• لماذا أتيت إلـى جامعة فيرمونت؟
لقد جئت لأحاول تفسير نوعية عملي لبعض الأشخاص على وجه التحديد، لمعرفة نوعية عملهم وإنشاء بعض العلاقات الدائمة. أنا لست كاتباً، أو فيلسوفاً، أو مفكراً عظيماً: أنا مدرس. هناك ظاهرة اجتماعية تزعجني كثيراً: منذ 1960 بعض الأساتذة أصبحوا عاميين مع التزاماتهم، أنا لا أريد أن أصبح نبياً. ويقول: «من فضلك اجلس، ما أود أن أقوله هو مهم جداً»، لقد جئت لمناقشة عملنا المشترك.
• أنت تسمى في أغلب الأحيان «الفيلسوف» ولكن أيضاً «مؤرخ»، «بنيوي» و«ماركسي» تخصصك فـي جامعة فرنسا هو «مدرس تـاريخ أنظمة الفكر» مـاذا يعني ذلك؟
أنا لا أعتقد أن من الضروري معرفة من أنا بالضبط. الاهتمام الرئيسي في الحياة والعمل هو أن تصبح شخصاً آخر مخالفاً لما كنت عليه في البداية. إذا كنت في بداية الكتاب تعلم ما تقوله النهاية هل كنت تملك الشجاعة آنذاك لإكماله؟ ما هو صحيح للكتابة وللعلاقة العاطفية صحيح أيضاً للحياة. اللعبة هي جديرة بالاهتمام طالما أننا لا نعلم ما ستؤول إليه النهاية. مجال عملي هو تاريخ الفكر. الإنسان هو أن يفكر فيما يجري. الطريقة التي يفكر بها في المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وفق تقديرات مرتبطة بفئات عامة وكونية وبنى رسمية. لكن التفكير هو شيء آخر من العلاقات الاجتماعية. طريقة تفكير الناس لم يتم تحليلها بكيفية منطقية عالمية. بين التاريخ الاجتماعي والتحليلات الرسمية للفكر هناك مسار وهو «مسار ربما ضيق جداً» هو مسار مؤرخ الفكر.
• فـي تاريخ الحياة الجنسية، تشير إلى الشخص الذي «ينشئ القوانين والمفاجآت التي تتنبأ بالحرية بطريقة أو بأخرى «هل ترى عملك الخاص فـي ضوء ذلك؟».
لا فمنذ وقت طويل، والناس يطلبون مني أن أقول ما سيحدث، وأن أقدم برنامجاً للمستقبل. ونحن نعلم جيداً أنه مع أفضل النوايا، وحتى هاته البرامج تصبح أداة، أداة للقمع. روسو، محب للحرية، وقد استخدم في الثورة الفرنسية لتشكيل نموذج للظلم الاجتماعي. ماركس كان مرعباً بواسطة الستالينة واللينينية. ودوري - وهذا مؤكد جداً في كلمة واحدة-هو أن نبين للناس أنهم أكثر حرية مما يشعرون به. ذلك أن الناس تقبل الحقيقة والأدلة وبعض المواضيع التي تم بناؤها في مرحلة معينة من التاريخ، وهذا الدليل يمكن انتقاده وتفنيده لتغيير شيء في أذهان الناس - وهذا هو دور المثقف.
:: الفتنة بالهامش ::
• فـي كتاباتك يبدو أنك كنت مفتوناً بشخصيات موجودة على هامش المجتمع: المجانين، مرضى الجذام، والمجرمين، المنحرفين، المخنثين والقتلة والمفكرين الغامضين.. لمـاذا؟
أنا أحياناً ألام على اختيار المفكرين المتواجدين على الهامش بدلاً من أخذ أمثلة من التيار السائد في التاريخ. وإجابتي تكاد تكون مغرورة: فليس من الممكن أن نرى شخصيات مثل بوب وريكاردو بوصفها شخصيات غامضة.
• مـاذا عن اهتمامك بالمنبوذين في المجتمع؟
أنا أتعامل مع الشخصيات والعمليات الغامضة لسببين: هدف العمليات السياسية والاجتماعية التي وضعت في المجتمعات الأوروبية الغربية ليست واضحة جداً، لقد تم نسيانها وأضحت معتادة. هي جزء من مشهدنا المألوف، ونحن لا نفهمها بعد الآن، ولكن معظمها صادمة للناس. هذا هو أحد أهدافي هو أن أبين للناس أن العديد من الأشياء المألوفة –التي يعتبرونها حقوقاً عالمية - هي نتيجة لبعض التغيرات التاريخية الدقيقة. كل ما عندي من تحليلات هو ضد فكرة ضرورة عالمية الوجود الإنساني. فهي تظهر استبداد المؤسسات وتوضح هامش الحرية التي ما زلنا قادرين على التمتع بها وعدد المتغيرات التي ما زال يمكن تقديمها.
• كتاباتك تنطوي على اتجاهات نفسية عميقة غير عادية في التحليلات الدراسية: الألم في المراقبة والمعاقبة، الاحتقار والأمل في الكلمات والأشياء، الغضب والحزن في الجنون والحضارة.
كل أعمالي ومشاركاتي، وبصرف النظر عن سيرتي الذاتية الخاصة، كانت سبباً أخر لجعلي أشعر وأعيش تلك الأشياء. لنأخذ مثالاً بسيطاً، كنت أعمل في مستشفى للأمراض النفسية في 1960. وبعد أن درست الفلسفة، أردت أن أرى ما يكون الجنون: كنت مجنوناً بما يكفي لدراسة العقل؛ كنت معقولاً بما يكفي لدراسة الجنون. لم أتردد في مساعدة المرضى. لأنه لم يكن لديّ أي دور محدد. وكانت هذه اللحظة تعرف تطوراً لجراحة المخ والأعصاب.
بداية من علم النفس الدوائي، في عهد المؤسسة التقليدية. في البداية قبلت الأشياء حسب ما كان ضرورياً، لكن بعد ثلاثة أشهر (أنا بطيء في التفكير) تساءلت «ما هو الضروري في هذه الأشياء» بعد ثلاث سنوات تركت العمل وذهبت إلى السويد بارتياح كبير، وبدأت أكتب تاريخ تلك الممارسات (الحضارة والجنون(.
• ماذا عن نشوء المراقبة والمعاقبة؟
يجب أن أعترف بأنه لم تكن لديّ أي علاقات مباشرة مع السجون والسجناء. على الرغم من أنني عملت كعالم نفسي في سجن فرنسي. عندما كنت في تونس ورأيت المعتقلين في السجن لأسباب سياسية تأثرت بذلك.
:: الحنين إلـى الماضي ::
• العصر الكلاسيكي مركزي في كل كتاباتك. هل تشعر بالحنين لهذا العصر الذهبي أم من أجل رؤية تتميز بالوحدة والجدة فـي كل شيء؟
كل هذا الجمال من العصور القديمة هو تأثير وليس سبباً للحنين إلى الماضي. أعرف جيداً أنه من اختراعنا الخاص. لكن لا بأس في أن يكون هذا النوع من الحنين إلى الماضي، تماماً كم أنه جيد أن تكون لديك علاقة جيدة مع طفولتك الخاصة إذا كنت تملك أطفالاً إنه لشيء جيد أن يكون لديك حنين تجاه مراحل معينة بشرط أن تكون وسيلة تنعكس بشكل إيجابي على الحاضر الخاص بك. لكن إذا كان هذا الحنين سبباً عدوانياً وعائقاً أمام الحاضر فينبغي إذ ذاك استبعاده.
• مـاذا تقرأ من أجل المتعة؟
الكتب التي أثرت في نفسي أغلبها عاطفية: فوكنر، توماس مان، مالكوم لاوري.
• من هم المفكرون الذين أثّروا في تفكيرك الخاص؟
فوجئت عندما كتب اثنان من أصدقائي في بيركلي شيئاً عني، وقالا إن هايدجر كان له تأثير في بنيوية وهيرمينوطيقا هوبرت دريفوس، وبول رابينيو، ميشيل فوكو. بالطبع كان صحيحاً تماماً لكن لا أحد في فرنسا لاحظ ذلك. عندما كنت طالباً في 1950، قرأت هوسرل، سارتر وميرلوبونتي وعندما شعرت بتأثيرهم حاولت أن أجرب الانفتاح على هايدجر، لكن المفارقة هي أنه ليس من الصعب جداً بالنسبة لفرنسي أن يفهم هايدجر. حين تكون كل كلمة غامضة فأنت في موقف صعب لفهم هايدجر، لكن آخر الأعمال كانت أكثر وضوحاً. نيتشه مصدر إلهامي؛ شعرت بأن هناك شخصاً مختلفاً تماماً عما كنت أدرس؛ تركت وظيفتي في «لازيل»، غادرت فرنسا؛ شعرت بأنني أصبحت محاصراً؛ عن طريق نيتشه أصبحت غريباً عن كل هذا؛ أنا لا أزال مندمجاً تماماً في الحياة الاجتماعية والفكرية في فرنسا؛ لو كنت صغير السن لهاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
• لماذا؟
أرى أن هناك إمكانات. أنتم ليس لديكم حياة فكرية واجتماعية متجانسة؛ أنا كأجنبي؛ لا يتوجب عليّ التأقلم؛ لا يوجد ضغط على عاتقي. هناك الكثير من الجامعات الكبرى، مع اختلاف التخصصات؛ لكن أنا بالطبع سأفصل منها جميعاً.
• لمـاذا تعتقد أنك ستكون مفصولاً؟
أنا فخور جداً بأن بعض الناس يعتقدون أنني خطر على السلامة الفكرية للطلاب. عندما يبدأ الناس في التفكير في سلامة الأنشطة الفكرية، فحينئذ أعتقد أن هناك شيئاً خاطئاً. من وجهة نظرهم أني رجل خطير؛ حيث إنني ماركسي؛ وغير عقلاني؛ وعدمي.
:: بين تاريخ الأفكار والتاريخ الاجتماعي ::
• من خلال قراءة (الكلمات والأشياء)، يمكن للمرء أن يستنتج أن الجهود الفردية للإصلاح تكون مستحيلة؛ لأن الاكتشافات الجديدة لها الكثير من المعاني والآثار على مبدعيها والتي لا يمكن فهمها. في (المراقبة والعقاب)، على سبيل المثال، ظهر أن هناك تغييراً مفاجئاً في مجموعة مكبلة لشـرطة النقل؛ في عرض مشهد العقوبة لضبط مؤسسة العقاب. كنت تهدف إلى الإشارة إلى أن هذا التغيير الذي كان يبدو في ذلك الوقت إصلاحاً هو في الواقع تطبيع لقدرة المجتمع على العقاب. فكيف يكون الوعي بالتغيير ممكناً؟
كيف يمكن لك أن تتخيل ذلك. إنني أعتقد أن التغيير مستحيل ما دام تحليلياً دائماً.كان مرتبطاً بالعمل السياسي؟ كل من المراقبة والمعاقبة هو محاولة للإجابة عن هذه المسألة وإظهار حدوث طريقة جديدة للتفكير مكانها. نحن جميعاً كل مواضيع حياتنا هي مواضيع تفكيرنا؛ ما أتفاعل ضده هو حقيقة أن هناك فجوة بين التاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار. فالمؤرخون الاجتماعيون من المفترض أن يصفوا كيف يتصرف الناس دون تفكير، ومؤرخو الأفكار من المفترض أن يصفوا كيف يفكر الناس دون التصرف أو العمل. الجميع على حدٍّ سواء أفكار وأفعال. طريقة تصرف الناس وأفعالهم مرتبطة بطريقة التفكير؛ وبالطبع التفكير مرتبط بالتقاليد. ما حاولته هو أن أحلل هذه الظاهرة المعقدة التي جعلت الناس تتفاعل بطريقة أو بأخرى مع الجرائم والمجرمين في فترة زمنية قصيرة. لقد كتبت نوعين من الكتب؛ الأول هو (الكلمات والأشياء) يهتم بالفكر العلمي، والثاني هو (المراقبة والعقاب) يهتم بالمبادئ والمؤسسات الاجتماعية. تاريخ العلم لا يتطور بنفس الطريقة التي يتطور بها الخطاب الاجتماعي. من أجل الاعتراف بالخطاب العلمي وجب عليَّ التفكير في اتّباع معايير معينة. في المراقبة والعقاب؛ النصوص؛ والممارسات؛ والنضال الشعبي ضد بعضهم بعضاً؛ في كتبي حاولت حقّاً تحليل المتغيرات؛ ليس من أجل العثور على الأسباب المادية، ولكن لإظهار جميع العوامل المتفاعلة وردود أفعال الناس. أنا أؤمن بالحرية الشخصية. في نفس الوقت لدى الناس طرق وردود أفعال مختلفة.
• كنت قد ختمت المراقبة والعقاب بالقول إنه «سوف تكون بمثابة خلفية لتسوية مختلف الدراسات وقوة المعرفة في المجتمع الحديث» ما هي العلاقة بين المقايسة ومفهوم الإنسان كمركز للمعرفة؟
من خلال هذه الممارسات المختلفة - النفسية، والطبية، العقائدية والتعليمية –تم وضع فكرة أو نموذج للإنسانية؛ والآن هذه الفكرة أصبحت معيارية؛ ذاتية؛ ومن المفترض أن تكون كونية. الإنسانية قد لا تكون عالمية؛ لكن ممكن أن تكون لوضع محدد. ما نسميه الإنسانية قد-تم استخدامها من قبل الماركسيين والليبراليين والنازيين، الكاثوليك. لا يعني هذا أننا نود التخلص مما نسميه حقوق الإنسان أو الحرية، لكن لا يمكننا القول إن الحرية وحقوق الإنسان ينبغي عليها أن تكون محدودة في وضع جغرافي معين. على سبيل المثال، إن سألت قبل ثمانين عاماً إن كان حكم الأنثى جزءاً من الإنسانية الكونية، الجميع سيجيب بنعم. ما أخشى على الإنسانية هو أنها تعرض نوعاً من أخلاقنا باعتبارها نموذجاً عالمياً لكل نوع من أنواع الحرية. أعتقد أن هناك الكثير من الأسرار؛ الكثير من الحريات الممكنة؛ والمزيد من الابتكارات في مستقبلنا يمكن أن تصور لنا الإنسانية؛ ممثلة في مجموعة من الألوان السياسية: اليسار؛ المركز؛ الحق.
• وهل هذا ما اقترحته تقنيات الذات؟
نعم فعلاً. قلت قبل ذلك إن لديك شعوراً بأنني يمكنني التنبؤ. هذا صحيح، ولكن أبدو في بعض الأحيان مع نفسي منهجياً جداً وصارماً. ما درسته هو ثلاثة من المشاكل التقليدية:
أولاً: ما العلاقات التي نملكها حول الحقيقة من خلال المعرفة العلمية. «ألعاب الحقيقة» هذه في غاية الأهمية للحضارة وكلاهما مواضيع وأشياء.
ثانياً: ما هي علاقاتنا بالآخرين من خلال استراتيجيات غريبة وعلاقات القوة؟
ثالثاً: ما هي العلاقات بين الحق والقوة والذات؟
أود أن أختم بثلاثة أسئلة: ما الذي يمكن أن يكون أكثر كلاسيكية من هذه الأسئلة وأكثرها منهجية في التطور من خلال هذه الأسئلة الثلاث والعودة إلى البداية؟ أنا فقط في هذه المرحلة.
* Truth, Power, Self: An Interview with Michel Foucault - October 25th, 1982.
From: Martin, L.H. et al (1988) Technologies of the Self: A Seminar with Michel Foucault.
London: Tavistock. pp.9-15.
نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 244 (صفحة 38)