هل مـا زالـت الانطباعيـة خيـاراً ممكناً؟

السـالمي يعيد طرح السـؤال

محمد الزبيري

لم يخل أي كتاب أو دراسة أو بحث في علم الجمال، طوال مسيرة فلسفة الاستاطيقا Aesthetie - سواء عند ارتباطها بهذا المصطلح في القرن الثامن عشر، أو حتى قبل ذلك منذ عصر الإغريق والرومان - من التأكيد على ما يمكن اعتباره شروطاً، أو مسلّمات، أو أسس الجمال، التي لا يمكن الحكم على شكل ما بالجمال في غيابها؛ وهي الأسس التي عدّد بعضها ويليام هوغارت مثلاً <(Williame Hogarth 1697 - 1764) منذ زمن بعيد، وحددها في: التناسب، والتنوع، والتدرج، والبساطة، والتعقيد، والضخامة، والمبالغة.. وأضاف آخرون لها أسساً أخرى؛ كالوحدة والتنوع، والتماثل المخالف للتطابق... إلخ. 
وما زال منطق هذه الجدلية يحكم مسيرة الفن التشكيلي إلى اليوم بشكل أو بآخر، رغم ما يزعمه الفن الراهن من تحرر ونفور من سلطان النموذج، أو انزياح وخروج عن جبروت التقعيد. وفي كل مرحلة كان يرشح عن هذا (الديالكتيك) تناقض واحتكاك طبيعي بين المذهب الفني، أو المدرسة الفنية الساعية لسكون القاعدة، وبين ديناميكية الفكر التشكيلي المتجدد، المساند لحرية الفن. احتكاك مولد لوميض مضيء، طالما مشى الفن على هدي نوره قروناً، من فتح نحو فتح جديد، وكثيراً ما قاد التشكيلي إلى ضفاف مذاهب ومدارس وحركات جديدة.

***

غير أن بعض هذه المدارس أو الحركات يولد ضعيفاً، يعاني فقراً في الابتكار، وهشاشة وضعفاً في المنهج، وجموداً في الأسس؛ بحيث يكفي أن تعرف هذا المنهج أو تلك المدرسة التي يعتنقها هذا الفنان أو ذاك، ليس فقط لتتعرف إلى انتماء عمله التشكيلي بوضوح حتى لو لم يوقعه، بل لتتكهن مسبقاً بما سيكون عليه عمله الفني في المستقبل! ما جعل تلك الحركات تصل سريعاً إلى خاتمة المطاف؛ كالتكعيبية مثلاً، والتي رغم أهميتها كمنعطف في تاريخ الفن، والفتح الكبير الذي ينسب إليها، من حيث إفساحها المجال، وتمهيدها السبيل أمام العديد من الاتجاهات التي ظهرت بعدها؛ لكنها كأسلوب، وصلت إلى الباب المسدود سريعاً مع روادها، وفي مقدمتهم إماماها جورج براك، وزميله بيكاسو. 

لكن تاريخ الفن علّمنا أن ما يميز تلك الحركات والمدارس الفنية الكبرى بالخصوص، قدرتها على الاختلاف والمغايرة، والتجدد، والحياة الطويلة، حتى خارج عصرها، وبمنأى عن الظروف الطبيعية والثقافية والشروط التاريخية التي أنجبتها؛ وذلك عن طريق الاستمرار في العطاء بنفس جديد مهما اختلف العصر، ومهما طرأ على قيمه الجمالية من تغيير. ولا شك أن هذا الحكم يشمل الانطباعية هي الأخرى، بمفاهيمها ومراحلها، كواحدة من تلك المدارس الكبرى التي غيرت وجه الفن التشكيلي، مند نهاية القرن التاسع عشر. وما زالت إلى اليوم ـ تحتفظ بشبابها، وتحافظ على نضارة ألوانها، وتمدّ نهر التشكيل العالمي بألوان جديدة، قابلة للحياة، حتى في عصر فنون ما بعد الحداثة؛ عن طريق فنانين متمكنين من أدواتها، متشربين فلسفتها ورؤاها، ولا أدل على ذلك من إقبال المتلقي على روائعها، والنهل من معين بهجتها، ليس عندنا في العالم العربي فحسب، ولكن حتى في كبريات عواصم الفن العالمية.

 

أعمال السالمي فصل جديد فـي ملحمة التأثيرية

لعله من البديهي القول إن عشق البيئة والارتباط الروحي بها، يضفي على الأعمال الفنية الممثلة لذاك الوسط أو المستمدة منه، صدقاً ظاهراً وسحراً باهراً، قد نحسه وننتشي به جميعاً كمتلقين، لكن لا يدرك سره إلا مبدعه؛ ذاك الفنان المفتون ببيئته التي أخذ حبها بمجامع قلبه، كما هو الشأن بالنسبة للفنان التشكيلي محمد السالمي، الذي لا يخفي شغفه بمسقط رأسه، ومرتع صباه، الجنوب المغربي، (تافيلالت) أو «جنوب الروح» كما يحلو لهذا الفنان أن يسميه. يقول محمد السالمي: «أشتغل على فن البورتريه وحياة البدو الرحّل والتراث المعماري والثقافة المحلية بتافلالت... أحاول وضع نمط وأسلوب فني خاص يتسم بعمق في الرؤية، للبحث عن هوية تمتاز بالأصالة ومتشبعة بالقيم الإنسانية النبيلة». - من نص لمحمد السالمي منشور على صفحته بالفيس بوك.
فعندما يصل الفنان إلى ذاك المقام الرفيع، من مقامات عشق البيئة، ويرتقي في مدارج حب محيطه لدرجة الهيام، تصبح كل الثيمات والمواضيع المرتبطة به - مهما بدت لنا بسيطة في واقعها الفيزيقي، ومهما كانت رتيبة أو عادية أو صغيرة في وجودها الفعلي - صالحة لتكون هدفاً وموضوعاً لرسم أعمال أصيلة، وإبداع روائع فنية كبيرة. فينكشف بهاؤها على قماش الفنان العاشق، وتميط فرشته اللثام عن سحرها وجلالها. وهو ما نلاحظه في جلّ أعمال التشكيلي محمد السالمي من ناحية الموضوع الذي قد يكون بسيطاً إلى حدّ العفوية، ومختزلاً إلى حدّ يشبه السذاجة، لكنه طافح بالمعاني، نابض بالجمال الطبيعي والصدق والواقعية التلقائية، بعيد عن تكلف التركيبات واصطناع المشاهد. وهي اللغة التي حاول الفنان أن يقربنا منها وهو يلخص نهجه وفلسفته في العمل بقوله: «إنه لون تعبيري بعيد عمّا هو حكائي تقريري أو وثائقي. لغتي التشكيلية بسيطة خالية من كل تعقيد وغنية بالاستعارات، تمتاز بالصدق الفني ما يجعلها تذهب مباشرة إلى قلب المتلقي». - من نص لمحمد السالمي منشور على صفحته بالفيس بوك.
محمد السالمي الذي يعتبر اليوم من أبرز التشكيليين التشخيصيين المغاربة المعاصرين، والذي استفاد فعلاً من تجربته التشكيلية المرتبطة ببيئته الأولى، والتي تزخر بالألوان والأضواء والتقاليد والعادات والطقوس والوجوه المتميزة التي تركت أثراً جلياً في كل أعماله؛ كما عرف كيف يوظف - بذكاء - ملونه الانطباعي الأصيل، الغني بنغماته اللونية ولمساته الضوئية الثقيلة المتحكم فيها، لأجل خلق أعمال فنية شغوفة ببيئة الفنان، حيث تجعلك تعيش حياة الجنوب البسيطة ببهائها الفتان، وتنغمس في جمال الواحة الآخاذ.
 

وجه وطبيعة

فكثيراً ما يشتغل هذا الفنان على ثيمته المفضلة والمتمثلة في الثنائي الذي اشتهر السالمي بمعالجته ببراعة: رسم الوجوه، ومناظر الجنوب بالخصوص، حيث يحاور موضوعه بعشق وحماس وروية في نفس الوقت، بواسطة ضربات فرشاة نقية، بلمسات عريضة، ممتلئة، طرية، تتحرك بشوق، محلقة فوق جسد اللوحة بسرعة وحرية ملموسة، لكنها لمسات دقيقة، واسعة ومدروسة؛ تراعي انسجام الشكل وتوازنه، ونقاء الإحساس وقوة التأثير، مخلفة وراءها أشكالاً تقول أكثر مما قد نعتقد، وألواناً توحي بما قد نظن أنه لم يتم تحديده أو رسمه عنوة، لكنه ظاهر من بعيد، مختفٍ إذا نظرنا إليه من قريب؛ كسراب هذه الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف، معلناً عن وجوده الخفي بين ثنايا الشكل وامتلاء اللون.. بين وجوه تكشف ملامحها وسحناتها طوية أشخاصها البرآء، وأجساد متصالحة مع محيطها، تبرز تصرفاتها وحركاتها العفوية ذاك الجمال الثاوي في حياة وسجايا أصحابها من البدو البسطاء، كل ذلك يجعل أعمال محمد السالمي تنبض بحيوية نادرة وجمالاً استثنائياً؛ حيث تبهرنا لوحاته المشرقة بصفاء اللون وامتلائه، واكتمال الشكل وإقناعه، فضلاً عن توهج ذاك النور المحبب إلى النفوس، المتراقص عبر أركان اللوحة، والمشع من أشكالها وأحجامها، فتأخذ بمجامع القلب وتسكن الفؤاد.
على امتداد مسيرة الفن الطويلة الطافحة بروائع المشاهد الطبيعية، رأينا كيف عالج الكثير من عمالقة الفنانين الذين زاروا بلادنا العربية - على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وعصورهم - ثيمة الصحراء، بكثير من الانبهار والدقة، والرقة، والجمال، والهيام والاحترافية؛ فبرعوا في إبراز فضاءات الصحراء، وامتدادات آفاقها اللا متناهية، وشساعة رمالها المخيفة، التي تشعرنا بالرهبة، والعزلة، والغربة، فيمتلكنا إحساس بضآلة حجمنا أمام رحابتها الصارمة، وفراغها اللا متناهي.. لكن معالجة محمد السالمي لتلك المناظر الخلوية، والأجواء والآثار الصحراوية الثابتة والمتنقلة، مختلفة تماماً؛ حيث تشعرنا بالاطمئنان، والانسجام، والألفة، والاندماج في المشهد، الذي عوض أن يشعرنا بشظف العيش وقساوة الطبيعة، يمنحنا حباً وحناناً واطمئناناً وراحة نفسية، وتوازناً وجدانياً، وأماناً لا يتذوقه إلا الطفل في حضن أمه! لأعمال السالمي فضاءات حالمة، عندما نتأملها نشعر بأنها تحتوينا بلطف، وتؤوينا بحنان: «إنه الحنين إلى كل ما هو أصيل جاد، وبدون زيف». - من نص لمحمد السالمي منشور على صفحته بالفيس بوك.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 246 (صفحة 110)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها