حيّرَ الفلاسفة .. وأحدث انقلاباً في تحديد ماهيته

الإنسان: بين التهميش الفلسفي والتجاهل لقدراته العقلية

محمد هجرس


شكل الإنسان صراعاً فكرياً بين الفلاسفة منذ أن عرّفه أفلاطون وأرسطو بأنه: كائن حي يتميز بالعقل (أي أنه عاقل)، أصبح مكلفاً ومناطاً بالمسؤولية والجزاء أيضاً، لكن جاءت الفلسفة المعاصرة وقادت انقلاباً كبيراً في تحديد ماهية هذا الإنسان، وتضمن هذا الانقلاب تقييماً لقدراته العقلية والمعرفية، وتم تجاهل الأبعاد العقلية التي أفرزتها التصورات الفلسفية القديمة، ولم تعطه اهتماماً وهمشته واعتبرته مجرد قوى لا شعورية أوغريزية، بل وسعى بعض الفلاسفة إلى إزالة العقل إيماناً منهم أن ذلك يعد مدخلاً لتعريف الإنسان ومنطلقاً لدراساتهم الفلسفية الجديدة.




سقراط: الجهل بالنفس أداة للشر

ويعرف الفيلسوف سقراط الفضيلة بأنها المعرفة؛ لأن معرفة الانسان بنفسه وبما ينفعها حتماً سيقوده إلى التصرف تجاه ما ينفعه وينفع الناس، وذلك عكس الشر الذي يصدر من الناس الذين يجهلون المعرفة بأنفسهم وبما ينفعها.
وأدرك سقراط أن هناك شريعةً أخلاقية أبدية لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف كالدين الذي آمنت به أثينا ذاك الوقت. وإذا كان الإنسان يستطيع بناء نظام من الأخلاق مستقل تماماً عن المبادئ الدينية، عندئذ ربما تأتي الديانة وتذهب دون أن تفكك أو تذيب خرسانة الأخلاق التي تجعل من الأفراد مواطنين مسالمين في مجتمعهم، ما يجعل التصرفات محكومة بالعقل والحكمة، وهو ما يتطلب تقديم المعرفة في اتخاذ القرارات التي هي في صالح الفرد ومجتمعه.
 

نيتشه: تغيير وظيفة العقل

اهتم الفيلسوف فريدريك نيتشة بإزالة العقل من موضوع التصورات الفلسفية للإنسان، وشكل هذا الموضوع محور دراساته الفلسفية، وكان مدخلاً لتحديد وتعريف الإنسان.
وقال نيتشه في مؤلفه (العلم المرح): إن العقل غريزة كالغرائز الأخرى التي من شأنها أن تبقي الإنسان على قيد الحياة، وتلك وظيفتها فقط، وتم اعتبار الأبعاد الغريزية المكون الأساسي والمركزي للذات الإنسانية، وأن ما حصل في الثقافة الإنسانية من اضطرابات يرجع إلى تبديل وظيفة العقل، وتحميله مسؤولية كبيرة مثل الحقيقة والأخلاق، كما أنه قلل من القيم الأخلاقية التي يتسم بها العقل مثل الرحمة والتسامح، ووصفها في بحثه الذي حمل عنوان: (جنيالوجيا الأخلاق) على أنها أخلاق ضعف وعبودية ولا تدل على القوة والسيادة، وهو ما دفعه إلى المناداة بتغيير وظيفة العقل وقلبها من معرفية إلى مجرد وسيلة لخدمة الغرائز، وبذلك يكون قد نفى فكرة الأنا هو الذي يفكر.
ووجد نتيشه تأييداً من الأبحاث الأنثروبولوجية (علم الإنسان)، وظهرت النظرية الداروينية القائلة إن الإنسان أصله حيوان، وقد كان لها حضور كبير في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، خصوصاً في المجال الثقافي والصحفي، ومجال الأدب.
 

هيدغر: ابتذال ووجود زائف

كون الفيلسوف مارتن هيدغر منهجاً فلسفياً مترابطاً للبحث في الوجود والحياة ساعياً لصالح اهتمامات الإنسان وهمومه، والقطع مع الفلسفة المتعالية، وإقامة نظرية متكاملة حول الوجود من خلال دراسة الموجود البشري، واتبع هيدغر المنهج الفينومنولوجيا (العلم الذي يدرس الظواهر) الذي ابتكره معلمه وأستاذه الفيلسوف هوسرل، ولكن بطريقة مختلفة، ويكمن هذا الاختلاف في نقل المنهج من مجال الظواهر إلى مجال الوجود بهدف الإنطلاق من تحليل آنية الوجود الإنساني كطريق أوحد للبحث في حقيقة الوجود الأصلي.
ودعا هيدغر إلى تجاوز الميتافيزيقيا التقليدية (علم ما وراء الطبيعة)، والابتعاد عن العقلانية المثالية وإعادة النظر والتركيز على تحليل العلاقة بين الموجود والموجودات المحيطة به، سعياً للكشف عن الوجود الأصيل وانتشاله من الضياع خلال الحياة اليومية.
ويقول هيدغر في مؤلفه (ما هي الميتافيزيقا؟): إن القلق العميق الذي ينكشف لنا كلما امتددنا بجذورنا في أعماق الوجود كما لو كان ضباباً صامتاً من شأنه أن يغلف الأشياء والآخرين بصورة غريبة، ويغلفنا نحن أنفسنا بلا مبالاة شاملة.. وهذا القلق هو الذي يكشف لنا عن الوجود في طابعه الشمولي.
ويتابغ في نفس المؤلف: ويكشف القلق للإنسان عن الحرية؛ لأن الإنسان نفسه هو كيفية لوجود الحرية باعتبارها شعوراً بالوجود، فالأنا التي أكونها الآن أنا كإنسان تعتمد على الأنا التي لم تتحقق بعد، وهي بدورها تعتمد على الأنا الحاضرة الآن لأنها مستقبلي الخاص كإنسان، أو ماهيتي التي تتكون وفقاً لأفعالي الحالية والمستقبلية.. لكن الإنسان يسعى دائماً للهروب من القلق الذي يفرض عليه تلك الضرورة الدائمة من اللحاق بما وراء ذاته، نحو مستقبل هو نفسه في حالة هروب مستمر، وهذا الهروب هو فكرة السقوط أو الابتذال أو الوجود الزائف.
 

سارتر: الذات حرة مقيدة بالمسؤولية

ويعتبر الفيلسوف جون بول سارتر الإنسان هو البداية والنهاية لكونه الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته، وهو شرط يجعل منه كائناً حراً في أفعاله واختياراته؛ لأنه مشروع ذاته فقط، فهو ما شرع في أن يكونه، وهذا ما يجعله يمتلك كينونته كاملة، فهو أصلها ومنتهاها، هو البداية والنهاية التي ما تفتأ تكون وتتحقق في الزمان.
وعندما يكون وجود الإنسان سابق على ماهيته، فهذا يجعل منه كائناً حراً ومسؤولاً عن كل ما يصدر عنه من أفعال، من حيث إنه في صيرورة لتحديد معالم ماهيته التي تكتمل في الزمان، فإذا كان الوجود حقيقة أسبق على الماهية، فالإنسان مسؤول عما هو عليه.
وبقليل من التفكير والتأمل في الذات الإنسانية التي أسسها سارتر في فلسفته الوجودية، نجد أنها ذات حرة في أفعالها واختياراتها من جهة، إلا أن هذا يعد ضرب في القدر لأنه صورة واجبة الحدوث لأحوال الذات وأفعالها اليومية وردة الفعل، كما أنها ذات مسؤولة تجاه نفسها وتجاه الإنسانية من جهة أخرى، وهذا ما يدخلها في دوامة القلق، الذي ينتج عن حرية الاختيار، والقلق الذي نعنيه هنا، ليس هو القلق الذي يؤدي إلى الاستكانة واللافعل، لكنه القلق الصافي والبسيط الذي يرتبط بالمسؤولية، فهو ليس بحاجز يفصلنا عن العمل، بل هو جزء من العمل وشرط لإنجازه

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها