فرويد (1856-1939) لــ آلان غراف Alain Graf

ترجمة: محمد بعدي

يعتبر فرويد طبيباً ومنظراً. وإذا كان قد بلور فرضية اللاشعور، فمن أجل تفسير الظواهر المرضية التي لم يستطع الطب حتى ذلك الحين تحليلها علمياً.

وإذا كانت هذه الفرضية النظرية، قد سمحت بتشكيل منهج جديد لمعالجة الاضطرابات النفسية (وهو التحليل النفسي)، فقد جلبت معها نتائج تطرح عدداً مهماً من المشاكل التي لا يمكن للفلسفة أن تتجاهلها. إن السؤال الأساسي هو معرفة ما إذا كانت مسلمة تحديد اللاوعي لأفعالنا وأفكارنا، متناقضة مع التعريف الكلاسيكي للحرية باعتبارها قراراً ذاتياً أو استقلالاً. وهذا هو المبرر الذي لا يمكن من أجله إقصاء عمل فرويد عن مجال التأمل الفلسفي.

النزعة العقلانية عند فرويد

بلورة مفهـوم الـلاشعور
فرويد والطب في زمانه

حتى حدود نهاية القرن19، كانت هنالك أمراض لم يستطع الأطباء معالجتها ولم يصلوا إلى تفسيرها؛ لأن أعراض المريض، مهما كانت ظاهرة (شلل، اهتزازات، اضطرابات بصرية، سمعية...)، لا يمكن إرجاعها لأي خلل عضوي، هذه الاضطرابات في السلوك المسماة "هيستيريا"، والتي ظلت تعزى لفترة طويلة للتملك الشيطاني والأرواح الخبيثة، كتأكيد لشهادات العصر الوسيط، أثارت أيضاً، في عهد فرويد، حذر الأطباء السريريين. إذ كيف نفهم في الواقع، خلل الوظائف الجسدية مع غياب كل سبب عضوي؟ لذلك فلكي ننفي عن الهستيريا شرف اعتبارها مرضاً حقيقياً، لم تكن هنالك سوى خطوة، هي التي أنعشت الطب، وذلك بتأويل أعراضها العصية على التفسير كنتاج للتظاهر بالمرض، وترك المريض لمعاناته. وتكمن أصالة فرويد، على العكس من ذلك، في كونه رأى في هذا الخلل العضوي آثار اضطرابات نفسية، وبالتالي قدم فرضية كون الهستيريا يمكن تفسيرها من خلال تحول معاناة نفسية إلى مظهر جسدي، وبإعطاء الهستيريا وضع مرض جسدي- نفسي تم وضعها في طريق اكتشاف اللاشعور.
 

:: بناء فرضية ::

لقد اهتدى فرويد إلى بلورة مفهوم اللاشعور من خلال حالة عيادية، تتعلق بشابة مريضة بالهيستيريا تدعى Anna O. كانت هذه الشابة تعالج من طرف الدكتور بروير، الذي يرجع له فرويد، في دروسه الخمسة في التحليل النفسي (1910)، وله الفضل في إعطاء معنى جديدا للهيستيريا، بفضل استعمال منهج التنويم المغناطيسي، (الذي تلقاه من الأستاذ شاركو، والذي كان أول من استعمله في المستشفى الباريزي la salpètrière). لقد لاحظ بروير بأن الأعراض تختفي عندما تتذكر المريضة، تحت التنويم، ومن خلال تنفيس عاطفي (دموع، خوف...)، المناسبة الأولى التي ظهرت فيها هذه الأعراض. وهكذا فتحيين الذكريات التي لا يستطيع المريض استحضارها بوعي، يكون له أثر شاف، وبالتالي يمكن أن نفترض أن المريض يعاني من كبت لبعض الذكريات، ما دام استحضارها يحرره من ثقل أعراضها.

ومع ذلك، فالأعراض ليست فقط آثاراً لكبت المشاهد الصادمة القديمة خارج مجال الوعي، لكنها أيضاً تعبير عن استمرار هذه الذكريات اللاشعورية. هكذا كشف تطبيق التنويم المغناطيسي أن الذكريات في تجلياتها المنسية تستمر وتظهر في شكل بدني.
 

:: تفسير الأعراض ::

إن العرض هو ذكرى مبهمة، بمعنى ذكرى غير معروفة كما هي، ما دامت تعاود الظهور في شكل آخر غير ذلك الذي كانت عليه في الأصل.

إنها إذن، تعبير مقنع عن رغبة طالها النسيان، عندما وجدت نفسها في صراع، في الماضي، مع رغبات أخرى، أو مع بعض إكراهات الواقع. والقوة النفسية التي سمحت لها بأن تكون منسية ظاهرياً، تتعارض مع ما يعاود الظهور في الشعور، وتؤكد هذه المقاومة وجود آلية يسميها فرويد بالكبت والذي تصبح بواسطته الرغبة الواعية لاواعية، ومع ذلك؛ ولأن ما هو لاشعوري ليس منسياً، فإن الرغبة المكبوتة تحاول الرجوع في الشكل الرمزي للأعراض، والذي يجعلها غير معروفة بالنسبة لوعي لا يريد أن يقبلها.

 هذه هي المقاومات التي ينبغي على تطبيق المنهج التحليلي أن يسقطها، لكي يتوقف ما هو لاشعوري عن الظهور في لاعلمنا. وهكذا، فمن خلال جعل الأعراض تعبيراً مقنعاً عن الرغبة المكبوتة، يعطي فرويد معنى وعقلانية لسلوك يرتكز بالنسبة للمريض على أن يعيش مرضه كتسوية بين رغبات لاشعورية وحية دائماً، من جهة، وممنوعات مرسومة بواسطة الوعي ضد هذه الرغبات التي يطالها النسيان، من جهة أخرى.


منهج التحليل النفسي

سيتخلى فرويد عن التنويم المغناطيسي الذي سمح له بصياغة فرضية وجود اللاشعور، بشكل تدريجي، لفائدة منهج جديد لمعالجة الأمراض العصابية. إن العلاج من خلال التنويم المغناطيسي في الواقع، غير كاف: ذلك أن استعادة الرغبة من خلال التنويم المغناطيسي، بتوليده للأعراض، يجعلها تختفي مؤقتاً. زد على ذلك أن هذا سلوك تجميلي أكثر منه علاجي ما دام ينصب على الآثار عوض معالجة الأسباب.

في الواقع، فالمريض عندما يستيقظ، لا يتذكر ما قاله تحت تأثير التنويم، بحيث إن اختفاء أعراضه يتركه مضطرباً، وأعزل ما دام وحيداً مع مظاهر رغبته اللاشعورية فقط. إن التنويم المغناطيسي لا يعمل إذن إلا على تقوية الكبت، وعلى العكس فبقيادة المريض إلى أن يكتشف بوعي الرغبة التي تعبر عن نفسها جسدياً، نستطيع أن نأمل شفاءه. ومنهج التحليل النفسي هو الاسم الآخر لهذا الوعي. والحال أن هذا العلاج يتطلب من المريض مجهودات مرهقة للتغلب على مقاوماته الداخلية واكتشاف أسباب معاناته. وهذا هو ثمن استقلاليته وتوازنه المستعاد.


:: قاعدتي التحليل ::

إن المريض لا يتمدد على الأريكة إلا من أجل الخضوع لقاعدتين:

* قاعدة عدم الإغفال: وترتكز على التحدث بحرية ودون موانع، وقول كل شيء بما في ذلك ما لا نعرف، دون حكم قيمة ولا خوف من السخرية؛ لأن كل شيء يمكن أن يكون له معنى بما في ذلك ما يبدو محالا أو بدون دلالة؛ ولأن المراقبة التي تمارس ضد الخطاب الخاص تشبه جداً مقاومة تمنع قول ما يجب قوله، فإن الكلام يجب أن يذهب إلى ما وراء الحدود التي يرسمها التفكير.

* قاعدة التداعي الحر: يمكن للطبيب أن يوجه الكلام باقتراح تداع للأفكار، من خلال كلمة تبدو له ذات دلالة، والحال أنه يمكن المراهنة على ظهور انشغالات المريض اللاواعية من خلال هذه التقنية. وهكذا، فإن التداعي الحر ليس له من الحرية إلا الاسم، وتكشف التجربة المنتهية في الواقع، الرابط الذي يجمع الأفكار المتسلسلة، بعضها إلى بعض، "بشكل عفوي".

على ضوء هذه الجلسات، نستطيع الإمساك بالمبررات التي قادت إلى تسلسل التمثلات، انطلاقاً من تلك الفكرة الأولى التي أنتجت هذه التمثلات. وهذه التبعية الكامنة بين الأفكار تكشف تحديداً يختفي لاشعورياً لحظة ظهوره.


:: مسلمة الحتمية النفسية ::

من خلال التطبيق تظهر شيئاً فشيئاً مسلمة نظرية وهي تلك المتعلقة بالحتمية النفسية. وهكذا، فالوقائع النفسية لن تشكل استثناء عن النظام العام لظواهر الطبيعة، حيث يتم تفسير كل أثر من خلال سببه، ويرتبط بقانون ثابت وضروري. وبالتالي فتسلسل أفكارنا، وبعيداً عن تتبع السير الاعتباطي لإرادة بدون سبب، ينتج عن منطق لاواع. فالمعنى المفقود من وجهة النظر الدقيقة للوعي، يعثر عليه من وجهة نظر اللاوعي.


:: إشكالية التحليل النفسي ::

إن التحليل النفسي يدعونا إلى المرور من إشكالية الحقيقة إلى إشكالية المعنى. فأفكارنا، بما فيها تلك اللامتماسكة، تشبه تلميحات إلى أفكار أخرى أو ترجمات لخطاب آخر هو خطاب اللاشعور، المكبوت. هذه الفرضية تسمح بتوسيع مجال فهمنا للظواهر الإنسانية بإعطاء معنى لما ليس له معنى. وهكذا هو حال كل السلوكات التي تعالج عادة باحتقار ولا نبحث عن تأويلها (أفعال منسية، هفوات...)؛ لأنها تبدو لنا تافهة تماماً، حتى ولو كانت تجليات عرضية أو تعبيرات رمزية عن مقاصدنا الأكثر سرية.


:: تأويل الأحلام ::

هكذا هو حال الحلم على الخصوص، "الطريق الملكي"، حسب فرويد لمعرفة اللاشعور، ما دام كالعرض (لكن العرض الذي له ميزة طفيفة لإمكان ملاحظته لدى كل الأفراد)، هو تعبير مقنع عن الرغبات المكبوتة.

إذا كان الناس، في الواقع، يرون في حلمهم ظاهرة قابلة للتأويل، فلأن لهم حدس بأن الحلم، بعيداً عن كونه بدون دلالة، أو محال، يخفي معنى أكثر عمقاً وأكثر تماسكاً من ذلك الذي يظهر في وعي الحالم. لنلاحظ بأن الحلم عند الطفل يكون دائماً بلوغاً للمرام، ويمدد فرويد هذه الفرضية لتشمل أحلام الكبار، حيث التعبير عن الرغبة يكون مع ذلك مستتراً تحت تشوهات مختلفة، من خلال واقع الإصرار على مقاومة وممانعة منبثقة عن الوعي، أثناء النوم.

إن تحليل تداعي الأفكار التي يمكن أن يقدمها الحالم انطلاقاً من مضمون ظاهر للحلم (ذكرى الحلم عند الاستيقاظ)، يظهر في الواقع وجود رزمة من الأفكار (مضمون خفي)، التي يتوقف الحلم داخلها عن أن يكون ملغزاً، ويمكن، عندما تفك رموزه، أن يرتبط بالحياة الواعية للحالم.

إن هذا المحتوى الخفي إذن هو الذي يمثل المعنى الحقيقي والمقنع للحلم، المعنى المنكشف عند تحيين سيرورات التشوهات التي كانت تخفيه والتي تشكل، عمل الحلم. وبواسطته، كانت أفكار ورغبات الحالم تعوض وتتخذ شكل صور مرتبطة بالحلم، كما هو الحال في اللغز.

إن فك الرموز، من خلال فك شفرات قواعد هذا العمل، يستطيع وحده كشف الدلالة الحقيقية للحلم، ضداً على التطوير الثانوي الذي بواسطته يسعى كل واحد، عند الاستيقاظ إلى تغيير سياق الحلم من أجل إضفاء التماسك عليه، وإلباسه مظهر المعقولية، في فعل أقرب إلى تشويه جديد، يغطي معنى الحلم، أكثر مما يعري حقيقته الأصلية.

 

الحتمية والحرية

إن الحتمية النفسية، بالتأكيد، تظهر كنزعة قدرية. ليس فقط من خلال وضع التمثل التقليدي للذات الواعية موضع تساؤل، قابل دائماً لأن يرسخ بواسطة تيقظه تحكماً غير منقوص، ولكنها توجد أيضاً مكرسة صورة ذلك الكائن المحكوم بواسطة سببية ليس له عليها سلطان. فهل يستطيع الإنسان أيضاً أن يعتبر نفسه صانعاً لتاريخه إذن، أم يجب عليه أن يتقبل خضوعه المستسلم لقوى عمياء تسيطر على سلوكه؟
 

الطبيعة والتاريخ
التمثل الموضوعي للجهاز النفسي

 

إن القراءة السطحية لفرويد يمكن أن تجعلنا نتصور التحليل النفسي باعتباره قتلاً للحرية. في البداية، اكتفى فرويد، في الواقع، بتحديد اللاوعي كمماثل للمكبوت في مقابل ما قبل الشعور، الذي يشير إلى ما هو خفي (ما هو غير واع حالياً، لكن يمكن أن يصير واعياً)، وفي مقابل الوعي الذي يشير إلى ما هو حاضر حالياً في مجال الشعور. ومع ذلك فقد استبدل في 1920 هذه الفرضية، بتمثل آخر للجهاز النفسي من خلال مصطلح النظرية الثانية. إن التمثل النظري للاشعور يجعل هذا الأخير مكاناً (topos)، ونسقاً خاصاً، حيث تكتمل العمليات النفسية الخاصة المنفلتة من الوعي. هذه النظرية الثانية التي حلت محل نسق اللاشعور، ما قبل الشعور، والشعور، تصف النزعة السيكولوجية من خلال العلاقات التي تجمع بين ثلاثة مكونات، وهي: اللهو، الأنا، والأنا الأعلى.

 يمثل الأنا الجانب الواعي، مع أنه يتضمن آليات دفاعية لاشعورية (الكبت مثلاً). ويمثل الأنا الأعلى المكون المسؤول عن احترام النواهي الأخلاقية، وهو مكون يتشكل هو ذاته من خلال استدماج النواهي الاجتماعية الأساسية. أما بالنسبة للهو، فهو خزان الطاقة الغريزية، أي الميولات التي تأتي من الجسد والتي تطلب الإشباع دون أن تأخذ بعين الاعتبار إكراهات الواقع.

سنلاحظ، من جهة، المكانة الكبيرة التي يعطيها فرويد للاشعور (يعتبر لاشعوريا، اللهو، الأنا الأعلى، وجزء من الأنا)، ومن جهة أخرى، واقع أن تحديد اللهو (حاجات ورغبات جسدية)، يجعل اللاشعور واقعاً قديماً وأولا، ليس الشعور غير فرع منه فقط.
 

:: الغريزة والانفعال ::

هكذا، تعطي النظرية الثانية الفرصة للتفكير بكون الإنسان ليس فقط ذاتاً مجزأة، وإنما هو كائن محكوم، حقاً، من خلال لاشعوره. في النظرية الأولى، في الواقع، كان اللاشعور لا يزال محدداً كأثر للكبت (يعني بوصفه كـ "مكان" تستثمره مجموع الرغبات المكبوتة). وفي النظرية الثانية: جعلته خاصيته الأصلية بمثابة طبيعة، بمعنى مبدأ يحدد مجموع تصرفاتنا.

ومع ذلك، فإذا كانت الغريزة لها مصدرها داخل الجسد، وإذا كان هدفها طبيعياً هو الإشباع، فإن موضوعها، ذاته، ليس محدداً بشكل مسبق. هكذا هو حال الغريزة الجنسية التي تتولد من خلال إثارة جسدية، بالبحث عن موضوع قابل لأن يحقق الإشباع، لكن بعيداً عن أن يكون محدداً طبيعياً، يكون بالعكس، موجهاً ثقافياً، من خلال وظيفة النواهي الأخلاقية، تجاه مواضيع تتحدد قيمتها اجتماعياً. إن إمكانية مخالفة النهي تبين بوضوح بأن الغريزة ليست هي الانفعال. فلدى الحيوان، في الواقع، طاعة الغريزة ضرورية. إن الموضوع الذي يسمح بإشباع حاجة ما محدد بشكل طبيعي وثابت بالنسبة لجميع أفراد النوع. إن الغريزة معصومة: إنها لا تتهذب. وبالعكس، لدى الإنسان، يفترض توجيه الغرائز تربية ومراقبة؛ لأن الغرائز بالتحديد ليست لها مواضيع مقررة من خلال الطبيعة بشكل فطري.
 

:: الرغبة والفرادة ::

من خلال هذا الواقع، لا يتضمن تعريف اللهو باعتباره خزاناً للغرائز أي تحديد مسبق. إن الغرائز هي المحرك لأفعالنا، لكن شكل إشباعها يكون حراً. فالمجتمع، بالتأكيد، يشجع بعض المواضيع على حساب أخرى (المحرمات، إدانة المثلية الجنسية، إلخ...). ومع ذلك، فإن هذه التحديدات الثقافية، عكس الضرورة الطبيعية، ليست كونية ومطلقة. فمن خلال البحث عن موضوعها تعرف الغريزة الجنسية تجارب مختلفة للإشباع تطبع الذات بشكل دائم، وتؤثر على الشكل النهائي لجنسانيتها. إن مرونة الغريزة تجعل وجود تاريخ فردي لكل شخص أمراً ممكناً. وتوجيه الغرائز ليس فطرياً ولكنه تاريخي: إنه يرتبط ليس فقط بالإكراهات الثقافية، ولكن أيضاً بتجارب فردية ومصادفات خاصة تطبع حياة كل ذات. وبالنتيجة، فالنظرية الفرويدية لا تتضمن إطلاقاً نفياً للفردانية، وإلغاء للايقين الأساسي لوجودنا. إنها لا تظهر إذن جاعلة تحديد الإنسان كذات حرة مستحيلاً، بشكل مطلق. فمدرسة التحليل النفسي، في الواقع، تحاول تفسير اختيارات، وتحليل أولويات دون الطموح إلى إمكانية توقعها. ومن خلال وجهة النظر هذه، فإن تأويلات التحليل النفسي ليست علماً يحلل الظواهر النفسية على شاكلة الفيزيائي الذي يفسر الظواهر الفيزيائية، إنه يعالج الذات الإنسانية كموضوع خالص، ولهذا السبب بالتحديد تتولد الرغبة من خلال التقاء الصدفة بالضرورة.
 

النزعة الثقافية والنزعة الكونية

:: من صعوبة إلى أخرى ::

من خلال جعل الرغبة ممثلا نفسياً لتاريخ الذات، أفلت فرويد إذن من النقد الأول الذي كان ممكناً أن يوجه إليه، والذي مفاده أن نظريته تنفي الحرية الإنسانية من خلال التسليم بأن الجهاز النفسي يخضع لقوانين ثابتة وكونية، مثلما يخضع كل شيء في الطبيعة إلى ضرورة صارمة.

والحال، هل يمكن أن نؤكد في نفس الوقت بأن لا شيء طبيعي في الإنسان بشكل صارم سوى القطب الغريزي دون أن نختزل، من جهة أخرى، كل معيار في فعل الثقافة، ومعها كل قيمة في الفعل الاجتماعي؟ ماذا تعني إذن هذه الحرية بدون قيم أخلاقية؟ أليس للنظرية الفرويدية هنا التأثير المفارق لفتح الطريق إلى النسبية الأخلاقية وإذابة فكرة المسؤولية ذاتها؟


:: تشكل الأنا الأعلى ::

إن الأنا الأعلى، في الواقع، هو ممثل الأخلاقية، وهو مكون نفسي يتشكل من خلال استدماج النواهي الأبوية. والأنا الأعلى، حسب فرويد، هو وريث عقدة أوديب، بمعنى مجموع الميول العاطفية المتناقضة، التي يعرفها كل طفل في لحظة ما من تطور حياته الجنسية، والتي تحمله على اختبار مشاعر مختلطة من الحب والكراهية تجاه كل واحد من الأبوين. هكذا يحب الطفل الصغير أمه حباً متميزاً وينظر إلى والده كخصم، غير أنه يحب أيضاً والده الذي يعتبره نموذجاً يحاول اتخاذه مثلا أعلى، في نفس الوقت الذي يكره أمه لأنها تفضل عليه والده. إن الطفل لا يستطيع إنهاء هذه العقدة بشكل نهائي إلا بقبول أن رغبته مستحيلة، وبترك المواضيع المحرمة تحت ضغط السلطة الأبوية.

 تلك هي النتيجة الايجابية للتربية، إنها استدخال صوت الأب أو استدماج النماذج الخارجية التي تمثل القيم التي تولد الأنا الأعلى.


:: التربية والوعي الأخلاقي ::

هكذا، لا يكون حضور الوعي الأخلاقي لدى الإنسان فطرياً بل مكتسباً: إنه بالأقل علامة على استقلالية الذات، على أن يكون سمة لتبعيتها الجذرية. في الواقع، بينما يعرف الفلاسفة التربية كلاسيكيا كعملية لتفتح الطفل على القانون الأخلاقي الذي يحمله في ذاته بشكل فطري، يدركها فرويد كسيرورة لاستدخال الإكراه.

إن فرويد، إذن، يتجاوز هنا الثنائية المقامة كلاسيكياً بين الإلزام والالتزام. فالإلزام، في الواقع، هو قوة خارجية تقيد حرية الفرد. أما الالتزام فهو في مقابل ذلك امتثال لقانون نحمله في ذواتنا. إنه يماثل الواجب ويستلزم الحرية. والحال أن فرويد ينتقد حقاً هذا المفهوم للالتزام بتبيين أن الفرد يعتقد أنه يلزم نفسه بحرية بالنواهي، في حين أنه في الواقع يمتثل للإكراه، ولقوة مكرهة مستبطنة، لكن هذا دون إرادة ولا تحكم لأن هذه القوة لاشعورية.

توصف التربية إذن كعنف (استبطان لقاعدة تولد الشعور بالذنب)، وليس كتنبه إلى الاستقلالية (تنبه إلى القانون[nomos] الذي نحمل في ذواتنا [auto].


أجوبة عن الاعتراضات

تطرح قراءة فرويد إذن عدداً من المشاكل الفلسفية. كيف يمكن التفكير في الأخلاق دون معيار طبيعي؟ كيف يمكن إنقاذ المسؤولية دون افتراض الحاجة الفطرية لفعل الخير؟ كيف يمكن التفكير في الحرية دون التسليم باستقلالية الوعي؟


:: الحرية كتحرر ::

تعتبر الفرويدية هدفاً لانتقادات فلسفات الحرية التي تسلم بالاستقلالية الفطرية للتفكير، مادام، أبو التحليل النفسي، على غرار ماركس أو نيتشه، يصف الإيمان الباطل في القوة المطلقة للوعي باعتباره وهمياً ومستلباً.

ومع ذلك، فعلاج التحليل النفسي ليس له وظيفة أخرى غير تحريرنا من هذا الوهم. فإذا كان الإنسان غير حر من خلال الطبيعة، فيمكنه على الأقل العمل على تحرير نفسه من جهل الأسباب التي تحدده.

في الأساس، على الرغم من أن اكتشاف اللاشعور كان له أثر إزاحة الوعي الذي لم يكن غير جزء من النزعة النفسية، يبقى أن التحليل النفسي يتعاطى مع إرجاع اللاوعي إلى الوعي كهدف أساسي. ويتعلق الأمر بتقوية الأنا، الذي تضعفه مجهوداته المضنية للتحكم في المكبوتات، وجعله مستقلا عن الأنا الأعلى وجعله يربح دائماً مساحات أكثر من اللهو. هكذا يحاول العلاج أن يكون تحريرياً أساساً: "حيثما يكون اللهو، يجب أن يتدخل الأنا". {"wo es war soll ich werden"}. إن الحرية تبدو هنا كفعل أقل منها كنتيجة.


:: الكونية المستعادة ::

بعيداً عن أن يكون ثقافوياً، كشف فرويد قبل ليفي ستروس الخاصية الكونية للتحريم المجسد في رفض زنا المحارم، الذي يشهد في كل مكان على الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة. بهذا المعنى، إذا كان محتوى الأخلاق يمكن أن يختلف حسب الثقافات، فالأخلاق ذاتها لا تزال مطلباً عابراً للثقافات؛ ولأن الأخلاق تجربة إنسانية خاصة، فمسؤولية الإنسان ليست مرفوضة ولكنها بالعكس مرجوة.

إنها بالتأكيد لا تتأسس على مبدأ متعال. ومع ذلك فهذا لا يعفينا من القيام بواجبنا؛ لأن هذا العالم ليس عالماً بدون الغير. بل على العكس تماماً، فالغيرية متضمنة في تكوين أنانا. لقد ارتبط وجودنا ولايزال بالغير. إن إنسانيتنا في الأصل إرث، وتفردنا هو أثر لعلاقتنا بقانون يجسده الآخرون. بمعنى أن الغير لا يمكن أن يكون الأداة الخالصة لرغباتنا، مادام أن رغباتنا التي، هي في عمقها، علاقة مع الآخر، تتطلب الترويض والأمل في أن تكون ملباة.

وبعيداً عن كونه ذريعة لكل المواربات، فالتحليل النفسي، بهذا المعنى، هو عمل لترسيخ المسؤولية والتحرير. ولكن، إذا كان فرويد يستطيع تعريف العلاج كتربية بعدية، فإن الأمر مع ذلك يتعلق بأن يتابع، الآن فقط، هذا العمل الذي كان آخرون قد شرعوا فيه من قبل، وكنا نحن النتيجة. أن يحدث ذلك حقاً، يجب على كل واحد أن يضطلع بهذا الإرث ويعترف بدينه من خلال فعل، يسمح بإعطاء معنى للحاضر وينفتح على المستقبل، لأنه يقبل الماضي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها