التعامل مع الفنون لتعزيز التعايش

مصطفى أمخشون


 

الفنانون يمكن أن يعملوا كوسطاء في المجتمعات المنقسمة حيث يتسبب العنف في تعطيل قدرات الناس على الإصغاء، يمكن للفنانين استخدام وسائل التقبّل من أجل تسهيل عمليات التعبير ورأب الصّدع، والتفاهم المتبادل -يقظ ولكن هادئ، عاطفي ولكن واع- هذه هي الصفات الحاضرة، التي يمكنها مساعدة الناس على وضع تجاربهم في كلمات. كذلك يمكن للفنانين الذين يصغون إلى أحاديث الناس عن جراحهم التي سببها العنف، أن يبدأوا بمساعدة الضحية على استعادة قدرتها وإرادتها في الإصغاء إلى أحاديث وتجارب الآخرين. هكذا بدأت سينثيا كوهين مديرة التعايش والتعاون الدولي، حديثها عن الفن وتعزيز التعايش ضمن كتاب جماعي يحمل عنوان "تخيَل التعايش معاً".



الطقوس

ترى كوهين ضمن إطار من الرموز التقليدية، يمر المشاركون في الطقوس بلحظات يتحررون فيها من المطالب المعيارية للنصوص الثقافية، وينعمون ببعض الحرية المرافقة لتمثيلية معينة. وكما يقول كليفورد غيرتز، تتيح الطقوس المجال باندماج الأنظمة التي نحلم بها ونعيش بها.

ففي أوسط مجتمع التاميل بسيريلانكا، تذكر كوهين أن الطقوس تعتبر محل تركيز العمل الهادف لمساعدة الناس، الذي عانوا من ضرر العنف والتهجير على تطوير أو إعادة اكتساب قدرات الاتصال من أجل المشاركة في رواية قصصهم والدخول في حوار مع نظرائهم السينهاليين. تقول كوهين: "ويستخدم أحد الزملاء التاميل من سيريلانكا الذي يعمل كطبال ومعالج ومحاضر في المسرح بجامعة جافنا، وسائل الطقوس والمسرح للعمل مع مجتمع التاميل في الجزء الشمالي من البلاد، من أجل مساعدة أفراده على نفض جراحهم وتجهيزهم للتعبير عن أنفسهم وللإصغاء إلى أعدائهم".

هذا المثل الذي يقدّمه هذا الرجل حسب سينثيا يعتبر عملاً إرشادياً لعدة أسباب: فالعمل الذي يقوم به يعتمد على التكيف مع شكل تعبيري، وهذه الطقوس موجودة في أصول المنطقة ومألوفة لدى جميع الأطراف المشاركة. ويوضح مدى قوة إدخال الأشكال التعبيرية في جهود التعايش، وهي أشكال عاشت وتعيش داخل المجتمعات المتنازعة. كذلك يضم هذا العمل وبشكل استثنائي تقريباً أناساً من مجتمع واحد فقط من بين المجتمعات المنخرطة في النزاع. وغالباً ما يكون التحضير لتبادل الاتصالات بين المجتمعات –وخاصة عندما يتطلب درجة من رأب الصّدع أو المعالجة من الأذى- أفضل إنجازاً من ضمن حلقات تضم مجموعة واحدة أو مجتمعاً واحداً.

إن الطقوس ضمن هذ المثل قد صممت لمساعدة المشاركين على قهر الأذى، الذي سببه العنف والتهجير من خلال إدراك مشاعرهم والتعبير عنها. وكلما دعم الناس بعضهم البعض من أجل تمثيل أكثر الصور التي ترعبهم، كلما نشأ بينهم مجتمع يقوم على علاقات ثقة. ونتيجة للعمل عبر المشاعر، والتجربة المشتركة في هذه الطقوس والدعم الذي يتلقاه الناس من بعضهم البعض، يستطيع المشاركون تطوير قدرات التعبير والإصغاء التي سيحتاجون إليها من أجل المشاركة في حوارات التعايش.

ولبيان فعالية هذا الأمر، تخبرنا سينثيا بما حكاه لها زميلها كانداسامي سيثامباراناثان: "في أوائل التسعينات من القرن العشرين، أقامت مجموعتنا المسرحية عمل ورشات في إحدى القرى الفلاحية الداخلية. لم نكن متأكدين من مدى فعالية هذه الورشات ولكن عندما بدأنا بها بدأ الناس في المقابل يبكون ويعبرون عن مشاعرهم. وفي النهاية قالوا لنا بأنهم وجدوا حياة مختلفة هنا. وقد عشنا تجرية علاقات حميمة مع هؤلاء الناس. وأدركت مجموعتنا المسرحية أن هؤلاء الناس أنفسهم يمتلكون طاقة داخلية ومشاعر مكبوتة، لذلك ومنذ ذلك الحين لم نعد نستخدم مهاراتنا المسرحية من أجل أداء مسرحيات دعائية بل قمنا بدلا من ذلك بتهيئة طقوس مكّنت الناس من التعبير عن مشاعرهم وهكذا تمكّنا من بناء مواردنا الإنسانية". فمن خلال الطقوس يمكن التخفيف من الضغوط بل وتحسين العلاقات بين الناس رغم اختلافاتهم ورغم الماضي الأليم.

الفولكلور والفنون الشعبية التقليدية

تذكر سينثيا أن العديد من مشاريع التعايش تعتمد على الفنون الشعبية وغيرها من أشكال التعبير الليبرالية. وتعتبر تقوية العلاقات بين الفئات عبر الفنون الشعبية مسألة منطقية لعدة أسباب: فحتى عندما تكون الموارد المادية شحيحة، تبقى للناس أغانيهم الشعبية، وقصصهم وطرق طبخهم وألعاب أطفالهم، وربما حدائقهم. وهذه الموارد موجودة ضمن المجتمع ويمتلك أفراد المجتمع خبرة فيها. ولعل الفنانين والعاملين في الفنون الشعبية التقليدية يمكنهم إيجاد الطرق لتكريم وتبجيل المعرفة الموجودة داخل المجتمعات، بحيث تدفعهم هذه الطرق إلى تعزيز ثقة الناس في قدراتهم لإعادة بناء حياتهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض. كذلك توجد إمكانية لدى هؤلاء الفنانين لإيجاد فرص للناس من مختلف المجتمعات، لكي يعرفوا ويحترموا بعضهم البعض ومن ثم يبدأوا بتفهم بعضهم البعض، بينما هم يتشاركون في نواحي المعرفة الموجودة داخل مجتمعاتهم، ويعتمدون على ذلك التفهم لتأليف الأغاني وإقامة الألعاب والمناسبات والمهرجانات والمتاحف والمسرحيات.

الموسيقى والأعمال الثقافية

وفقا للفيلسوفة سوزان لانغر، تعتبر الموسيقى نوعاً من التعبير الذي يظهر مكنونات المشاعر الإنسانية. وما علينا إلا أن نراقب برنامجاً تلفزيونياً أو فيلماً سينمائياً دون تشغيل جهاز الصوت، لكي ندرك مدى قوة استخدام الموسيقى في نقل التأثيرات العاطفية للتفاعل الإنساني أو للمشاعر الداخلية.

وبالنسبة لـ سينثيا فالموسيقى هي الشكل الفني الذي يحمل معه إدراكاً أكبر للتناغم والتوازن والإيقاع. فعندما تظهر العناصر ضمن علاقة انسجام مع بعضها البعض، نستطيع إدراك الوحدة ضمن الاختلاف. تماماً مثلما يمكن استخدام التعبير الموسيقي لتحريك الجماهير نحو خدمة المصالح الوطنية ونحو الاستعداد العسكري، كذلك يمكن للموسيقى أن تكشف الإجماع وسط الفروقات وأن تعبر عنه. وعندما تعمل مجموعات متعادية من الناس –أعداء سابقون من الناس- مع الفنانين والموسيقيين من أجل تأليف أغان تنقل صوت طموحاتهم المشتركة، فإن عملية إصدار وتصنيع الأغنية بحد ذاتها تحمل في مضمونها تجربة للوحدة التي يمكن تصورها وسط الاختلافات، حتى قبل إدراك هذه الوحدة من قبل السياسيين أو المؤسسات.

إحدى المربيات اللواتي يعتمدن على القدرة التعليمية المتضمنة في التعابير الموسيقية هي جين ساب، أمريكية من أصل إفريقي تعمل في المجالات الثقافية، وتعمل محاضرة فنية زائرة في المركز العالمي للأخلاق والعدالة والحياة العامة التابع لجامعة برانديس. وقد تلقت جين ساب تعليمها كموسيقية وكفنانة شعبية تعمل على تقوية المجتمعات، من خلال مساعدة مجموعات من الناس على إدراك معرفتهم المشتركة واستخدامها كمصدر قوة لإيجاد مستقبل لهم معا.

وتشير جين ساب -فيما تذكر لنا سينثيا- إلى تفاعلها مع المجتمعات على أساس أنه عمل حضاري وتصوره على الشكل التالي: "يرتكز عملنا على ما يمتلك المجتمع وليس على ما لا يمتلكه. فالناس يمتلكون أغانيهم وقصصهم وتواريخهم وأساليب طبخهم وطرق تعايشهم معا، وقد انطوى عملي على الجمع بين هذه الطرق التي يُشكل فيها الناس حياتهم مع بعضهم البعض، واستخدامها كمرآة تعكس ذلك، بحيث يمكن للناس من خلال النظر إلى هذه المرآة أن ينظروا إلى أنفسهم ويقولوا: هذه هي الطريقة التي أوجدناها لكن معا. هل يمكننا الاستمرار بها اليوم؟ هل يمكننا أن نبقى متشاركين في حياتنا بنشاط؟ يستطيع الناس معرفة أخذ هذه المعلومات وإدراك أهميتها في بناء لبنات المستقبل والتغيير".

وتوصلت جين ساب من خلال ذلك إلى أنه من خلال العمل في "مجال العلاقات وتشارك المعلومات بشكل منفتح وفي مكان آمن، تجد الناس يلتقون عند نقطة ما. ورغم الفروقات في الإرث وفي التجربة، يجد الناس في بعضهم البعض إنسانية مشتركة وإرادة مشتركة. وعندما تستمع إلى تلك الأغنية تكتشف تلك الإرادة الجماعية والرؤية الجماعية اللتين تأتي بهما الإنسانية المشتركة".

الدراما

تكمن إحدى أهم القدرات المطلوبة لإنجاز التعايش والمصالحة في القدرة على تخيّل تجارب الآخرين وبشكل خاص التعاطف مع معاناة العدو. تقول سينثيا: إنه يمكن استخدام الدراما (والأدب) بشكل حذق لمساعدتنا على فهم أنفسنا وفهم أعدائنا، والحقيقة الكامنة وراء تبادل اعتمادنا على بعضنا البعض، جزئيا بسبب المساحة العاطفية التي تتواجد نتيجة لإدراكنا، أننا نشاهد عرضاً لأحداث وليست أحداثا حقيقية بذاتها. مثل هذه المساحة، يمكن إيجادها عندما نعي وضعا ظهر بعد تراجعنا عن مصالحنا وأهدافنا الشخصية. ويمكن للفنانين استخدام هذه المساحة لمساعدتنا على فهم الأشياء التي كنا نقاوم فهمها، وعلى استيعابها بالطرق التي تؤدي إلى القيام بتحرك أخلاقي.

وتذكر سينثيا أن شبكة المسرح الاستماعي الدولي، هي منظمة تستخدم موارد المسرح من أجل تعزيز التفاهم والعمل المجتمعي والتعايش. حيث تصف ليزلي إلين وهي مساعدة برامج تعمل مع مبادرة التعايش في جامعة برانديس، ورشة عمل للمنظمة عُقدت للبحث عن أرضية مشتركة:

"كانت مجموعتنا مؤلفة من ما يقارب الخمسين فرداً، يعملون جميعاً على حلّ النزاعات وإقامة التعايش. وقد جاؤوا من جميع أنحاء العالم، من بروندي، وأنغولا، وليبريا، وسيراليون، ومقدونيا وأوكرانيا، والشرق الأوسط، والولايات المتحدة. أما فرقة المسرح فكانت تتألف من خمسة ممثلين. وكان هؤلاء يسألون إذا كان لدى أحدهم قصة يشاركهم فيها. وكان هناك شاب من بوروندي يعمل في مسائل التعايش والمصالحة مع الشباب في بوجومبورا، وقد رفع هذا الشاب يده ثم جاء وجلس في مقعد الراوي إلى جانب أحد الممثلين وعندها سأل الممثل: كيف تبدأ قصتك؟

تقول ليزلي إلين: أخبرنا الشاب عن العمل الذي قام به لإقامة السلام والمصالحة في بلاده. تحدث عن طبيعة العلاقات الهشّة والضعيفة التي كانت قائمة بين قبائل الهوتو والتوتسي. أخبرنا عن ذلك اليوم الذي انتشرت فيه إشاعات عن إحراق سوق بوجومبورا، وكيف أن هذا العمل تم بموجب دوافع عرقية مما رفع من احتمال نشوب نزاع في المنطقة. أخبرنا أيضاً كيف أنه أراد التأكد من ذلك بنفسه لأنه كان يخشى أن تنهار كل الجهود المضنية التي بذلها أمام عينيه. وكيف أنه عندما وصل إلى هناك كان السوق يشتعل. وكيف اتصلت به أمه على الهاتف النقال وهي تبكي وتقول: السوق يحترق، السوق يحترق عُد إلى المنزل، سوف تقع اضطرابات.

إلا أنه كان مصمماً على معرفة حقيقة ما يجري، واكتشف بالنتيجة أن النار قد أُشعلت بدوافع أحقاد عرقية، وأن بعض قطاع الطرق قد أشعلوها ضمن أحداث سياسية معينة. وفوراً بدأ اتصالاته مع أعضاء الشبكة التي كان يعمل معها، والمُؤلَّفة من الهوتو والتوتسي وشيئا فشيئا أخذ ينشر النبأ بأن الهوتو لم يفعلوا ذلك، ولا التوتسي كذلك، وأن الأمر لا يتعدى جريمة عادية. وطلب من كلا الطرفين أن لا يردوا على ما حصل. وبذل قصارى جهده في حالة طوارئ مضطربة لإيقاف خطر الشائعات حول التعصب العرقي.

وفيما كان الشاب يروي قصته، كان الممثل التابع للفرقة المسرحية يصغي بتركيز، ثم عاجله بسؤال واحد: وكيف تنتهي قصتك؟ أجاب الشاب: لم ينقسم فريقي المؤلف من الهوتو والتوتسي. بعد أن أنهى قصته، قام الفريق المسرحي على الفور ودون استشارة بتمثيل القصة، وقد عرض الممثلون القصة وسط مزيج رائع من التحرر والتجريد، وكانت واقعية لدرجة كافية بأن تجعلنا ندرك كل شيء سمعناه –العاطفة، طبقة الصوت، نبرة المتحدث، والأحداث نفسها- استعطنا رؤية العلمية بأكملها، منذ بداية العمل التصالحي إلى وصول الأنباء عن الحريق، ومن ثم إلى البحث المسعور عن الحقيقة، فإلى المكالمة التي تلقاها من أمه التي أصابها الخوف عليه وأخيراً إلى المحاولة الطارئة لكبح تيار الغضب المتصاعد وإيقاف دوامة دائرة العنف قبل أن تبدأ.

لقد كان التمثيل حسب ليزلي إلين يحمل درجة من التجريد قائلة: أنا متأكدة من أن كل من كان في الغرفة شعر بعمق أثر هذه المسرحية، وكان الجزء الأكثر قوة في هذه التجربة هو مشاهدة زميلنا البروندي، وهو يراقب الممثلين بينما هم يصورون قصته. فقد ظل طوال الوقت جالساً على طرف كرسيه وبقيت عيناه مفتوحتين وفمه فاغراً وكأنه مشدوه تماماً. وفي وقت لاحق عندما سألوه رأيه في أدائهم، أحنى رأسه وقال لقد أتقنتم الأمر تماماً.

إن الأمر –تضيف ليزلي إلين- كان مدهشاً، كيف أن هؤلاء الممثلين استطاعوا من خلال الإصغاء أن يرمزوا وأن يعبروا بطريقة فنية عن تجربة هذا الشاب أمام عينيه. استطاعوا أن يمثلوا المشاهد بطريقة تعيد له الشعور بالأذى مرة أخرى، ولم تضع قراراته تحت المساءلة، بل إنها بدلاً من ذلك صادقت على تجربته، وسمحت لنا أن نختبر يوماً في حياة أحد صنّاع السلام في برونداي.

إن هذه الأمثلة تبين كيف يمكن لاستخدام الأشكال والأعمال الفنية، أن يساعد أعضاء المجتمع على تجاوز أقاصيص الضعف والألم والعنف، وعلى تخيل تجارب الآخرين وإيجاد التعابير الإنسانية المشتركة، والبدء بتطوير الأقاصيص والروايات التي تنطوي على خصوصيات ضمن وضع كلي متماسك ومقبول.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها