مَدينةُ الشّاوُن أو شِفْشاوِنْ.. المدينة الزرقاء

د. أحمد سوالم



في جو ميزته حرارة معتدلة مصحوبة بهواء بحري رطب، انطلقتُ من مصطاف مرتيلَ السّاحلي في اتجاه مدينة شِفشاون، مدينة الجمال والرومانسية والجبال والماء، مروراً بالحمامة البيضاء مدينة تطوان.
 

يمتاز الطريق بالتواءاته ومنعرجاته الصعبة، وبجباله المحيطة بك من كل جانب، وبانحداراته وخضرته في نفس الآن، تجعلك تفتتن بهاذه المناظر الخلابة الجميلة، التي تعطي لزيارة مدينة شفشاون متعة خاصة، فهي رحلة تيه واكتشاف تختلف عن باقي مدن شمال المغرب المجاورة (تطوان طنجة أصيلا...)، وكذلك عن باقي مناطق المغرب الأخرى.

تأسرك في طريق شفشاون، الطبيعة بحسنها وجمالها، وألوان الأزهار الممتدة على طولها، حيث يمتزج منظر الجبال في انحدارها وارتفاعها، بلون النباتات الممتدة فيها؛ وكأنك في معرض للورود والأزهار والأشجار، ويزيد المنظر جمالاً زرقة المياه التي تجدها في الطريق، خصوصاً في سدي مرتيل والنخلة.

تجعلك المناظر الخلابة الموجودة في الطريق إلى شفشاون، تتوقف مرات ومرات، للاستمتاع بجمال الكون والطبيعة ولالتقاط صور للذكرى، كيلومترات تقضيها في طريق شفشاون مستمتعاً، ويقضيها السائق منتبهاً لوعورة الطريق التي تتطلب سرعة متوسطة، ويقظة وتسامحاً بين السائقين.

وصلنا مدينة شفشاون.. مدينة ساحرة بطبيعتها وجماليتها وتاريخها وهدوئها، فهي مدينة السكينة والبساطة في العيش، حيث يمكن للبال أن يرتاح من هموم ومصاعب ومشاكل الحياة، تستقبلك بلونها الأزرق والأبيض وكأنها عروس في ليلة زفافها.

✧✧✧


شفشاون دلالة الاسم والموقع

تقع شفشاون شمال المغرب، فهي تبعد حوالي 90 كلمتراً عن مدينة طنجة المطلة على مضيق جبل طارق، وحوالي 240 كلمتراً شمال العاصمة الرباط، وسط جبال الريف ذات التضاريس الصعبة. تأسست مدينة شفشاون في 876هـ/1471م على يد مولاي علي بن راشد، لتكون حصناً عسكرياً لمواجهة الزحف البرتغالي على المنطقة.

وأصل كلمة شفشاون أمازيغي، وتعني "محل صالح للجهاد، وقيل أيضاً في اشتقاقها إنها مأخوذة من الشفشاون، وهو الاختلاط ومحل نزول المجاهدين". حسب تقييد القاضي العلامة محمد الصادق الريسوني1. وهناك من أرجع الاسم إلى الكلمة الأمازيغية "إشاون" والتي تعني قرون، وتطلق في العادة على قمم الجبال الحادة.

أما سكان مدينة شفشاون، فيتكونون من الشرفاء ولاجئو الأندلس، كما استوطنها في فترات زمنية سابقة اليهود.

تمتاز المدينة بأزقتها ودروبها الضيقة، وبالانحدار والارتفاع، وببيوتها المصبوغة باللونين الأزرق والأبيض، وأسقفها المائلة وبها قرميد، لكون المدينة تعرف تساقطات ثلجية مهمة خلال فصل الشتاء. وتحيط بشفشاون أسوار بها أحد عشر باباً، وتتوفر على اثني عشر مسجداً، وتسع زوايا وثمانية أضرحة مشهورة، منها ضريح سيدي علي بن راشد مؤسس المدينة.

 

شفشاون مدينة تحتضن التاريخ

تحتضن المدينة العتيقة لشفشاون، مجموعة مهمة من المباني التاريخية التي تعكس إلى حد كبير الطابع التاريخي والحضاري الذي تكتسيه المدينة، منها:


◀ القصبة:

هي النواة الأولى للمدينة، وتقع في الجزء الغربي، وهي محاطة بسور تتوسطه عشرة أبراج، وتجسد طريقة بنائها النمط الأندلسي في العمارة. ويحتوي فضاؤها الداخلي على حديقة كبيرة مزينة بحوضين، وتستغل القصبة حالياً كمتحف اثنوغرافي.
 


◀ ساحة وطاء الحمام والمسجد:

وهي ساحة عمومية تاريخية، تبلغ مساحتها 3000 م. وتعتبر قطب المدينة التاريخي والسياحي، باعتبار كل الطرق تؤدي إليها. وتحتضن الساحة المسجد الأعظم، الواقع في الجهة الغربية للقصبة، وبني المسجد من طرف محمد بن علي بن راشد في القرن 10هـ/16م، فصومعته الشامخة التي تمنح المكان جمالية ورونقاً، وتطبعه بطابع إسلامي مهيب.
 

◀ السيدة الحرة.. جزء من تاريخ شفشاون

ارتبطت شفشاون باسم أميرة الجهاد السيدة الحرة، التي استطاعت حكم هذه المدينة، ومدينة تطوان، ودافعت عن مناطق شمال المغرب ضد الضغوط الأجنبية، لكنها كانت ضحية دسائس التحالفات في شمال المغرب في النصف الأول من القرن السادس عشر، قبل أن تنسحب للعبادة والتصوف، وتتوفى في شفشاون حيث يوجد ضريحها في الزاوية الريسونية في قلب المدينة.

◀ رأس الماء.. قلب شفشاون

 يخترق ساحة وطاء الحمام، زقاق طويل به محلات تجارية تبيع مختلف أنواع المنتجات عصرية وتقليدية ومواد غذائية، هذا الزقاق الضيق المبلط باللون الأزرق يعكس اهتمام ساكنة شفشاون بمدينتهم، هو الذي يؤدي صعوداً من السفح إلى الأعلى إلى عين رأس الماء، التي تقع على مقربة من جبل تيسوكا، رأس الماء أو "راس الما" حسب السكان، هو منبع يشق الجبل لتنساب من شلالاته ينابيع من المياه العذبة الباردة، ساهمت في جعل المكان يحتضن أشجاراً ظليلة.

اختلفت الآراء حول مصدر رأس الماء، فمنهم من اعتبرها ناتجة عن المياه الجوفية الباطنية للجبال، وذهب آخرون إلى كونها نتاج ذوبان الجليد واستجماع المياه المتحصل عليها من الأمطار، في عدد من الأودية الفرعية والجبال المحيطة بالعين، خصوصاً وأن مدينة شفشاون تعرف تساقطات ثلجية مهمة خلال فصل الشتاء. إلا أن الأكيد، هو أن عين رأس الماء، هي عصب الحياة في مدينة شفشاون، فهي أساس الاستقرار السكاني بالمنطقة، فعلى جنباتها وأسفلها استقر الإنسان منذ القديم، فهي أصل وجود مدينة اسمها شفشاون، كما أنها تُعدُّ إلى اليوم المزود الرئيس للمدينة من حاجياتها من الموارد المائية، سواء للشرب أو الأنشطة الزراعية.

كما أن النشاط السياحي للمدينة يدور حولها، ففي العين تجد السياح من مختلف الجنسيات، خصوصاً الإسبان والبرتغاليين، كما يقصدها السياح المغاربة بكثرة نظراً لطابع المدينة المتميز عن باقي المدن المغربية. كما أن عين رأس الماء خلقت رواجاً تجارياً مهماً بالمدينة، فبالقرب منها، تستوقفك مجموعة من الأنشطة غالبيتها من اختصاص نسوة المدينة، من نقش بالحناء المغربية التقليدية وكراء الملابس الجبلية التقليدية، التي ترمز للمنطقة للرواد والزوار لالتقاط صور تذكارية بها، مقابل دريهمات رمزية لا تتعدى خمسة دراهم.

كما يوجد بها كذلك مجموعة من باعة الهدايا التذكارية الرمزية، التي يشتريها الزوار لأهلهم وذويهم وأحبتهم وأصدقائهم. كما يستوقفك وأنت في رأس الماء، منظر زوار يلتقطون صوراً قرب باب منزل كتب عليه "دار القائد الخمسي"، وهو منزل صورت فيه سلسلة تلفزية مغربية "بنات لالة منانة"، والتي حققت نجاحاً كبيراً لدى المشاهد المغربي، وغدا معها هذا المنزل مزاراً وقبلة سياحية جديدة، تنضاف إلى معالم شفشاون التاريخية.

ختاماً، تختصر المعالم التاريخية بشفشاون، حكايةُ المدينة والاستقرار السكاني بها قديماً وحديثاً، كما تبين دور الماء في الاستقرار البشري باعتباره أساس الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ}، كما تعد قلب الحياة بها، في فلكها يدور النشاط السياحي والنشاط التجاري للمدينة، ما يفرض على الدولة ضرورة الاهتمام بما تزخر به شفشاون من خصوصيات ومميزات تاريخية وطبيعية، من خلال تأهيل مجالها والتعريف بها وبتاريخها، وتثمين منتوجها السياحي لما فيه صالح المواطن والسياحة والاقتصاد الوطني.


1. لمحات تاريخية عن مدينة شفشاون بشمال المغرب، مجلة دعوة الحق عدد: 177 متاح على الرابط : http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/4724

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها