ماسح الأحذية!

سمير حكيم

في الجهة البحرية من شارع ملك حفني رأيت ذلك الصبي يضرب بفرشاة على صندوق خشبي معلق بكتفه، ويهتف: "لمعة"! بينما يجتاز صفًا من المقاهي بامتداد رصيف عريض انحنى قرب قدمي أحد الجالسين:
تلمّع يا أستاذ؟!
ابتسم الرجل، وسحب قدميه معتذرًا.
‏أوسعت من خطواتي لكي ألحق به، شعر بوجودي خلف ظهره، وترك ذراعه ليدي الضاغطة عليه.
- هل تسكن قريبًا من هنا؟!
- لا...
‏- ‏من أين أنت...؟!
- ‏من محافظة كفر الشيخ
- طالب بالمدرسة؟!
هز رأسه نافيًا:
‏‏- تركت الدراسة.
‏تأملت ملامح وجهه، تجاوز الثانية بعد العاشرة من العمر، بشرته سمراء جافة، وشعره الخشن الكثيف ارتفعت أصابع يده تعبث في حركة مضطربة بين ثنياته.
- متى؟!
‏ابتلع ريقه ضامًا شفتين مكتنزتين وأجاب:
- منذ سنة.
‏لفت انتباهي التماع عينيه في ضوء الشمس، والصندوق الأسود المتدلي بحزام سميك من القماش الكتّان يعبر فوقه الضوء فيزداد سواده، وتفترش بقايا الضوء الرصيف.
- لماذا تركت المدرسة، وفضّلت عليها العمل ماسح أحذية؟! تساءلت. حانت منه التفاتة إلى حذائي، وقال بعد أن فقد الأمل لتلميع حذاء مصنوع من "الكاوتشوك":
‏‏- لأُساعد أختي في جهازها.
‏- ‏كم عمرها؟! بفضول كان السؤال، وبصوت هادئ
‏‏- ‏ثمانية عشر عامًا ..
فقدتُ جزءًا من هدوئي
- ما زال الوقت مبكرًا لزواجها.
‏رد ببساطة: أختي الكبيرة كان عمرها سبع عشرة سنة لمّا تزوجت.
‏‏شاب صوتي الانفعال:
- ارجع للدراسة.. واشتغل في الإجازة الصيفية.
- فترة الصيف لا تكفي.
وشرد كأنما يتتبع شيئًا يتحرك على مسافة بعيدة من بصره، ثم انتبه:
- إن رجعت للمدرسة لأكمل تعليمي.. لن تتزوج أختي.
كانت الشمس عمودية ساعة الظهيرة، أتنفس هواء ساخنًا، ينضح جبيني بعرق وما زلت أُواصل معه الحديث.
- تخرج أختك للعمل، تساعد نفسها.
سار بضع خطوات ثم توقف، وبلهجة حاسمة قال:
- لا... عيب أن تشتغل البنات.
- هل هذا رأيك!!
ومشيت دون انتظار إجابته، وبلا مزيد من الأسئلة عن كيف يعيش في مدينة الإسكندرية؟! ومع من؟! وما رأي والديه في تسكعه بين الأقدام إن كانا لا يزالان على قيد الحياة؟! لا شيء سوى أن قلت قبل أن أدخل في شارع خلفي عائدًا للبيت:
- ستبقى إلى النهاية عامل أحذية.
وسمعت صوته من بعيد مبحوحًا، وفي أحايين أخرى كان الصوت عاليًا مستجديًا رواد المقهى، ثم انزوى في ركن من الذاكرة.
كم من السنوات مرت على حديثك القصير معه؟! تجرجر قدميك إليها تلك الشوارع، والأزقة الضيقة، لم تزل دلائل الفقر باقية على وجوه ساكنيها، ولم تتغير هذه الأمكنة، لمّا عرجت إلى شارع جانبي أطل عليك فجأة من الذاكرة وجهه القديم، متعبًا كان، والصندوق في نفس الموضع يتدلى من كتفه اليسرى، ليس مشابهًا في الشكل أو الوظيفة لصندوقك، لكنه في النهاية صندوق، وكان ثقيلًا على النفس، أردت التخلص منه قبل أن تسقط ويسقط فوقك يكسرك.. لم تقدر على فعل ذلك، فقد تجمعت كل الظروف لجعلك تحمل الصندوق بمفردك، أكملت سيرك حينذاك محملاً بأثقال، ورأيت ظل الصبي ينحني ويتحدّب بمرور الأيام ظهره، والآن يتبعك بإصرار، لم يكن بيدك شيء تفعله لأجل الولد ذي البشرة السمراء سوى إنذار ليتراجع، لكنه أمسك بالفرشاة وراح يدق بها على صندوقه الخشبي الملطّخ بخليط من الأصباغ، والصوت واضح رغم نداءات الباعة على بضائعهم الملقاة فوق أحد الأرصفة، يملأ أُذنيك "لمعة يا أستاذ.. لمعة"!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها