسبانية كانت حاضرة تؤرخ لتلك اللحظة التي وشمت الذاكرة الجمعية الإسبانية طوال أكثر من ثلاثة قرون من الزمن، وإن كان القليل منها موضوعياً غير منحاز. 
ومع تلك الكتابات الأدبية والتاريخية احتفل فن الرسم كذلك بهذه القضية غير أننا سنتحدث هنا خصوصاً عن الأعمال الفنية التي تناولت محنة طرد الموريسكيين - في ق 17م الذي اعتُبر الزمن الذهبي لازدهار الفن التشكيلي الإسباني - لا يمكن عندئذٍ إلا أن نذكر اللوحات السبع التي أمر الملك فيليبي الثالث Felipe III (1621/1578) نفسُه أن تنجز، ثلاثَ سنوات بعد إصداره مرسوم الطرد، مما يدل على الأهمية التاريخية للحدث الذي يجسد واحداً من أكثر الأحداث التراجيدية المؤسسة لتاريخ أوروبا الحديثة، باعتبار أن إسبانيا كانت قوة استكشاف واحتلال عظمى آنذاك. وهكذا أخذ ماركيز كاراثينا Marquéz de Caracena على عاتقه أمرَ إتمام المهمة الفنية التأريخية، بتكليف أربعة من رسامي بلنسية المحليين بإنجاز مطلب الملك، هم: خِيرونيمو إسبينوثا Jeronimo Espinoza (1667/1600)، وثلاثة آخرون لا يعرف عنهم إلى حدّ الآن الشيء الكثير مما لا يزال طيّ «أرشيف الفن البلنسي» الذي أعدته أكاديمية سان كارلوس الملكية للفنون الجميلة ببلنسية، هم بيري أوروميغ Pere Oromig، وفيثينتْ ميستري Vicent Mestre، وفرانشيسكو بيرالتا Francisco Peralta (وهو غير فرانشيسكو بيرالتا دي كامبو الذي عاش في ق 19). وقد كانت حصيلة عملهم الفني سبعَ لوحات زيتية على القماش، أنجزت بين سنتي 1612 و1613م، أي أثناء مباشرة حملات النفي والتشريد؛ مما يجعل أهميتها تكمن في كون الفنانين الأربعة كانوا شهود عيان – إن لم نقل مؤرخين فنيين - على ما قدموه في لوحاتهم ذات الصبغة الوصفية الواقعية، وإن كانت تلك الأعمال لم تتناول من القضية الموريسكية إلا ما وقع ببعض مدن مملكة بلنسية، على اعتبار أن سواحلها قد شهدت أوليات وكبريات حملات التهجير، مؤرِّخة لاجتثاث أهلها المسلمين من مسقط رأسهم، ولانتفاضتين من انتفاضاتهم، ولوصولهم إلى أحد المهاجر.

بقي أن نشير إلى أن اللوحاتِ السبع جميعَها متقاربة المقاس، بنقصان أو زيادة سنتيمتر واحد على معدل 110×174 سم، كما أنها تشتمل جميعاً على أيقونة أو أيقونتين تتضمن تعليقاً كتابياً على اللوحة، بقلم الرسامين أنفسهم، على عادة بعض الفنانين آنذاك، وأن ستّاً منها في مِلكية مؤسسة بنك الادخار الإسباني Bancaja ببلنسية منذ 1980، واعتمدنا هنا صورها الفوتوغرافية بعدسة خوان غارسيا روسيل J.G. Rosell، بينما واحدة – وهي المتعلقة بنفي الموريسكيين عبر ميناء لَقَنْت Alicante – في حوزة أحد البلنسيين الخواص، بحسب ما يذكر كتاب «طرد موريسكيي مملكة بلنسية: كتالوج معرض مؤسسة بنكاخا».
كما تجدر الإشارة إلى أن المؤسسة المذكورة نظمت – لأول مرة – معرضاً للوحات المذكورة عام 2003م برعاية بيبي خيمينو Pepe Gimeno، بعد أن فاز الكتالوج الذي يضمها بجائزة نادي Art Directors Club بنيويورك، في دورتها السابعة والسبعين سنة 1998م، من بين 11000 مشاركة تشكيلية.

 

اللوحة الأولـى

اللوحة الأولى لبيري أوروميغ تمثل عملية التهجير من حي الغراو El Grau المحاذي لميناء مدينة بلنسية، ذي أسوار التحصين السميكة، حيث انتصب صليب حديدي كبير في وسط ساحة الميناء، بالحضور الفعلي لنائب الملك على حكم بلنسية، ماركيز كاراثينا الذي تحدثنا عنه من قبل، على حصان بني، موشحاً بصليب أحمر قانٍ على الصدر، وبجانبه رجل يحمل ورقة بيضاء عليها الرقم الإجمالي للمهجّرين من هناك: 15615، رغم أن مصادر أخرى تشير إلى أكثر من 17000! يمتلئ الساحل بأساطيل السفن والقوارب الإسبانية الملكية، وكذا الإيطالية التي استُقدمت من نابولي، علاوة على السفن الخاصة التي فضّل بعض المطرودين استئجارها، يحمل بعضها راية الصليب، وبعضها الآخر لواء المملكة الإسبانية، امتلأ كثير منها عن آخره، حيث حشر المهجّرون، بينما وقف الآخرون في انتظار قوارب أخرى تبدو شراعاتها في عرض البحر، ومنهم كثير من الأطفال والنساء اللواتي يضعن قبعات على غطاء الرأس - وهي العادة التي لا تزال حفيداتُ موريسكياتِ منطقة اجْبالة شمال المغرب محافظاتٍ عليها إلى اليوم - وكأن اللوحة تحاول أن تخفي واقعة بقاء حوالي أربعة آلاف طفل موريسكي دون الثانية عشرة بمملكة بلنسية وحدها، بحسب اعتراف خايمي ابْليدا، ممن أوصت الكنيسة ببيعهم للأسر المسيحية حتى ينشَّؤوا تنشئة «صالحة»، سواء من أيتام الثوار الموريسكيين، أم ممن باعهم أهلوهم مقابل لقمة خبز اتقاء الموت جوعاً، أم ممن عملت الكنيسة على فصلهم عن ذويهم. 
تصور اللوحة كذلك وفود المهجّرين وقد جاؤوا راجلين أو على بضع عربات وكثيرٍ من البغال التي حملت ما استطاعت، بحكم أن مرسوم الطرد سمح للموريسكيين بحمل ما يستطيعون، مقابل التخلي النهائي عما يتركونه خلفهم من أراضٍ وعقارات وممتلكات، تحت طائلة الإعدام لمن يخفي أو يحطم منها شيئاً. وهي الممتلكات التي ستُعطى بقرار ملكي لـ «أسيادهم» من الإقطاعيين والنبلاء الذين عارضوا النفيَ خوفاً من إفلاس مصالحهم الاقتصادية، شراءً لسكوتهم ورضاهم. كما أن تدفق ذلك العدد الهائل من الموريسكيين كما في اللوحة كان بسبب أن المرسوم المذكور لم يمهلهم إلا ثلاثة أيام للمغادرة، وإلا كان القتلُ أو الحرقُ مصيرَ كل متخلف. هذا طبعاً قبل أن يُصدر ماركيز كاراثينا في مايو من سنة 1611 قراره الغارق في القساوة: «نمنح لكل شخص يخرج في ملاحقة هؤلاء المسلمين 60 بيزو عن كل واحد منهم، و30 عن كل رأسٍ يُسلِّمه لمن قَتل منهم... وإذا أراد أولئك الذين أحضروهم أحياءَ أن يتَّخذوهم عبيدا لهم، فنحن على استعداد لكي نعطيهم إياهم، ونمنحهم رخصة لكي يَكوُوهم بالحديد كعبيد، على أن يأتوا بهم إلى هذه المدينة لكي نأمر لهم بتحرير صكوك العبودية»!

وبينما يبدو الإسبان المسؤولون عن الحملة في اللوحة ثابتين يراقبون، وخلفهم طابورٌ من الخيالة قرب باب المدينة، وحشودٌ من المتابعين المزدحمين على سطح برج المدخل ونوافذ المنازل، فإن مئات الموريسكيين يبدون في حالة هرج وارتباك، جراء التعاطي مع الأمتعة، أو ركوب هول البحر، وهو الارتباك الذي صبغ اللوحة بصبغته العامة، زادته مقدمة أسفلِ اللوحة ألماً وهي تصور أباً يهم بمعانقة صغيرته عناق وداع، وقد جاءت رفقة الأسرة النصرانية التي ستحتضنها، ونساؤها في زينة من ملابسهن المزركشة، ومع ذلك كن يبكين تأثراً، وخلفهن رجلان غمسا أرجلهما في مياه البحر وهما يحملان عجوزاً مقعداً إلى إحدى السفن، وأمٌّ تُربت على رأس صغيرها البائس لتهدئ من روعه!

اللوحة الثانية

أما اللوحة الثانية فقد أنجزها أوروميغ بالاشتراك مع بيرالتا؛ وتجسد عملية التهجير التي طالت أكثر من 45000، انطلاقاً من ساحل قرية بني عروس Vinarós شمال بلنسية، وبالضبط اللحظات الأولى لتجميع الدفعة الأولى التي شملت حوالي 16 ألفاً من الموريسكيين الذي يبدون قادمين من شعاب الجبال المجاورة إلى شاطئ الفاقس Alfaques والرابطة Ràpita، راجلين وعلى البغال والعربات في طوابير حَفرت الأرض، مع كون أغلب القوارب في حالة انتظار بعيداً عن الشاطئ. أما القرية خلف السور فتبدو قرية أشباح، فلا أحد بالنوافذ والأسطح، باستثناء شبحين في أعلى برج غالباً هما شبحا جندييْ مراقبة، وخلف القرية تبدو الأراضي الفلاحية مهجورة، في إشارة إلى ما ستعانيه إسبانيا من أزمة زراعية خانقة بعد تفريطها في خبرة الموريسكيين الواسعة بفلاحة الأرض. أما المدافع التي علت أسطح الأبراج الثلاثة لسور الواجهة، فتبدو في حالة استرخاء وعطالة، إذ لا جندي بجانبها، إلا مدفع البرج الذي على يسار المدخل، مما يدل على استتباب الأمر نهائياً للإسبان. هذا مع اعتناء أكبر بتوثيق أسماء المشرفين على الحملة وغيرها من الأماكن كما في كافة اللوحات، بدرجات متفاوتة.

اللوحة الثالثة

ثالث اللوحات لفيثينت ميستري، وهي تتناول تهجير حوالي 42500 من الموريسكيين عبر ساحل دانية Denia، جنوبَ بلنسية، والغريب المثير للانتباه فيها هو الجو الاحتفاليُّ الذي يبدو عليه بعض المهجَّرين، في حين ينشغل الآخرون بالركوب في القوارب، وبدايةِ التجديف في البحر؛ ففي وسط الصورة أربعة أزواج من الموريسكيين يمارسون المصارعة، تحت مراقبة أربعة أفراد جلوس على الأرض أو الطوب، كأنهم حُكام، وعلى يسار الصورة تؤدي نسوة موريسكيات بلباس فاخر، بعضُهن مصطفات، والأخريات منفردات، رقصةً مُعينة، مع فتح الذراعين عن آخرهما، على أنغام بعض العازفين على المزامير والدفوف، بينما أفراد من الجيش الإسباني بعيداً في أعلى الرابية التي أقيمت عليها القلعة، يخرجون عبر الباب منحدرين في صفوف رباعية على وقع النفير وهم حاملون الألوية، فيما يشبه الاستعراض، وهم وفق ما تذكره المصادر التاريخية أخلاط من الإسبان والبرتغال ومرتزقة الممالك الإيطالية التي استعان بها الإسبان: جنوة ولومباردي ونابولي وصقلية، بينما المشرف على حملة الطرد الماركيز دي سانتاكروز في إحدى السفن، في إشارة إلى مصاحبته الفعلية للأسطول الذي يحمل المطرودين إلى المستعمرات الإسبانية شمالي إفريقيا.
يتساءل خوسي مي كاييخا مايستري José Ma Calleja Maestre حول الجو الاحتفالي في اللوحة: أهي الفرحة بالنجاة من الجحيم، وهو ما حملته شهادة خايمي ابليدا، وكان كثير من الموريسكيين أيضاً يعبرون عنه في رسائلهم إلى المغاربة والعثمانيين باعتباره حُلماً وردياً، من أجل استعادة شيء من سلام العيش وأمان النفس، أم هي محاولة ماكرة لتصوير وقوع فاجعة الطرد من الموريسكيين موقعَ الرضى والقبول؟ يصعب معرفة مَقصدية الرسام بالضبط، غير أن شهادات أغلب المؤرخين العرب والإسبان تنفي الاحتمال الثاني كلياً، وتتفق مع الشهادة التي تركها لنا بيدرو أثنار كاردونا المعاصرِ لحملات الطرد على كون الموريسكيين أُخرجوا «على شكل موكب غير منتظم، واختلط المشاة مع الراكبين، وسادهم الألم، وامتلأت عيونُهم بالدموع، وأحدث خروجهم ضجيجاً كبيراً وهم يحملون نساءهم وأبناءهم ومرضاهم وعجائزهم، وقد غطاهم التراب والعرق، يعانون المرارة والتعاسة، ويبحثون عن الظل والماء؛ وقد كان يموت الكثير منهم من الأسى، ويدفعون ثمن الماء والظل على طول الطريق، ذلك أن الجو كان صيفاً».

اللوحة الرابعة

لا تختلف لوحة أوروميغ الرابعة التي تتناول تهجير 45 ألف موريسكيٍّ من منطقة وادي فينالوبو Valle de Vinalopó، عن طريق ميناء لقنت جنوب بلنسية، في تصوير طريقة إركابهم في السفن والقوارب المعدة لذلك الغرض، إلا في تفاصيل دقيقة أهمها وسيلة التعذيب المنصوبة وسط ساحة الميناء لمن أبى من الموريسكيين الرحيل، ومنظر مؤثر لرجل يحمل أباه العجوز، وما يشبه التفاوض بين مجموعة من الموريسكيين والمسؤول العسكري، مما ذكرت المصادر شيئاً منه حين تحدثت عن اضطرار كثير من الموريسكيين إلى دفع رشى للإداريين لتبطيء تنفيذ بعض القرارات. مع تفنن الرسام في رايات السفن التي تحمل صُلباناً بألوان مختلفة، لا شك أنها تعود إلى مختلف الممالك الإسبانية والإيطالية المشاركة في الحملة، وكذا تصوير كثرة الفضول الذي استولى على جمّ غفير من المتابعين من فوق الأسطح والنوافذ والأبراج وسور المدينة المحصنة حدَّ الازدحام. وبينما يبدو بضعةُ جنود نازلين من القصبة Alcazaba في الأعلى، تبدو في الأسفل كاتدرائية كنيسة القديسة مريم Santa Maria مميَّزة بالصليب الذي علاها، حيث أقيمت مقام المسجد الذي بناه المسلمون الفاتحون مباشرة بعد استرداد الإسبان لها سنة 1248م.

اللوحتان الخامسة والسادسة

من بين انتفاضات موريسكيي إقليم بلنسية المتزامنة رغم اختلاف مواقعها، تتناول اللوحة الخامسة لميستري انتفاضة الموريسكيين في جبال لا مْوِيلا دي كورطيس La Muela de Cortes بزعامة فيثينتي التريخي أو التريغي Vicente Turixi / Turigi (ولا نعلم اسمه الإسلامي، ولا عنه شيئاً سوى كونه من كَتادُو Catadau) الذي بايعوه ملكاً، في حين تتناول اللوحة السادسة لإسبينوثا انتفاضةَ موريسكيي وادي الأغوار La Vall de Laguar بقيادة أحمد سكِين Sequien الملِّيني (واسمه الموريسكي خيرونيمو ملِّيني Gerónimo Mellini)، وكلتا الانتفاضتين الباسلتين وسط إقليم بلنسية كانتا ضد مرسوم الطرد الجائر، رغم قرار منع حمل السلاح الصادر في حق كافة الموريسكيين منذ أكثر من 40 سنة، انطلقتا في أكتوبر 1609، أي بعد شهر من إعلان مرسوم الطرد، واستمرتا أكثر من شهر، وانتهتا بهزيمة دامية للثوار الذين نسج المخيال الإسباني حولهم فيما بعدُ الأساطير، لأنهما كانتا تفتقدان إلى السلاح الكافي والتنظيم والخبرة العسكرية معاً. وهكذا استشهد منهم الألوف في مجازر، وقتل المليني في إحدى المعارك، بينما نُكِّل بالتريخي الذي لم يستسلم حتى قُبض عليه ونال نكالاً شديداً، وقطعت يده، ثم رأسه، وعُلق على باب القديس فيثنتي ببلنسية. وبنفي آخر المعتقلين منهم من منطقة أيورا كوفرينطيس Ayora-Cofrentes جنوباً، انتهت عمليات التهجير ببلنسية. 
فأما لوحة ميستري فتُبرز تحصُّنَ الموريسكيين مع أزواجهم وأولادهم بأعلى الجبل، مع إبراز حصار القوات الإسبانية الإيطالية المشتركة لهم بشكل صارم التنظيم، وبداية توغلها إلى الأعلى – بحكم تحصنهم في جبل ضعيف الموارد من قوت وماء، ليس فيه سوى الأشواك والصنوبر والبلوط – مما لم يسمح لِلمنتفضين بخيار آخرَ غير المقاومة بأحجار مَعاصر الزيتون أو الموت، لا سيما بعد إلقاء القبض على التريخي الذي يبدو بتاجه أسفل اليمين بين أيدي القوات الإسبانية، حتى إن بعض النساء فضلن رمي أنفسهن مع أولادهن من رأس الجبل إلى نهر Júcar المجاور، خوفاً من الأسر وما يتبعه من إهانة وإذلال، ويأساً من إحراز النصر، لا سيما مع تقدم ميليشيات الترسيوس Tercios الإيطالية الرهيبة المدربة جيداً، وهو ما توثقه صورة المرأة الهاوية من الجبل أعْلى اليمين، تماماً كما وثَّقه شِعرُ دي أغيلار:
كم من موريسكية مسكينة يُرثى لحالهـا
لأنها رأت ذويها عُـزَّلاً
ألقت بنفسها من جبل شاهـق
وهي تحضِن صغارهـا
وكم منهن بِعن فلذات أكبادهن لأهالينـا
فقط لكي يُطعموهم قطعةَ خبـز!

وأما لوحة إسبينوثا فتبرز التلاحم بين الفريقين باستعمال البنادق المحشوة بالبارود، مما نجم عنه سقوط كثير من الضحايا الموريسكيين من أعلى الجبل الذي تنغرس في بُرجين فيه رايةُ المسلمين بيضاءَ يتوسطها هلال أخضر. ومقابل التنظيم العالي للقوات الإسبانية يبدو تبعثر صفوف المنتفضين، رغم وقوف المليني (أعلى اليسار) في صدر المدافعين. وفي كلتا اللوحتين توثيق اسمي بارز للمناطق الثائرة، وللقرى المجاورة لها، وللقواد العسكريين، لا سيما الجنرال ميخيا دون أغسطين الذي يبدو في أول الصورة على حصانه المتوثب، وهو يعطي الأوامر لفيالق الجنود.

اللوحة السابعة

أما اللوحة السابعة لميستري كذلك، فتتناول إيصال الموريسكيين إلى المرسى الكبير بوهران، الحاضرة الجزائرية التي كان الوصول إليها من السواحل الإسبانية يتم بعد ثلاثة أيام بلياليها من الإبحار، وقد كانت في قبضة إسبانيا منذ احتلتها سنة 1509م، وأقامت بها كنيسة القديس لويس محلَّ مسجد ابن البيطار، ليستمر احتلالها لها قرابة الثلاثة قرون قبل استعادة العثمانيين لها. تركز اللوحةُ على بقاء السفن الحكومية الكبيرة «الجميلة» الراسية أسفل القلعة، والقوارب الشراعية الصغيرة الكثيرة التي تُواصل توافدَها على الشاطئ على امتداد البصر، بعيداً عن الخيام البسيطة التي أقامها المهجَّرون، في الوقت الذي يُهاجم فيه الأهالي راجلين وعلى خيولهم بأسلحتهم وسياطهم وفودَ المهجَّرين، مع طلق ناري من البرج في اتجاه أحد المهاجمين، في إشارة إلى أن المتاعب لم تنته مع الخروج من قبضة الإسبان ببلنسية، وإلى عمل السلطات الإسبانية على حماية المطرودين! وفي هذا يبدو الانحياز السافر للرسامين إلى الرواية الرسمية للتاريخ، إذ يُسجل الملاحِظ المفارقة الواضحة بين التعامل السلمي الكبير الذي لقيه الموريسكيون في موانئ طردهم بإسبانيا، مقابل هذا التعامل العنيف مع أول الواصلين إلى الجزائر، من لدن إخوتهم في الدين!! وهو قلبٌ واضح للتاريخ الذي شهد بتجاوزات كثيرة من لدن الإسبان، جنوداً وجمارك وبحارة وقراصنة، وتضخيمٌ لبعض ما لقيه المطرودون في بعض بلاد المغرب من سوء معاملة، وَهْماً من الأهالي أنهم نصارى من خلال ملابسهم ولغة تخاطبهم وكثيرٍ من عوائدهم، وطمسٌ للترحيب الكبير الذي لقوه في كافة البلاد، حتى إنهم اندمجوا سريعاً في كافة المدن، بل وأسسوا مدناً أخرى بكاملها. 
وفي أفق اللوحة البعيدِ تبدو فاس المغربية، في إشارة إلى تفرق الواصلين إلى وهران في البلاد، واتجاههم كذلك غرباً إلى المغرب الأقصى، حيث أعادوا بناء مدينة كاملة كانت قد خربت، هي تطوان التي أسسها قائد غرناطي سابق هو علي المنظري غِبَّ سقوط 1492م، وأسسوا إمارة «سلا»، على مقربة من الرباط، كما استقروا في مدن أخرى ساحلية بالأخص، على أمل الرجوع القريب إلى الديار.

***

سبق أن أشرنا إلى أن أهمية اللوحات السبع مستمدة من كونها شاهدة على العصر، لأنها أنجزت إبانَ نفي الموريسكيين من البلاد، غير أن هذا لا يعني أن تداعيات ذلك الحدث انتهت بطي الحكومة الإسبانية لملفه نهائياً سنة 1616م، بل بقيت قضية الموريسكيين الحدث الأبرز لأكثر من قرنين، كما رأينا ذلك في لوحات أخرى أنجزت حتى بدايات وأواسط القرن العشرين. ولأهمية هذا الحدث الذي ستكون له تداعيات اقتصادية وديمغرافية مُروِّعة، سيكون هو موضوع مباراة فنية في مجال الرسم بين أربعة فنانين آخرين سنة 1627م، على عهد الملك فيليبي الرابع Felipe IV، وذلك من أجل اختيار من سينال شرف رسم اللوحة الرئيسية للقصر الملكي بمدريد، وهي المباراة التي تأهل فيها الرسام البارز دييغو فيلاسكيث Diego Velázquez (1660/1555)، والذي للأسف ضاعت كثير من أعماله ضمن ما صار رماداً لدى الحريق الذي شب بالقصر سنة 1734.
ورغم أن اللوحات السبع لا تتناول إلا طرد موريسكيي بعضِ مُدن مملكة بلنسية، والذين تقدرهم بعض المراجع بحوالي 125000 نسمة، كانوا يشكلون أكثر من ثلث ساكني مملكة بلنسية، ويمثلون عصب اقتصادها بعملهم القديم الخبرة في التجارة والحِرف وحتى الزراعة لدى الإقطاعيين، فإن التوثيق الفني لا يستطيع بالطبع حصرَ العدد الإجمالي للمطرودين الذين تصل بهم التقديرات إلى مليون نسمة، كما لم يستطع أن يتجاوز حاضرتي وهران وفاس – بالإشارة عن بُعد - باعتبارهما وجهتين اثنتين فقط من مهاجرهم التي تفرقوا فيها بَدداً بين كثير من مدن شمالي إفريقيا ومصر وتركيا والشام وفرنسا وإيطاليا وحتى المستعمرات الإسبانية الجديدة بأمريكا الجنوبية، ولا إبرازَ مختلف أصناف المعانيات المرة القاسية التي ذاقها المطرودون من جغرافيتهم وتاريخهم معاً، ثم – وهو الأهم – لم يستطع أن يصور أن طرد الموريسكيين قد شكّل ضربة شديدة لعظمة إسبانيا ورخائها الكبير، ابتداءً بالتدهور الزراعي الذي سببه نفيُ اليد الموريسكية الفلاحية الصَّناع، كما يقرر محمد قشتيلو في «الموريسكيون في الأندلس وخارجها»، مما جرَّها من الازدهار والتقدم إلى الانحلال والانحدار اللذين لازماها إلى العصر الحديث.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 75)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها