ميكروسوسيولوجيا المعرفة؟!

د. حمو موسوت

إنّ المعرفةَ تضطلع بدور مهم جدّاً في الأعمال الحضارية التي تقوم عليها البنى الاجتماعية والجزئية، سواء تعلق الأمر بالجماهير أو الجماعيّات الكبيرة، أو الطوائف بشتى أصنافها. في هذه المساهمة يقربنا جورج غورفيتش Georges Gurvitch من ميكروسوسيولوجيا المعرفة انطلاقاً من كتابه "الأطر الاجتماعية للمعرفة".

 

الجماهير كأطر اجتماعية للمعرفة

إن الجماهير كأطر اجتماعية للمعرفة يمكن رصدها بشكل خاص عندما تتجسّد في الطبقات الاجتماعية وفي المجتمعات الشمولية، أو على الأقل في جماعات واسعة النطاق مثل: الدولة، الكنيسة، الأحزاب السياسية، النقابات. ويمكن رصدها بشكل أقل عندما تتجسد في الأسر، في الجماعات المحلية، وفي المصانع.
وبالترابط مع الجماهير تتأكد في المقام الأول المعرفة الإدراكية للعالم الخارجي من جهة، والمعرفة السياسية من جهة ثانية. ويمكن أحياناً لحظُ المعرفة العلمية والتقنية فيها، لكن في مستوى منخفض من الشيوع والتعميم. أما أنواع المعرفة الأخرى فهي بكل وضوح غير مشجّعة لا سيما المعرفة الفلسفية، وكذلك معرفة الآخر، وحتى معرفة الحس السليم. وإذا لوحظ حضورها أحياناً في الجماهير فذلك يتم أساساً من خلال المعرفة السياسية.
فالمعرفة الإدراكية للعالم الخارجي بالنسبة إلى الجماهير السلبية يقع العالم الخارجي المعلوم في ميادين غيرية وأنويّة، شائعة غالباً، محدودة أحياناً بصلاحية النماذج الرائجة في الأطر الاجتماعية التي تندمج الجماهير فيها. ومثال ذلك أن جمهور العاطلين عن العمل يضع العالم الخارجي في ميادين متصلة بأكثر الحاجات إلحاحاً: البحث عن العمل، النجدة، الجوع المهدِّد.
إن جمهرة الناس الذين يتكلمون ويكتبون اللغة نفسها خارج الحدود القومية، يقسّمون العالم الخارجي حسب صلاحية نماذج اللغة التي هي لغتهم. ومن جهة ثانية، إن العالم الذي تعرفه الجماهير السلبية يقع في الزمن الشائع وغير المنتظم. ذي التقلبات غير المتوقعة، والنازع مع ذلك إلى الزمن البعيد الأمد أو المتأخر عن ذاته أو أيضاً وبشكل نادر المراوح مكانه، أي الدوري.
هذا الوضع يتغير تغيراً كبيراً عندما تصبح الجماهير فاعلة. وعندئذ تكون معرفتها متجهة بقوة وفقاً لعملها لنفاد صبرها ولمبادراتها. هذا هو حال جماهير المستائين، الجماهير الثورية، عندها يبدأ الزمان وبالأخص يبدأ المستقبل وانقطاع التعاقب بالهيمنة على الميادين التي يقع فيها العالم الخارجي. في هذه المعرفة للجماهير يمكن "للزمن المتقدم على نفسه" أن يسود، الأمر الذي يؤدي إلى تشطير العالم الخارجي إلى مناطق معادية أو صديقة، مؤاتية أو غير مؤاتية لهذا الزمن.
أما أشكال المعرفة، فإن معرفة الجماهير للعالم الخارجي تشجع الأشكال الرمزية، النظرية والجماعية. وعندما تصبح الجماهير فاعلة يحل الشكل المدركي للمعرفة محل الشكل التجريبي.
وكسيمة أخيرة للجماهير الفاعلة بوصفها إطارات اجتماعية للمعرفة السياسية: سمة نزوعها إلى فرضها على كل نوع معرفي آخر. هكذا تتحول معرفة الآخر ونحن معرفة للمتخاصمين والمتحالفين، وتنقلب المعرفة الإدراكية للعالم الخارجي إلى استقصاء لحقول منصوبة مقابل بعضها البعض. كذلك فإن التسيس يطول معرفة السليم، المعرفة التقنية والمعرفة العلمية عندما تستند إلى الجماهير الفاعلة كإطارات مرجعية. بيد أنه لا يجوز النسيان بأن نزعة هذه الجماهير يمكن تعديلها جذرياً وذلك من خلال الجماعات، الطبقات والمجتمعات، سواء اندمجت فيها أم تجسدت؛ كذلك من الممكن موازنتها بالتجليات الأخرى للجماعات: الجماعيات: الجماعيات والمتحدّات.

الجماعيّات كأطر اجتماعية للمعرفة

تتميز الجماعيات، سواء عن الجماهير أم عن المتحدّات، بكونها مؤاتية للمعرفة بشكل خاص، ربما يكون هذا السبب هو الذي جعل بعض علماء الاجتماع، ومنهم الشخصانيون الفرنسيون يعتقدون إنه بالإمكان عزو قيمة للجماعيات أكبر مما يُعزى للجماهير والمتحدّات. لكن من البين أن معيار المعرفة ليس هو الوحيد، ويبقى مع الممتنع إقامة هرميّة مجرّدة وقبلية بين الجمهور، والجماعية والمتحدّ. كذلك يتوقف الأمر كله على البنى الماكرواجتماعية، حيث تتحد الجماعيات مثلما يتوقف على مضامينها المعرفية، الأخلافية، الجمالية.
إن الجماعيات هي التجليات الأكثر اتزاناً، وبذلك الأشد ديمومة في الإفصاح عن الجماعية؛ فهي التي تتجسد عادة وبشكل مألوف داخل الجماعات والطبقات والمجتمعات الشمولية. لهذا، إذا وضعنا جانب كل شرط آخر، فإنها تنزع إلى تشجيع المسالك المنتظمة والأدوار شبه الجاهزة والمقولبة التي تؤديها النماذج والإشارات والرموز. وفي معظم الأحوال، يخلق هذا الأمر هالة من العقلانية حول الجماعيات، وجواً مؤاتياً لكل أنواع المعرفة، ربما باستثناء المعرفة الفلسفية. وهذه عندما ترتدي طابع مدرسة أو تيار فلسفي، تكون أوفر حظاً في المتحدّ منها في الجماعية. وليس الأمر كذلك بخصوص الأنواع المعرفية الأخرى، لا سيما المعرفة الإدراكية للعالم الخارجي، ومعرفة الآخر، ومعرفة الحس السليم، والمعرفة السياسية والمعرفة التقنية. لكن العالم وحده يشهد ميلاد فِرَق العلماء والباحثين، المتحدّرة من الجماعات مباشرة.
وفيما يخصُّ المعرفة الإدراكية للعالم الخارجي، تعتبر الجماعيات أظهر من سواها بكثير. ففي هذه المعرفة تبرز الميادين المستقبلية المقترنة بالميادين الإبرازية بروزاً شديداً، في حين أن الميادين الغيرية والأنوية تتلاشى؛ لأنها تنبسط وتنقبض دون صعوبة حين تفقد طابعها المركزي.
فالعالم الخارجي موضوع في زمن متواصل حيث ينزع إلى التوازن الحاضر، الماضي والمستقبل، التقدم والتأخر. لهذا فإن الزمان والمكان يتقبلان، في معرفة العالم الخارجي التي تكون الجماعيّات مواطنَ لها، لصياغات المدركية وتطبيق المعايير، وحتى التكميم، إذ كل هذه العناصر صادرة إما عن جماعات واسعة النطاق (الكنائس، الدول)، أو عن مجتمعات شاملة حيث تكون الجماعيات مندمجة وتثير هذه النزعة. هكذا نستطيع الملاحظة أنه في صميم المجتمعات التي سادتها الجماعيات: المدن- الدول القديمة، المدن الحرة في القرون الوسطى، مجتمعات النهضة، المجتمعات المتوافقة مع الرأسمالية التنافسية، كانت المعرفة الإدراكية للعالم الخارجي تحظى بتشجيع ملحوظ وارتدت طابعاً عقلانياً متناسباً يوازن بين التنظيري والوضعي.
وتشغل معرفة الآخر، هي أيضاً، مكانة متميزة في الجماعيّات؛ فلا مناص أيضاً من إيضاح ما نعنيه بالآخر في الجماعات والمجتمعات الشاملة حيث تتجسّد الجماعيات. فإذا اكتفينا بمثلنا، يكون الآخر في المدن القديمة هو المواطن وليس "الدخيل"، ولا حتى العبد. وحتى الآن لم تلعب معرفة لآخر دوراً كبيراً إلا في المجتمعات ذات النمط الإقطاعي والأبوي. وعليه، كانت الأنماط الأخرى في المجتمعات الشاملة قد حرّفت باستمرار اتجاه الجماعيات لتشجيع هذا النوع من المعرفة. ومما لا شك فيه أن الأمر سيتغير في مجتمع جماعي لا مركزي قائم على التسيير الذاتي العمالي.

أخيراً، يمكننا القول إنه بدون معرفة فلا يمكن الحديث عن الحضارة والأعمال الحضارية، فالمعارف أساس التقدم والإصلاح الشامل، إذ بالمعرفة التقنية والفلسفية والفكرية والسياسية والاجتماعية يمكننا أن نبني المستقبل المنشود.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها