كيف استلهمت السينما حياة نيتشه وأفكاره؟

الطبيعة الميليودرامية لسيرته كانت المدخل

د. بدر الدين مصطفى

رغم وفاته في الخامس والعشرين من أغسطس عام 1900، بعد خمس سنوات فقط من تاريخ أول عرض سينمائي قدمه الأخوان لوميير داخل ساحة الجراند كافيه في باريس، إلا أن علاقة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، وهو المفكر صاحب التأثير الأكبر، ربما على المشهدين الثقافي والفكري في القرن العشرين، تجاوزت فكرة العلاقة المباشرة، تنظيراً ونقداً لهذا الفنِّ، لتتحقق عبر الزمن من خلال استلهام أفكاره ومفاهيمه داخل الكثير من التجارب السينمائية في شرق العالم وغربه، جنوبه وشماله. إضافة إلى هذا الإلهام الذي منحته فلسفته لصُنَّاعِ الأفلام، كانت حياتة ذات الطبيعة الميليودرامية، مادة سينمائية قامت عليها العديد من الأفلام.
تخلو كتابات نيتشه بالطبع من أي إشارة لفن السينما، وربما هو ذاته لم يكن على دراية بوجود آلية معينة لالتقاط الحركة، فضلاً عن عرضها، بعد أن قضى السنوات الأخيرة من عمره مريضاً منعزلاً في منزله، تحت رعاية أخته. غير أن ثراء أعماله بما تحتويها من أفكار مُبتكرة، جعلها مادة حاضرة باستمرار داخل الفضاءات السينمائية المختلفة. نحاول أن نستعرض في الجزء الأول من هذه المقالة بعض التَّجارِب السينمائية التي استلهمت جانباً من حياته. كما نناقش في النصف الثاني منها، مَكْمنُ اللقاءات المحتملة بين بعض الأفكار التي تعود إلى فلسفة نيتشه وما جسدته بعض الأفلام:


في حب لو In Love with Lou

فيلم للمخرجة الألمانية كورديولا كابليتز Cordula Kablitz، تروي خلاله قصة لو أندرياس سالومي Lou Andreas Salomé، الكاتبة والفيلسوفة والمحللة النفسيّة، التي كانت محط إعجاب نيتشه وبعض معاصريه، كفرويد Freud وراينر ماريا رايلك Rainer Maria Rilke. ويصور الفيلم قصص الحب التي عاشتها مع كل هؤلاء؛ لم يظهر نيتشه منخرطاً في علاقة عاطفية مع سالومي خلال أحداث الفيلم، لكن الفيلم أظهر سالومي كفتاة أحلامه، لنراه في صورة مختلفة تماماً عما نعرفه عنه في الواقع، أو ما استنتجناه من كتاباته، لم نر ذلك الحزين الغاضب والساخط دوماً، رأينا حالة الطفل الذي يمكن أن يكون نيتشه عليها حال وقوعه في الحب.

 

صديقي نيتشه My Friend Nietzsche

فيلم قصير مدته (15 دقيقة) من إخراج البرازيلي فوستن دي سيلفيا Fauston Da Silvia، واستطاع اقتناص العديد من الجوائز، لم يحضر نيتشه هذه المرة كشخصية في الفيلم؛ إنما كمصدر تأثير داخله. يحكي الفيلم عن طفل في المرحلة الابتدائية، يعثر على كتاب "هكذا تكلم زرادشت". فهل يمكن لطفل في هذه المرحلة قراءة هذا الكتاب وفهمه؟ وهل يمكن لكتاب ينتمي لهذا الشكل الفلسفي في الكتابة أن يؤثر على الطفل؟ كيف ستتحول حياة الطفل وعلاقته بمعلمته بعد قراءته لنيتشه؟ هل يمكن لبعض الأحداث خارج المؤسسة أن تغير مجرى التعلم داخل الفصول؟

 

عندما بكى نيتشه When Nietzsche Wept

قراءة سينمائية لرواية بنفس العنوان للمعالج النفسي الأمريكي إيرفين دافيد يالوم Irvin David Yalom، من إخراج البلغارية بينشاس بيري Pinchas Perry، يصور الفيلم لقاءً متخيلًا بين عالِم النفس الشهير جوزيف برويير Josef Breur ونيتشه. حيث حاول الأول علاج الثاني من الاكتئاب والرغبة في الانتحار، بعد أن رفضت لو سالومي الارتباط به. يتطور هذا اللقاء، عبر الحوارات التي تناقش بعض المسائل الوجودية، ليغدو لقاءً رمزياً بين الفلسفة وعلم النفس، كما يقدم الفيلم تصوراً عن الطريقة التي صاغ بها نيتشه كتابه الرئيس "هكذا تكلم زرادشت".

وإذا كانت حياة نيتشه ملهمة في مجملها لصناع الأفلام، فإن أفكاره أيضاً قُدِّرَ لها أن تعيش سينمائياً بعد رحيله، ويمكننا في هذا الصدد أن نرصد بعض التجارب التي استحضرت أفكار نيتشه أو تقاطعت معها.

نحن US

العمل الثاني للمخرج غوردان بيل ويقدم فيه رؤية تتقاطع مع تصور نيتشه عن الطبيعة الإنسانية التي تخفي بداخلها الكثير من النوازع الشريرة، لكنها تسعى لتهذيبها تحت قناع من التحضر والمدنية، في كتابه "العلم المرح" يقول نيتشه: "خلف سطح الحياة الحديثة المغلفة بالعلم والعقلانية تكمن قوى دافعة بربرية لا أثر فيها للرحمة". وتشير هذه العبارة إلى تصور نيتشه لإنسان العصر الحديث وما بعده، ذلك الإنسان الذي لا يملُّ ولا يكل عن إظهار تحضره في كافة السياقات، لكن خلف قناع هذا التحضر يوجد ذلك القاتل بشكل أو بآخر؛ توجد تلك القوى الهمجية التي صرح بها قبله الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، في عبارته الخالدة "الإنسان ذئب للإنسان". وفقاً لنيتشه ليس ثمة تعاطف أو شفقة في عالم الإنسان، وإن كان فإنه لا يظهر إلا مع ما ينتمي إليه فقط (كانت هذه الفكرة أساس النقد العنيف الذي وجهه بعض المفكرين للمركزية الأوروبية). يؤكد نيتشه أن الإنسان لديه ذلك الاستعداد الفطري في طبيعته للإجرام والعنف، فقط باسم الحضارة يخفي كمية العنف التي بداخله.

هذه الفكرة أجاد بيل عرضها سينمائياً من خلال فيلمه المحمل بالدلالات والإشارات، التي تُنذِرُ بخطر انفجار هذا العنف في أي لحظة. قدم بيل في "Us" عالمين يعيشان بالتوازي؛ يمثل الأول البشر الذين يحيون فوق الأرض حياة طبيعية، والثانى هم مجموعة القرناء بملابسهم الحمراء، الذين يخرجون من تحت الأرض ويقومون بثورة لقتل البشر والاستيلاء على أماكنهم والتمتع بها، بعد أن عاشوا معزولين تحت الأرض يأكلون الأرانب النيئة، مجبرين على الالتزام بقواعد وضعتها مجموعة مجهولة من البشر تلزمهم بتقليد البشر الأصليين على الأرض، والتزاوج مع من يختارهم البشر، بل وإنجاب قرناء مشابهين تماماً لأبنائهم.

يتضمن الفيلم نقداً حاداً لمفهوم الطبقات الاجتماعية وكيفية ترسخها من خلال نشر بعض الأكاذيب التي تؤكد على أن الأفضلية في الأساس بيولوجية أو معرفية أو ثقافية، في حين أن التمييز في الحقيقة هو تمييز يتعلق بالمظاهر والقدرات المادية. هذا الانقسام الحاد بين الطبقات، كما يقول بيل، قابلٌ للانفجار في أي وقت، ولا حل له سوى ترسيخ فكرة العيش المشترك.

دوجفيل Dogville

العمل الأول للمخرج الأمريكي لارس فون تريير، وهو مستوحى من مسرح بيرتولت بريخت الملحمي. يعتبر دوجفيل واحداً من أكثر الأفلام إثارة للجدل في القرن الحادي والعشرين، ويعود ذلك بشكل أساسي للصدمة التي يسببها لمتابعيه على صعيد الفكرة وطريقة تقديمها بشكل غريب وبسيط يقارب المسرح إلى حد كبير. يناقش تريير في هذا العمل حقيقة النفس البشرية ومدى تقبلها للآخر، ويُبسط بصورة مباشرة الصراع الأزلي بين الخير والشر في أعلى مستوياته.

يتكون دوجفيل من تسعة فصول ومقدمة واحدة، ويتحدث في مجمله، عن قرية افتراضية أميركية، تقع في منطقة نائية بأحد جبال سلسلة روكي الصخرية، يحيا سكانها القلائل بوداعة وسكون وسط ظروف قاسية من البرد والفقر والعزلة، إلى أن تأتيهم غريس (نيكول كيدمان)، الهاربة من بطش عصابات خطيرة، لتحرك المياه الراكدة في نفوسهم، وتكشف حقيقة الدناءة البشرية الكامنة في أعماقهم خلف أستار سميكة من الكذب والنفاق، (وهي الصفات ذاتها التي نسبتها فلسفة نيتشه للأخلاق التي يتمثلها العبيد).

يضع سكان القرية شروطاً قاسية لتقبل غريس، مستغلين الظروف التي تمر بها، وتتزايد هذه الشروط مع تقدم الفيلم، بدءاً من فرض الخدمة العامة عليها داخل القرية وانتهاءً باستغلالها جسدياً، حتى تصل غريس في نهاية المطاف إلى حد الفهم الكامل لحقيقة سكان البلدة، عند تسليمها للعصابة مقابل حفنة من الدولارات، وتأتي الصدمة الكبرى عندما نعرف أن غريس هي ابنة زعيم العصابة، ليتحول الفيلم فجأة إلى عنف شديد تنهي به غريس وجود هذه القرية الآثمة.

يمكن قراءة الكثير مما بين السطور، حيث تمثلُ غريس نزعة الخير في الفيلم والنقيض الكامل لأخلاق أهل البلدة، وهي تتحمل بأفكارها المثالية وضميرها الحي ورغبتها في الاندماج ما تكيله لها القرية من شروط وعقبات واستغلال، لكنها تتعلم شيئاً فشيئاً مما يحصل لها، لتنضج شخصيتها في نهاية الفيلم وتتخلص من براءتها الساذجة وتبدلها ببراءة واعية لما حولها، دون أن تفقد إيمانها بالإنسان وحقه في حياة أفضل، مكرسة نفوذها وسلطتها لنشرِ مِثاليتها حتى ولو بالقوة. هنا تتلبث غريس فكرة إرادة القوة لنيتشه وتغدو المعادل السينمائي لمفهوم نيتشه عن الإنسان الأعلى.

مدينة الخطيئة Sin City

من أبرز المحطات في تاريخ السينما العالمية المعاصرة، حيث يشكل المكان البطل الحقيقي لأحداث الفيلم التي تدور في مدينة أميركية افتراضية تدعى Basin، أو ما يعرف بمدينة الخطيئة، المشهورة بالجريمة والآثام المختلفة بدْءاً بالكذب وانتهاءً بالقتل دون رحمة، عبر مجموعة قصص مختلفة تشكل في مجملها تصوراً افتراضياً يعتمد المبالغة للحياة البشرية في مختلف الأزمان باعتباره "الشر" عنصراً بشرياً رئيساً.

تتعدد القصص في مدينة الخطيئة، إذ يفتتح الفيلم بمقدمة مثيرة عن قاتل مأجور يتودد إلى امرأة في شرفة عالية قبل قتلها بأعصاب باردة، ثم ينتقل إلى قصة أخرى عن ضابط شرطة مسن يحاول إنقاذ فتاة صغيرة لا يتجاوز عمرها الحادية عشرة من قبضة قاتل متسلسل مهووس، وفيها ينجح الشرطي هارتيجان في إنقاذ نانسي الصغيرة قبل أن يغطي والد المجرم روارك على القضية، بنفوذه الكبير كسيناتور ويصبح هارتيجان هو المتهم الأول في جريمة القتل.

وبالتوازي مع حداثة الأسلوب والصورة، يعتمد الفيلم لغة فكرية شديدة الحداثة تتمثل في الابتعاد عن السرد التقليدي للقصة، حيث تتقاطع القصص مع بعضها وتلتقي الشخصيات من قصص مختلفة في أمكنة متعددة دون أن تعرف بعضها على الإطلاق، ولن يتضح كل ذلك للعيان إلا مع اكتمال الصورة النهائية للفيلم، عندما يقبع المشاهد مع أفكاره المصدومة من هول ما شاهده، دون أن ننسى تدفق الأفكار الداخلية للشخصيات، والمونولوج الذي تغرق فيه من أجل تبريراتها الأخلاقية ونزاعها مع الجانب الخيري فيها، حيث يقدم الفيلم مشاهد عبقرية على هذا المستوى، وعبر هذه الأفكار تأتي القيمة الحقيقية للفيلم وتطرح الأبعاد الفلسفية المختلفة التي تتقاطع بصورة كبيرة مع تصورات نيتشه حول صراع الخير والشر، وانتصار الأخير في النهاية.

 يتقاطع الفيلم مع فلسفة نيتشه من خلال رؤيته السوداوية لواقع البشرية الحالي أو لمستقبلها، حيث يقدمُ المدينة العصرية كمكان موبوء بالفساد والجريمة عبر تحالف المال مع الدين والسلطة، لتحقيق أكبر نفوذ ممكن على مختلف الأصعدة ومنها الجانب السياسي، كما يتقاطع معها بما يقدمه من تصور عن ميل لدى الإنسان لتكرار ذاته عبر الزمن، وحتى لو اتخذ هذا التكرار شكلًا مختلفاً ظاهرياً فإنه في جوهره يعبر عن حالة من العود الأبدي؛ حالة حدَّثنا عنها نيتشه في مؤلفاته مراراً وتكراراً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها