تقطير الزهر.. تراث شعبي يهدده شبح النسيان

حسين البوهي

مع أولى إطلالات فصل الربيع، تلتئم أسر مراكشية في المغرب لإحياء طقس من الطقوس المتجذرة في عمق الثقافة المغربية التي تحتفي بالطبيعة في أبعادها الإيكولوجية، الاجتماعية، الجمالية والتراثية..إنه موسم «تقطير الزهر»، فرغم متغيرات العصر وإغراءات الحياة العصرية، فإن العديد من الأسر ما زالت تحافظ بانتظام على مراسم هذا الطقس الذي ينهل من غنى وتنوع الموروث الشعبي المراكشي، الذي يعكس حب ساكنة المدينة الحمراء للحياة، فكانت الحدائق والعراصي من الفضاءات الشاهدة على أحد فصول هذا العشق المتوارث للطبيعة والجمال. 
ولما كانت شجرة النارنج – أي شجرة الزنبوع في اللسان الدارج المغربي – تتوشح في فصل الربيع بزهريات بِيض فواحة العطر، فقد اهتم المراكشيون كغيرهم في المدن العتيقة وسائر البلدان الإسلامية ( سوريا، مصر، تونس) بغرسها والعناية بها مؤثثة صحون الرياض والمنازل العتيقة، مُزينة جنبات الطرق والحدائق كما هو الشأن بالنسبة لحديقة النارنج بباب الرُّب، وداخل المساجد كمسجد الكتبية على نمط مسجد قرطبة بالأندلس الذي يعرف بصحنه المسمى صحن النارنج.



استعمالات متعددة.. وطرق تقليدية تقاوم النسيان

اقترن ماء الزهر في المخيال المغربي كرمز من رموز حسن الاستقبال والضيافة وعربون المودة والإخاء، إذ «تفتتح به أولى مراسم الحياة الزوجية، وأول ما يتقاسمه الأزواج هو أكواب من الحليب مُعطرة بالزهر». تشرح سيدة خمسينية بالمدينة العتيقة بمراكش، مضيفة «ماء الزهر يضفي نكهة خاصة على الحلويات التي لا تروق الجلسات إلا بتذوقها، كما أن له فوائد كثيرة.. نلجأ له لتهدئة أعصابنا، لتنشيط دورتنا الدموية وترطيب بشرتنا.. وقد أفلحت المراكشيات حين حافظن على هذا التقليد وتوارثنه عبر قرون من الزمن».
تُصنع بثمرة النارنج أو «الزنبوع» أجود أنواع المربى، وتستعمل لحفظ الزيتون لمدة طويلة، كما تُصنع به عدة مشروبات مفيدة صحياً، ويقترن استعماله لدى فئات واسعة من المغاربة بمناسبات سعيدة كحفل الزفاف والعقيقة، أو مناسبات حزينة كدفن الميت ورشه بمستخلص الزهر قبل مواراته الثرى.
وحول الكيفية التي تتم بها عملية تقطير الزهر يذكر «محمد المصمودي» - صنايعي داوم على تقطير الزهر بشكل متوارث عن أسرته المراكشية- أن أولى مراحل التقطير تُستهل بالصلاة على النبي المصطفى، ويشترط في الشخص الذي يقوم بها أن يكون على طهارة، ويستحسن أن تُجرى بعيدة عن كثرة الأعين لكي تكون في صيغتها المُثلى – يضيف المتحدث وهو في الآن نفسه منهمك في عملية التقطير- يترك الزهر لمدة يومين حتى يجف جيداً، ثم يُشرع في تقطيره بخارياً باستعمال القطارة التقليدية التي تتكون من ثلاثة أجزاء: 
الجزء الأول عبارة عن «طنجرة» تملأ بالماء والقليل من حبات الزهر، ويحرص الشخص المُقطر على استبدال الماء البارد بالماء الساخن بشكل دوري كلما استدعت الضرورة ذلك، وتحتفظ العائلات المراكشية بخصوصية جودة ماء زهرها بإضافة القليل من عود البخور و«المسكة الحرة» حسب كمية الزهر المراد تقطيرها. 

يعبأ الزهر في القطعة الثانية من القطارة، وتوضع بإحكام فوق «الطنجرة»، ثم توضع عليهما القطعة الثالثة التي تحتوي على أنبوبين: 
- أنبوب لتصريف الماء الساخن.
- أنبوب لاستقبال قطرات ماء الزهر. 

يسترسل محمد في شرح المراحل الأخيرة لعملية التقطير قائلاً: «نضع القطارة على نار هادئة بعد إحكام إغلاقها باستعمال «القفال» - وهو عبارة عن شريط ثوب يُمزج بقليل من الدقيق والماء- ثم يُثبت على منطقة التقاء أجزاء القطارة». وعلى حدّ قول المثل الدارج يُضيف ضاحكاً «الله ؤ ما قفّلتي لا فوّرتي»
نفس المراحل التي ذكرها «محمد المصمودي» أمّن عليها شيخ متقدم في السن اصطفّت أمامه عشرات القناني المتوسطة الحجم من ماء الزهر الخالص المُستخرج توّاً من القطارة التقليدية، مضيفاً: «تجمع قطرات ماء الزهر داخل وعاء خاص معروف باسم «البتية» ثم يعبأ داخل قناني زجاجية معطرة ببخور العود»، ويُستحسن أن يُحتفظ بها لعدة أسابيع في مكان مظلم قبل الشروع في استعمالها.



آليات عصرية تهدد الذاكرة التراثية لـ «زهرة النارنج».. 

يتأسف العديد من المهتمين بالتراث التقليدي للمدينة الحمراء على التراجع الذي أضحت تعرفه مراسم تقطير الزهر بالطرق التقليدية في العشر السنوات الأخيرة، وعزوف الشباب عن تعلمها والاهتمام بها، مُشيرين إلى أن إمكانية برمجة احتفال سنوي قار من شأنه أن يساهم في إعادة إحياء هذا الإرث بطقوسه الاحتفالية، ومن غير المستبعد إذا ما تمت الدعاية له على نطاق واسع أن يشكل عنصر جاذبية سياحية للزوار الأجانب للتعريف به وشرح ما يختزنه من أبعاد جمالية، بيئية، اجتماعية وتراثية.

يتخوف عدد من المهتمين بهذا الموروث البيئي أن يطاله النسيان ويندثر في غضون السنوات المقبلة، لا سيما أنه لم يُوثّق لحدود كتابة هذه السطور، ولم تُدون المراحل التي تمر منها عملية إعداده والطقوس الاحتفالية المواكبة له.

موازاة مع تراجع الطرق التقليدية، بدأت الطرق العصرية تستحوذ بشكل مطّرد على تقطير الزهر، بعد أن فطن عدد من المستثمرين والتجار الكبار إلى الأرباح المهمة التي يمكن أن يجنوها في الفترة الممتدة بين أواسط شهر فبراير وأواخر شهر مارس، فعلى الصعيد الوطني تنشط عشرة مصانع في مدن متفرقة من المدن المغربية، تستحوذ ثلاثة منها على حصة الأسد بمدن الدار البيضاء، الخميسات والقنيطرة، ومع بداية كل فصل ربيع يتبارى عدد من التجار وأصحاب رؤوس الأموال إلى التنافس فيما بينهم للاستئثار بجني أشجار النارنج بمجموعة من الحدائق العمومية التي تخضع سنوياً لعملية السمسرة، وقد اشتدت حدة التنافس في السنوات الخمس الأخيرة ليرتفع معها سعر استغلال العديد من العراصي والحدائق بشكل غير مسبوق، وفي هذا الإطار صرح أحد «المزايدين» الذي رفض التعريف بهويته بأن سعر استغلال حديقة مردوخ بمدينة مراكش في هذا الموسم ارتفع إلى 15 مليون سنتيم، علماً أنها في السنوات الأخيرة لم تكن تتجاوز 10 ملايين سنتيم، وهو ما حمله على الانسحاب من مزاد السمسرة لأن هامش الربح سيتقلص بشكل ملحوظ لا سيما أنه سيقوم بترويجه في السوق الداخلي، وعلى ضوء هذا الارتفاع سيصبح ثمن الكيلوغرام الواحد يتراوح بين 30 و31 درهماً، وأغلب الأشخاص الذين استقر عليهم المزاد يتوفرون على مصادر لترويجه خارج الوطن.

وأضاف المتحدث ذاته أن الشجرة المثمرة التي تستفيد من العناية والسقي المنتظم يمكن أن تنتج حوالي ستة كيلوغرامات من أزهار النارنج، وتستهل أولى مراحل استخلاص «ماء الزهر» و«زيتها الأساسي» المعروف بـ «نارولي» بجني المحصول ووزنه لدى «الموازنية»، يتراوح سعر الكيلوغرام الواحد بين 27 و28 درهماً حسب قانون العرض والطلب، ثم يقوم الوسيط أو التاجر ببيعه لشركة التقطير أو المصنع بسعر يفوق 30 درهماً، وباستعمال معدات عصرية متطورة تقوم هاته الأخيرة بتقطير «زيت النارنج الأساسي» الذي لا يمكن استخلاصه إلا بالطرق العصرية، ويتم تصديره للعديد من الشركات العالمية المتخصصة في السوق الخارجي بسعر يتراوح بين 60 و80 ألف درهم للتر الواحد، لاستغلاله كمواد للتجميل أو الطبخ أو التداوي. 

بين طرق التقطير التقليدية التي تحتضر على المدى القريب، وبين طرق التقطير العصرية المرشحة للهيمنة على المدى المتوسط، تبقى الذاكرة التراثية لهذه الزهرة الفوّاحة بأبعادها الاجتماعية، البيئية والحضارية مهددة بالاندثار على المدى البعيد، فمن يُدوّن هذا الموروث ويطرد عنه شبح النسيان؟

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 93)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها