التناص‭ ‬التاريخي‭ ‬عند‭ ‬يحيى‭ ‬السماوي‭ ‬ بوصفه‭ ‬منهجاً‭ ‬وطريقة

نبيلة أحمد

تعرّف الناقدة الفرنسية بلغارية الأصل جوليا كريستيفا  التناص بشكل بدائي أو أولي على أنه «التقاطع داخل نص لتعبير مأخوذ من نصوص أخرى». وللتناص أكثر من نوع وما يهمنا هنا كما اعتمده الشاعر يحيى السماوي في مجموعاته الشعرية(1) هو «تناص الحوار».

إن النقد المعاصر لم يتوقف عند حدود المصطلح الحديث أو الظاهرة، بل سعى إلى تحويل التناص إلى طريقة أو منهج إجرائي، وهذا ما استفاد منه الشاعر بأنه اعتمد هذه الطريقة ليقلب المعادلات والمفاهيم ويعلن الثورة على الكلمات واللغة وعمق الرؤية:
«مُذ خرجت
من جنّتي المزدحمة
بالشياطين
داخلاً جحيمها المليءَ بالملائكةِ».

هنا نلاحظ في هذه المقطوعة تناص الحوار أي تغييراً للنص الغائب وقلبه وتحويله بقصد قناعة راسخة في عدم محدودية الإبداع ومحاولة لكسر الجمود الذي قد يغلف الأشكال والثيمات:
«من أنوثة الماء 
وذكورة الطين
انبثقت شجرة العشق».

الشاعر أو الكاتب هنا لا يتأمل هذا النص إنما يغير في القديم أساسه اللاهوتي، ويعرّي في الحديث قناعاته التبريرية والمثالية:
«أنت أدخلتني آلاف الجنات
أنا  (آدم) الجديد
يا تفاحيّ».

الكتابة هنا تخوض في المسكوت عنه وتنفتح نحو فضاءات نصية جديدة، تعكس الاعتبارات الدينية والعرفية والأخلاقية كمفاهيم ثابتة لتصبح أكثر مرونة وتعاطياً مع الحالة النفسية والمشاعر الخاصة بلحظة معينة بعيدة عن كل التابوات:
«أكاد أجنّ!!
كيف استدار مصلاّي نحو خدرك
حين ركعتُ؟».
 

التناص العكسي:

نلاحظ في هذا النوع من التناص «تناص الحوار» في النص السابق يصل إلى التناص العكسي وهو يمثل أعلى قيم التناص, «وهو الصيغة الأكثر شيوعاً في التناص، وخصوصاً في المحاكاة الساخرة لما فيه من عمل للتضاد يذهب عكس الخطابات الأصلية المستمدة في علاقة تناصية»(2).
حيث قلب الشاعر معادلة التفاحة والتي تاريخياً ودينياً تعتبر هي سبب خروج آدم من الجنة إلى الأرض والعذاب، وحواء هي المسبب في إغوائه لأكلها كما يقال. لتصبح تلك التفاحة سبب دخوله إلى جنة أو أكثر، بل آلاف الجنات. إذاً هذه الأنوثة هي أنوثة عشق وحب ورفعة، إنه آدم الجديد بصفات جديدة:
«لا تسأليني من أنا
فإنني
أجهلُ من أكون
كلُّ الذي أعرفهُ عني:
أنا مدينة الحكمةِ
لكنّ الذي يدخلها
لا بُدَّ أن يُصابَ
بالجنون».

هذا السومري العاشق الضارب بمنجله حقول المعرفة ليعيد حفر مجرى جديد، قد تراكمت فيه حجارة الكراهية والذكورة المتوحشة والمستوحشة.
«توهّمتُ أنّ التغرُّبَ
يُنسي الفتى السومريّ همومَ المشاحيفِ
يُدني نزيلَ المفازاتِ من
سدرة المُنتهى والثريّا..»

يمكننا أن نستنتج أن هذا النص التناصي هو نص ارتدادي إلى السومري القابع بين طيات قلبه وتلافيف عقله، والتي تلح عليه أن يسرد القصة كما كانت في عهد أجداده، إنها العودة إلى البدء، العودة إلى الأصل، أصل الحضارة والتاريخ، حيث كانت عشتار سيدة العرش، فأي عرش.. عرش القلب.. عرش الحب.. عرش الطبيعة.
علاقة الوعي المتأثرة تاريخياً المزدوجة بالماضي يسميها غادامير انتماء. «يُعنى شليرماخر بفهم النص لغة بما هو مكون لغوي للتراث والتاريخ ومشكل للقناعات والفكرة.. وهذا ما يسميه الفن التكهني وهو يدشن فضلاً عن ذلك تأويلاً يتخطى عتبة المقدس إلى عالم النصوص الأدبية»(3):
«أنا
ليس لي أخوة
والطريقُ
يخلو من بئرٍ
وذئاب
كنتُ عارياً
إلا من ورقةِ التوت».

لماذا هذه العلاقة بين الأنثى كجسد والطبيعة، هل لهذا علاقة بالعودة إلى الأصل، أصل الحياة، أم هو ارتقاء من الماديات إلى التصوف الروحي والسمو إلى مكنونات الطبيعة التي تتمثلها الأنثى بكل الأنحاء إلى حدّ الدهشة، أم هذا الثالوث المقدس: الطبيعة الوطن الأنثى، دلالة العودة إلى الآلهة القديمة لا بشكل تصوفي، بل بشكل مادي يعرّي ما لبسه من قناعات ذكورية بطرياركية:
«أنت أسمائي الحسنى
بعشبكِ
سترتُ عورة صحاراي».

«ولو تأملت هذه النصوص لوجدت أنها تشكل قاموساً لـ فلاّح شعري - لسانه من لسان الطبيعة بكل مكونات الخصب فيها... وهذه من عطايا الظلال الأنثوية اللاشعورية في الشخصية»(4).
حاول بعض النقاد والقراء الهروب من مادية النص وحقيقته التاريخية خوفاً على المعتقد والمقدس الثابت لديهم إلى جعل تلك النصوص ترتقي إلى العلاقة الروحية التصوفية للعشق، وخاصة بما يخص جسد المرأة، لكن في الحقيقة هذا هروب لأن النص واضح كتناص تاريخي أو ديني لإعادة تشكيل تلك النصوص، حيث تكون بطلتها الأنثى لا الرجل:
«مُذ أمسكتُ عنهنَّ وأفطرتُ بكِ
وأنا أحبك تقرّباً
إلى الله!
سنبلةٌ منكِ خيرٌ من ألف بيدر..
أنا أحبكِ؟
إذن
أنا موجود!
الساعة آتية لا ريبَ فيها
ساعةُ اجتماعِ التويجة والميسم
في مزهرية واحدة!»

في البداية في هذا النص نجد أنه يفطر بحبه لها: وهذا يقرّبه من الله أكثر، إذاً الصيام بمفهومه اللاهوتي قد تغير في هذا النص باستعارته التناص الصيامي إلى الحب والعشق. الشاعر لم يستند فقط إلى اللاهوت، بل اعتمد أيضاً الفلسفة بتناص «أنا أفكر إذن أنا موجود» لتصبح «أنا أحبك إذاً أنا موجود»، ليعود إلى التناص الديني القرآني في جملة «الساعة آتية لا ريب فيها» بالنسبة له هي ساعة اجتماع التويجة والميسم، أي المرأة والرجل في مزهرية واحدة في مكان واحد فيه الحب واللقاء. 
هذا النص بكل دلالاته يؤكد ما ارتأينا فيه من مفهوم التناص العكسي أو الحواري، لماذا اعتمد الشاعر هذا النوع؟ هل خوفاً أم هروباً من المواجهة أم برأينا نحن لأنه أكثر الأنواع دلالية للوصول إلى المعنى المطلوب أو المراد.
فهو يؤكد في كل نصوصه أن تهمته الوحيدة هو حبه للأنثى:
«حبكِ
هو التهمة الوحيدة التي ناضلتُ
من أجل إثباتها».

أخيراً نقول هذا السومري الحامل منجله وقلمه يحرس المراعي سطوراً في حقول الأنثى المهمشة ليعيد لها تاريخاً آفلاً بالنور والحياة.


الهوامش
- 1 - حديقة من زهور الكلمات، مسبحة من خرز الكلمات، مناديل من خرز الكلمات، ثوب من الماء لجسد من الجمر، لماذا تأخرت دهراً؟
- 2 - أدونيس منتحلاً، كاظم جهاد، صفحة 44.
- 3 - مرجع الحقيقة والمنهج هانز كادامير، صفحة 17.
- 4 - يحيى السماوي وفن البساطة المربكة، د. حسين سرمك حسن، دار تموز، الطبعة 2013، صفحة 48.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 248 (صفحة 64)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها