ماذا يقول المهاتما غاندي عن اللاّعنف؟

د. نفيسة الزكي

أثناء الاستعمار الإنجليزي للهند لجأ السكان الأصليون إلى أسلوب العنف لانتزاع حقهم، لكن المهاتما غاندي كان له رأي آخر؛ فقد تألم وتأسف لخروج حركة المقاومة عن مضمونها السلمي وأعلن بكل صراحة أن العنف أسلوب خاطئ لأنه سيقابل بعنف أقوى وأكثر، ليس هذا فقط بل إن غاندي ينظر إلى استخدام أسلوب العنف كمظهر من مظاهر الضعف وليس أحد مظاهر القوة. فغاندي بحق يمكن وصفه برجل اللاّعنف، وهو ما دارت حوله صفحات كتاب: "ماذا يقول غاندي عن اللاعنف والمقاومة والشجاعة" للكاتب نورمان فينكلستاين.




الكاتب نورمان فينكلستاين Norman Finkelstein


قانون "الحب يحكم الجميع"

يرى الكاتب أن المهاتما غاندي أعلن طيلة حياته أن "قانون الحب هو الذي يحكم البشر"، ولو كان الأمر غير ذلك، لما بقي أحد على وجه الأرض؛ فاستمرار بقاء البشر يظهر أن قوة الوئام أقوى من قوة التشتيت، وقوة الجذب المركزي أكبر من قوة الطرد المركزي، ولو أن العنف، أي الكراهية، حكمنا، لكنا انقرضنا منذ زمن طويل، ولو كان المجموع الكلي لأنشطة العالم تخريبياً، لكان انتهى منذ زمنٍ بعيد. وتماماً كما تتدبر الأسر أو حتى العشائر حلّ النزاعات بطريقة غير عنفية من خلال قدرات الحبّ الجامعة، فكذلك تستطيع البشرية وهي أسرة كبيرة واحدة.
ولتوضيح قدرة الحبّ في التغلُّب على الاستبداد العنيف، كثيراً ما كان غاندي يُشير إلى التحوُّل في علاقاته الزوجية الخاصّة؛ فبالرغم من أنه كان من عاداته أن يجعل حياة زوجته في سنواته الأولى جحيماً بالمعنى الحرفي فقد تغلبت عليه ببساطتها وتسامحها تماماً في نهاية المطاف، وبهذا أدرك غاندي أن اللاعنف يبدأ من النفس ومن المحيط القريب، فقد كتب "إذا لم يطق المرء أن يمارسه في البيت فلن يكون قادراً على ممارسته بأية حال".

اللاعنف قضية مركزية في مشوار غاندي

يؤكد الكاتب في هذا المضمار أن غاندي عندما أسس نضال اللاعنف بداية في جنوب إفريقيا شارك فيه بضعة ألوف من الهنود في منطقة محدودة تحت إشرافه الشخصي، ولكن نطاق ذلك النضال امتد لحد أن عدد المشاركين فيه بوجه مباشر أو غير مباشر بلغ عدة ملايين. وكان غاندي يفكر دائماً في التدابير الكفيلة بإثارة هؤلاء الملايين في جانب ووقاية حركته من الفوضى والشغب في الجانب الآخر، وانطلاقاً من هذا كرس كل طاقاته لمراقبة شديدة دائبة على الحركة؛ فلم يكن يسمح للفلاحين مثلا بالامتناع عن دفع الأجور لملاك الأراضي، وأبقى حملته للعصيان المدني بعيدة من الولايات التي كانت تعيش تحت ظل استبداد الأمراء، وهذه القوانين الداعية لنكران الذات كلها أربكت نقاده الذين اتهموه بقمع الروح الثورية لجماهير الشعب ولكنهم لم يدركوا أن الاستراتيجية الأساسية لنضال اللاعنف يجب أن تكون مختلفة عن نضال العنف.
وفي هذا المقام أيضاً أشار الكاتب إلى أن غاندي كان يعرف معرفة تامة أن فكرة اللاعنف لن تتكلل بالنجاح في مستقبل قريب؛ فقد كتب سنة 1939م: "إني أعرف أن تطور فكرة اللاعنف على الأرجح تطور بطيء للغاية، ولكن تجربتي أقنعتني بأن هذا هو الطريق الأكثر جدارة بالاعتماد للتوصل إلى غاية عامة. والعنف وإن كان دفاعاً عن الحق لم يعد أسلوباً حضارياً. ومع اعتقادي هذا سوف أذهب في طريقي بوحدي إذا لم يقدر لي أن يكون لي أنصار ومؤيدون في تصوري الحازم في اللاعنف".

هكذا إذن كان اللاعنف القضية المركزية التي لم يكن المهاتما غاندي راضياً بشأنها عن أي مساومة، فقد قال: "إني سأرحب حتى بالفشل الكامل مع الإبقاء على قوة اللاعنف بدلا من الانحراف عنه ولو قيد شعرة من أجل تحقيق نجاح مشكوك فيه".

أهمية اللاعنف والنضال السلمي في فلسفة غاندي

لقد برهن غاندي عبر نضاله السلمي أن مفهوم اللاعنف بأبعاده الإنسانية يشكل أداة حقيقية في الصراع من أجل الحق والعدالة ونصرة المستضعفين والمظلومين، كما برهن أن هذا المفهوم يمتلك قدرة هائلة على تحقيق الأغراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعوب المستضعفة في مختلف أنحاء العالم. فاللاعنف -حسب غاندي- هو برنامج نضالي متكامل وسلاح حقيقي فعال يمكن للضعفاء والمقهورين أن يوظفوه في معاركهم الإنسانية من أجل الحق والسلام، ويمكنهم أن يجعلوا منه قوة قادرة على إحياء الوعي الأخلاقي للظالمين، وإيقاظ الضمائر وإحياء القلوب الميتة، كما أن حسن استخدامه يؤدي إلى إضعاف عزيمة المعتدي وهزم إرادته، وكسر شوكته ودفعه إلى طاولة الحوار والبحث عن السلام.

العنف نوعان: ظاهري وخفي

قسم المهاتما غاندي العنف إلى شكلين: ظاهري وخفي؛ فالعنف الظاهري في نظره هو العنف المتمثل في الحروب وحوادث القتل والاغتصاب وغيرها من المظاهر المشابهة التي لا تعد ولا تحصى. وما يغفله الكثيرون هو العنف الخفي مثل الاضطهاد والاستغلال والتمييز والكراهية والغضب وعشرات الطرق البارعة التي يعرب بها أحدنا عن كراهيته تجاه الآخر.

إن العنف الخفي يسبب الغضب والكراهية، وهما بالطبع يتمخضان عن العنف الظاهري، ومن هنا يجب علينا أن نسعى طيلة حياتنا إلى إيجاد عالم خال من العنف بنوعيه، ولا نستطيع أن نظفر بأي درجة من النجاح ما دمنا نتجاهل مصدر العنف، لذلك قال غاندي: "إن عدم نشوب الحروب لا يعني أن الناس يعيشون بوئام وانسجام، فالعنف الخفي لا يزال يلعب دوره البغيض بصورة غير مرئية، وحينما يبلغ ذلك حداً لا يمكن احتماله ينفجر العنف الخفي في عنف ظاهري".

انتقاد غاندي لكافة أشكال العنف

انتقد غاندي -حسب الكاتب- اللجوء إلى العنف، سواء كان ذلك لأسباب شخصية أو سياسية، أو أخلاقية أو نفعية، فهو يفسد الشخص ويتدنَّى به إلى مستوى البهيمية؛ فغاندي يرى أن ما يُميِّز الإنسان عن جميع ما سواه من المخلوقات هو قدرته على تجنب الممارسات العنيفة، لذلك أكد أن العدوان القاسي للحلفاء ضد هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، كان يجب تحاشي اللجوء فيه إلى القوة المسلحة والاحتكام إلى نور العقل، فالعنف دائماً ما يولد عنفاً أكثر منه.
ومن خلال تجربته الطويلة، وفي مناسبات عديدة، تنكَّر غاندي لاستخدام القوة والعنف في سبيل الحصول على الاستقلال، فهو يعتقد اعتقاداً جازماً أنه إذا تمسَّكت الهند بسبيل السلام حتى النهاية، فلا بد أن تلين قلوب أقسى المسؤولين البريطانيين؛ فغاندي كان يعقد الأمل على الوصول إلى الأمّة البريطانية، أي إلى الرأي العام، من خلال أساليب أخرى غير عنيفة من قبيل المقاطعة وعدم التعاون والإضراب عن الطعام وغيرها، وهو ما نستشفه من قوله: "لست أطمح إلى أَقلّ من تحويل الشعب البريطاني من خلال اللاعنف، وبالتالي جعله يرى حجم إساءته إلى الهند، فالإمبرياليون البريطانيون قد تكون لديهم دوافع قوية، لكن ضمير الشعب البريطاني ربما أمكن وخزه مع ذلك. وفي الواقع، يمكن للرأي العام البريطاني أن يكون سلاحًا حاسمًا لإرغام الإمبرياليين البريطانيين الذين مازجت عروقهم الإمبريالية على مغادرة الهند".
في مواجهته إذن للاستعمار البريطاني وفي سبيل تحقيق الاستقلال دعا المهاتما غاندي إلى مختلف أشكال العصيان المدني، مثل عدم دفع الضرائب التي هي بمثابة حرمان الدولة من الإيرادات اللازمة، وتقويض سيادة القانون، بالإضافة إلى مختلف أشكال المقاومة المدنية، والتي تتدرَّج سمة الإكراه فيها من المقاطعة التي تطغى عليها الصبغة السياسية أكثر، والتي تستهدف السلع التي ينتجها بلد آخر إلى الاعتصام غير العدواني في الدرجة الأدنى.

غاندي والقضية الفلسطينية

رفض غاندي العقائد الإيديولوجية التي يقوم عليها الاستعمار الصهيوني لفلسطين، ولم يقبل أن يكون لليهود حق إنجيلي في هذا البلد، وبدلًا من ذلك نصحهم بالحصول على حقوقهم في البلدان التي يقيمون بها. وإذا قرَّر اليهود الذهاب إلى فلسطين، فينبغي أن يكون ذلك بموافقة السكان الأصليين، وإلا فإنهم يتقاسمون مع البريطانيين نهب شعب لم يُسئ إليهم في شيء. وكان غاندي في أواخر حياته على ما يبدو أَكثر انتقادًا لتطلُّع اليهود إلى الاستيطان في فلسطين، مستنكراً سعيهم إلى فرض أنفسهم على هذا القطر العربي بمساعدة أميركا وبريطانيا في بداية الأمر، ومستعينين بالإرهاب والقتل والتشريد في السنوات اللاحقة.

وحدة المسلمين والهندوس هي مستقبل الهند

رأى غاندي أن مشكلة الهند ليست في الاستعمار البريطاني بل ترجع في حقيقة الأمر إلى ضعف الإيمان وضعف الخلق فاضطر إلى اعتزال السياسة بضع سنوات حتى تتطهر الهند نفسياً وخلقياً مما يمهد لتطهيرها سياسياً من الاستعمار. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا ظلت الهند كلها وحدة واحدة، ولهذا فإن كل جهود غاندي كانت تتجه إلى منعطف واحد هو العمل على استمرار وحدة الهند وعدم السماح لأي فجوة في العلاقة بين المسلمين والهندوس، وقال إن في مقدمة أسباب الشقاق هم الهندوس أنفسهم الذين يضايقهم ذبح بقرة بأيدي المسلمين، فليس هناك فائدة من وراء هذا التصلب في المواقف.

لقد واجه غاندي في سبيل وحدة الهند الأرثوذكسية الهندوسية وأنكر الولاء غير المشروط للسلطة الروحية، وقال بحقه في إعادة تفسير النصوص الدينية بما يخدم السلم والتعايش في ضوء العقلانية والأخلاقية والفطرة السليمة. ولا يخلو من أهمية أن غاندي أبرز أهم مقومات الهندوسية التي تعطي الأولوية لرأي الفرد ووعيه في جانب، وللتعايش والتسامح في العلاقات مع أتباع الأديان الأخرى في الجانب الآخر. ومنذ أن قام بدراسة مقارنة الأديان أثناء إقامته في جنوب إفريقيا ما زال غاندي معجباً بالوحدة بين الأديان، حتى إنه اعتبر الوقت الذي كان يمكن فيه لأتباع دين أن يقفوا ويقولوا إن ديننا هو الدين الحقيقي الوحيد وأن غيره من الأديان زائف قد مضى وانقضى.

لقد كان غاندي يؤمن بوحدة الناس كافة بغض النظر عن طبقاتهم أو ألوانهم أو عقائدهم أو جنسهم أو أي فارق يمكن أن نحدثه، والذين عاشوا معه –كما ذكر الكاتب- يعرفون أن أدعيته صباح مساء كانت تتضمن تراتيل وردت في الكتب المقدسة للهندوس والمسلمين والنصارى والديانات الأخرى، وكان يعتقد بإخلاص بأنه من واجب الهنود أن يتعلموا احترام وتقدير الخلافات المتواجدة في المجتمع.

في الختام يمكن أن نقول إن المهاتما غاندي كان قائداً عظيماً للشعب الهندي ستبقى حياته وآثاره منارة رشد للأبد، فقد كرس حياته للمثل التي ظل يتابعها باطراد، في مقدمتها المقاومة السلمية اللاعنفية التي تحتاج إلى ضبط النفس والتحكم بالذات والصبر وقوة الاحتمال وعدم رد العنف بمثله، وفي هذا يقول: "إني سأجتهد لجعل الهند بلداً تشعر فيه الجماهير الفقيرة بأنه بلدها، حيث يوجد لها صوت مسموع، بلد بدون صفوة ومفلس، بلد تعيش فيه كافة الشرائح بالوحدة والحب، بلد لا مجال فيه للطائفية والتفرقة والعنف".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها